تمنح الغوغاء حق التصويت وتسمح باستغلال البسطاء سياسياً.. كيف تتحول الديمقراطية إلى شعبوية؟

عدد القراءات
786
عربي بوست
تم النشر: 2020/08/18 الساعة 14:47 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/08/18 الساعة 14:47 بتوقيت غرينتش
بوريس جونسون رئيس وزراء بريطانيا/ رويترز

رغم تأثره بالأفكار التنويرية كالمساواة وحقوق الإنسان، ظل توماس جيفرسون، أحد الأباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكيّة، مقتنعاً أنه لا يمكن تعميم حق الانتخاب بين مواطنين فقراء يمكن شراء أصواتهم، ناهيك عن سهولة التّلاعب بهم. أيضاً، وفي نفس السياق، يعتبر الفيلسوف الفرنسي آلان باديو، أن الانتخابات هي "فخ للحمقى"، ولم يصوّت في أيّ انتخابات منذ شهر مايو/أيار 1968. وكذلك كانت دعوة الفيلسوف الفرنسي الآخر سارتر. قبل كل هؤلاء، كره سقراط الديمقراطية رغم أنها صناعة إغريقية محلية أيضاً مثل الفلسفة.

في المقابل، وكما ارتبطت الديمقراطية في الأذهان بمعبد البارثينون في أثينا، ارتبطت أيضاً بالازدهار والعمران والرفاه الاقتصادي في الدول الغربية. مما يحيل ضمنياً للصورة النمطية للمجتمعات "الوردية" في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، مهد الليبرالية الحديثة، حيث تعتبر الديمقراطية صمام الأمان للحريات والحقوق، على الأقل كما يدعي منظروها.

وبين الروايتين، تنجح تلك المنظومة نجاحاً باهراً في بلدان بينما تفشل فشل ذريعاً وتتحول إلى "غوغائية – demagoguery" في بلدان أخرى ويصير الحلم كابوساً.

تتلوّن الديمقراطية وتظهر بوجوه عدة في كل مرة مما يجعل الجدل قائماً دائماً حولها، وإن روجت الماكينة الإعلامية الغربية العكس، حول جدوى هذه المنظومة وحدودها.

في ظل كل تلك الآراء والقناعات، تتوارد للذهن كثير من الأسئلة: هل يمكن عقلنة وترشيد وضبط العملية الديمقراطيّة حتى لا تتحول إلى الغوغائية وتفرز نظماً شعبوية؟ وإن كان ذلك ممكناً، ما هو السبيل؟

لعبة لاعقلانية بامتياز

من عاش سنة 1938، كان أمامه سرديّتان بنكهتين مختلفتين للديمقراطيّة: نكهة شيوعية عمالية في روسيا ورفاقها، ونكهة أخرى ليبرالية محافظة في الولايات المتحدة وحلفائها. وفي المقابل، توجد سردية لحكم شمولي منبثقة من رماد الديمقراطية في ألمانيا. لاحقاً، سنة 1945، تبقى فقط قبلتان بعدما دحرت النازية على إثر تجاذب مغناطيسي بين القطبين الآخرين. وأخيراً سنة 1991، لم يتبق إلا الليبرالية في نسختها الجديدة، وهو ما أدى بعد ذلك إلى إقرار الديمقراطية بشكلها الحالي: الديمقراطية الليبرالية كتعريف كوني شامل للديمقراطية.

فما هو هذا التعريف وعلى ماذا يرتكز أساساً؟ وهل هذا التعريف هو السائد في كل النسخ في العالم؟

ولكن قبل ذلك، ما مدى صحة التصور الليبرالي للديمقراطية؟

عندما احتاجت بريطانيا للاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي، لم يسأل ديفيد كاميرون الناخبين عن "ما يعتقدون بخصوص البريكسيت؟"، بل كان السؤال هو "عمّا يشعرون تجاهه؟" (لاحظ الفرق بين الشعور والاعتقاد). الديمقراطية في شكلها الليبرالي لا تتعلق بمدى عقلانية اتخاذ القرار، بل حول مشاعر الناس تجاه موضوع التصويت. لو كان يتعلق الأمر بالعقلانية لما أعطي للناس جميعاً نفس الوزن الانتخابي لتباينهم الاقتصادي والثقافي والمعرفي.

يرفض عالم البيولوجيا الشهير "ريتشارد دوكنز" سؤال البريطانيين، وهو من ضمنهم، عن موقفهم من البريكسيت لعدم إلمامهم بكل الحيثيات والتبعات الاقتصادية والسياسية للموضوع. بل شبه القضيّة بسؤال عامة الناس: "هل نال أينشتاين حقه في علم الجبر؟"، أو "أن يسأل الركاب عن مدار الطيران الذي يفترض للطيار التحليق فيه؟". إذن المعضلة أن الديمقراطية الليبرالية تقوم على اكتساب حق الانتخاب بالولادة لكل الناس وقيامها وصلتها بمشاعر الناخبين.

هكذا هي الديمقراطية في ثوبها الحديث، نظام قائم على المشاعر والتي يسهل التلاعب بها وتطويعها. لذلك سعت النخب الغربية إلى اعتماد أفكار أبي الرأسمالية الحديثة "آدم سميث"، كما وردت في كتابه "ثروة الأمم"، خاصة فيما يتعلق بـ"تعليم المستهلك" والارتقاء بذوقه بناء على شخصيته وهويته. والدعاية لاحترام مؤسسات الديمقراطية. 

ثقافة الانتخاب والوعي بالمسؤولية

إن الممارسة الديمقراطية مرتبطة بالثقافة والخصوصية الثقافيّة لكل بلد وهو الأمر الذي يقودنا وجوباً إلى ما يمكن تسميته بـ"الديموقراطية الخاصة". حيث إن التوجه الثقافي لبلد ما يسع لتطويع ممارسات شعبه وثقافته. يمكن رؤية ذلك في المثال الفرنسي، حيث يمنع الدستور الأحزاب ذات المرجعية الدينية حفاظا على لائكية الدولة. بينما يبيح الدستور الألماني ذلك، في حين يجرّم الأحزاب التي ترمي إلى تميز الذوات العرقية الألمانية على غرار النازية.. والأمثلة عديدة حيث تتحدد الأحزاب المكونة للمشهد الديمقراطي حسب الخصوصية الثقافية للبلد.

وجوهر الديمقراطية هو الانتخابات. وحصيلة هذه العملية هي من تحدد هل ستبقى الديمقراطيّة فعالة أم ستتحول على الغوغائية. وهو ما يحيلنا إلى ثقافة "الانتخاب" وأهميتها في العملية.

يرى سقراط أن الانتخاب هو تقنية يجب تعلمها واستحقاقها لا ملكة تكتسب بالفطرة. من قواعد اللعبة السياسية "الديمقراطية" الحملات الانتخابية التي يتبارى فيها الخصوم السياسيون على استمالة قلوب الناخبين للظفر بأصواتهم. ومن هنا، يتفنن رواد الدعاية والبروباغندا في الترويج للمرشحين كمنقذين من السماء لهم عصا سحرية. ناهيك عن التبجح أن ليس لهؤلاء المترِشحين أي مآرب شخصية وما هم بأوصياء على هذا الشعب. بل إن مشاركتهم في الانتخابات ليست إلا تنازلاً منهم لمصلحة البلاد. 

مثل تلك الشعارات تثير شعوباً عاطفية "غرّة في الديمقراطية"، فتستجيب للأفكار الطوباوية التي تصور كأنها حلول سحرية آنية. ولقد وقعت شعوب عديدة في ذلك الفخ المآزق، وهي ممن يعتبرون الآن من "من أعتى الديمقراطيات". والحال أن تلك الشعوب تعلمت عبر تجاربها أن لا تنتخب بعاطفتها وأن تستخدم عقولها. فهل يجب على الديمقراطيات الناشئة المرور بالتجارب الفاشلة وحكم الغوغاء حتى تبلغ الرشد السّياسي والوعي الانتخابي اللازمين للمحافظة على مكاسبها؟

 في الحقيقة، أرى أن التّعليم ونشر ثقافة الانتخاب هما السبيل الوحيد للارتقاء في سلم الحياة السياسية التعددية وإلا فخطر تحول الديمقراطيات إلى جمهوريات دكتاتورية يبقى دوماً قائماً. وما الرؤساء العرب المخلوعون في ثورات العربية إلا رؤساء "منتخبين".

عكس بقية الغنائم من الديمقراطية فإن الناخبين لهم ذوات مستقلة يجب عقلنتها عبر تدريس الديمقراطية والانتخاب والدعاية، وتكريس ثقافة المحاسبة وسحب الثقة. حتى لا يعود الفاشلون للسلطة عبر إعادة إنتاج أنفسهم وهيمنتهم كما نظّر لذلك عالم الاجتماع الفرنسي "بيار بورديو".

أخيراً، إن الديمقراطية الفتية، كالحال في تونس والعراق ولبنان، لا تلبث أن تتحول إلى غوغائية حين تفقد الديمقراطية معانيها، فيصير الانتخاب اصطفافاً أيديولوجياً كالحال في تونس، أو طائفياً كما في العراق، أو دينياً كما هو الحال في لبنان. وتتحول بذلك الخصومة إلى عداء ينتج زعماء ورقيين وينطلق الزعيق الجماعي حتى تصبح الساحة السياسية أشبه بـ"مزرعة الحيوان" التي وصفها الكاتب جورج أورويل في كتابه.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
هيثم المدّوري
مهتم بالأدب والفلسفة والتاريخ
مهندس تونسي، درستُ هندسة الميكاترونيك وأعمل حالياً مع شركة ألمانية متخصصة في صناعة كوابل السيارات، لديَّ اهتمام بالأدب والفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع. أقرأ لنيتشه وهشام جعيط، ومحمد عابد الجابري، وبيير بورديو، وجورج باتاي، وجيل دولوز، وأخيراً: البشير خريف. أكتب المقالة السياسية والثقافية، وأقوم بمراجعات للكتب، كما أحضر بانتظام في الندوات الثقافية والمحاضرات.
تحميل المزيد