انفجار بيروت والاقتصاد اللبناني المأزوم.. المصائب لا تأتي فرادى

عدد القراءات
1,043
عربي بوست
تم النشر: 2020/08/06 الساعة 10:13 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/08/06 الساعة 10:13 بتوقيت غرينتش
social media\ مصائب 2020

عندما وقف الكاتب المسرحي الشهير وليام شكسبير قبل أكثر من 400 سنة قائلاً إن "المصائب أو البلايا لا تأتي فرادى كالجواسيس، بل سرايا كالجيش"، لم يتخيل المواطن اللبناني، ومعه حكومته، أن هذه المقولة ستكون لسان حاله في القرن الواحد والعشرين، وأن المصائب باتت "ترفّ" على رأسه من كل حدب وصوب، وأنها لا تقف فقط عند أزمة مالية واقتصادية طاحنة، ولا عند انهيار في قيمة العملة الوطنية، ولا عند سطو النخب الحاكمة على مليارات الدولارات من خزانة الدولة وتحويلها إلى أرصدتهم وحساباتهم المصرفية في بنوك سويسرا وفرنسا وأوروبا وغيرها، ولا عند تعثر الدولة عن سداد ديونها الخارجية، ولا عن عضّ الجوع بطون ملايين المواطنين الخاوية.

بل جاءت المصائب هذه المرة من باب تفجيرات مهولة حولت العاصمة بيروت إلى منطقة منكوبة متشحة بالسواد والحرائق ومسكونة بالخوف والقلق على المستقبل، عاصمة مملوءة بجثث عشرات القتلى وآلاف الجرحى، يغطيها الخراب والدمار الذي طال كل شيء، مثل تسوية مرفأ بيروت الاستراتيجي بالأرض وتحويله إلى كومة تراب، وهو المبني الذي يتم من خلاله استقبال أكثر من 70% من واردات البلاد ويعد أكبر مخزن للأغذية والقمح والسلع، دمار لحق بالمباني ومقار الشركات والمؤسسات الحكومية والخاصة وفنادق وشبكات الكهرباء والاتصالات والطرق، والأخطر تسببه في حالة ذعر وقلق شديدين رسمت مئات من علامات الاستفهام حول مستقبل هذا البلد على وجوه كل اللبنانيين.

ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فإنه بوقوع انفجار مرفأ بيروت يوم الثلاثاء 4 أغسطس 2020، أو ما يطلق عليه "قنبلة هيروشيما لبنان"، يكون الاقتصاد اللبناني قد تعرض لعدة ضربات عنيفة في توقيت واحد، وصدمة اقتصادية واجتماعية وسياسية غير مسبوقة، وبذلك يكون الاقتصاد قد دخل مرحلة جديدة وحرجة غامضة وبالغة التعقيد، مرحلة عنوانها العريض هو موت ذلك الاقتصاد المأزوم أصلاً إكلينيكياً أو سريرياً، ودخول مؤشرات الاقتصاد المختلفة غرفة الإنعاش، والأخطر حدوث مزيد من تدهور حال المواطن المعيشي وتراجع ملحوظ في الدخول.

زيادة معدلات الفقر والبطالة

من هذا العنوان العريض للاقتصاد اللبناني المأزوم تتفرع عناوين فرعية أخرى من تبعات انفجار بيروت المروع الذي لم تشهد البلاد مثيله منذ انتهاء الحرب الأهلية التي دارت بين عامي 1975 و1990 منها انهيار متوقع، واسع وسريع، في الطبقة الوسطى في لبنان، زيادة معدلات البطالة لمستويات قياسية، توديع شريحة من رجال الأعمال والمستثمرين مرحلة الرفاه التي عرفوها في بعض السنوات، استمرار تهاوي قيمة العملة الوطنية الليرة، تآكل سريع في مدخرات اللبنانيين، حدوث قفزات في معدلات التضخم وزيادة في أسعار السلع الغذائية بحيث لا يقدر على مواجهتها الشريحة الأكبر من المواطنين، تفاقم مشكلة الدين العام حيث يرزح لبنان تحت وطأة دين عام يعد من الأكبر في العالم، كذلك قد يجد أكثر من 40% من المواطنين أنفسهم قريباً تحت خط الفقر حسب تقديرات البنك الدولي. وبعد أن كان اللبناني يتباهى بالرفاه والمستوى الاجتماعي المتميز، بات الآن يقدم على الانتحار هرباً من الأزمات المعيشية القاسية أو بسبب فشله في الهجرة إلى الخارج بسبب عدم امتلاكه ثمن تذكرة السفر والتأشيرة.

يصاحب تلك الحالة المخيفة استمرار جريمة تهريب الأموال إلى الخارج من قبل النخب الحاكمة وقادة الميليشيات والطوائف وتجار السلاح والمخدرات وجنرالات الحرب وكبار المسؤولين السابقين، وزيادة تخلص المواطن من العملة المحلية لصالح العملات الأجنبية وفي مقدمتها الدولار، وإفلاس عدد من البنوك التي لم تعد قادرة على مواجهة أزمتي نقص السيولة والتعثر المالي وتغطية سحوبات المدخرين، وتعثر عدد كبير من الشركات الخاصة وإغلاق أبوابها وتسريح مزيد من العمالة، وخفّض التصنيف الائتماني للبنان، وهو ما يعقد أزمتها المالية ويبعد المقرضين والمستثمرين عنها، وكذا تعرض اللاجئون السوريون المقيمون على الأراضي اللبنانية لضغوط حياتية قاسية مع تراجع المساعدات الدولية وزيادة أسعار السلع وتآكل فرص العمل المتاحة.

ثورة جياع تمتد لدول مجاورة

وربما تنتهي تلك الحالة الاقتصادية المزرية التي ستأتي على لبنان جراء الأزمات المتلاحقة وآخرها تفجير مرفأ بيروت إلى اندلاع ثورة جياع تنتقل بسرعة إلى دول أخرى على رأسها الأردن الذي يواجه أزمة اقتصادية حادة وغير مسبوقة، وسوريا التي تعتمد اعتماداً كبيراً على تهريب السلع من الأسواق اللبنانية وبالتالي الالتفاف على العقوبات الغربية، خاصة عقوبات الولايات المتحدة التي تعرف باسم قانون قيصر، وقد تمتد ثورة الجياع إلى العراق الذي يواجه فساداً مالياً غير مسبوق من قبل النخب الحاكمة، وتدهوراً في موازنة الدولة وإيراداتها بسبب تهاوي أسعار النفط، المصدر الرئيسي للخزانة العامة، وخسائر وباء كورونا الفادحة.

يغذي تلك الثورة المتوقعة في لبنان أزمة مالية حادة ومستمرة بسبب الفساد المستشري في البلاد منذ قرون، أزمة دفعت حكومة حسان دياب للإعلان في شهر مارس الماضي عن التوقف عن سداد الديون الخارجية، يغذي الأزمة أيضاً تأخر المجتمع الدولي والمؤسسات المالية في تقديم العون المالي للبنان، واستمرار نزيف الاقتصاد اللبناني خاصة في ظل الخسائر الفادحة التي خلفها الانفجار والبالغة أكثر من 5 مليارات دولار، وتلكؤ دول الخليج في تقديم مساعدات مالية وقروض واستثمارات للدولة اللبنانية خلافاً لما جرى في سنوات سابقة، والأخطر حدوث قفزات في أسعار السلع الغذائية والاستهلاكية تصل إلى نحو 80% خلال الشهور الماضية، وهو ما يعادل النسبة التي فقدتها الليرة من قيمتها منذ شهر أكتوبر الماضي.

انعكاسات الانفجار على المشهد الاقتصادي

حسب المؤشرات المبدئية، فإن هناك انعكاسات مباشرة خطيرة لانفجار مرفأ بيروت منها مثلاً ضخامة تكلفة إصلاح ذلك الدمار الهائل الذي خلفه الانفجار، فلبنان يحتاج إلى نحو 16 مليار دولار لإعادة إعمار ما خلّفه الانفجار من تدمير كلي وجزئي لمنشآت حيوية وسكنية وإعادة ترميم الملاحة البحرية، بالإضافة إلى مواجهة أعباء خسائر أخرى، وهذه التكلفة الباهظة لا يستطع الاقتصاد اللبناني تحملها في الوقت الحالي، في ظل عدم قدرته أصلاً على سداد 1.2 مليار دولار ديوناً خارجية، وامتناع المؤسسات المالية عن إقراضه بسبب تعثره، ونضوب إيرادات النقد الأجنبي، وتراجع إيرادات الدولة مع تفشي وباء كورونا والتظاهرات الضخمة التي شهدها الشارع والتي بلغت ذروتها في شهر أكتوبر الماضي.

فاتورة الخسائر الاقتصاد اللبناني من الانفجار الأخير وزيادة المخاطر الأمنية قد تتعاظم في حال إذا ما توصلت السلطات المختصة إلى أن الانفجار عمل مدبر ومتعمد، وأن لدول وأطرف إقليمية دوراً بها، هنا نتكلم عن نهاية للاقتصاد اللبناني وانتقاله كلياً من مرحلة الموت السريري إلى مرحلة الموت التام، وفقدانه أي مسكنات يعيش عليها مثل ما تبقى من تحويلات المغتربين والسياحة.

وإضافة إلى الخسائر المباشرة لانفجارات بيروت فإننا يمكن رصد خسائر وتأثيرات أخرى خطيرة ستكون لها انعكاسات مباشرة على المواطن وأحواله المعيشية، من هذه التأثيرات مثلاً:

تعميق أزمة فقدان الثقة

جاء انفجار مرفأ بيروت الكارثي ليسكب الزيت على نار الأزمات الاقتصادية والمالية التي تمر بها لبنان أصلاً والتي من أبرز ملامحها تهاوي العملة وقفزات الأسعار، فالانفجار سيؤدي إلى تراجع إيرادات البلاد من النقد الأجنبي، وهو ما يعمق أزمة سوق الصرف القائمة، ويؤدي كذلك إلى حدوث مزيد من التراجعات الحادة في سعر صرف الليرة مقابل الدولار، كما أن الانفجار الأخير سيهز ثقة الأجانب في مدى قدرة الحكومة والاقتصاد المأزوم والخزانة العامة الخاوية على مواجهة التبعات الخطيرة لمثل هذه المخاطر في حال تكرارها، والنتيجة تأخر عودة الاستثمارات العربية والأجنبية، بل وهروب الاستثمارات القائمة من البلاد بما فيها اللبنانية والسورية.

مزيد من تهريب الأموال

في ظل مناخ عدم الثقة الناتج عن الأزمات الأخيرة التي تشهدها لبنان من المتوقع زيادة منسوب نزوح الأموال إلى خارج البلاد، وهذا المنسوب يزداد عقب زيادة المخاطر، وهو ما حدث بالفعل خلال الشهور الماضية، مثلاً البنوك اللبنانية "هرّبت" نحو ستة مليارات دولار منذ تظاهرات شهر أكتوبر الماضي رغم فرض قيود شديدة على التحويلات إلى الخارج من قبل البنوك والبنك المركزي، وهذا الرقم جاء على لسان آلان بيفاني، الذي استقال قبل أسابيع من منصب المدير العام لوزارة المالية، والذي له تصريح شهير كشف فيه عن أن ما بين 5.5 مليار و6 مليارات دولار "جرى تهريبها إلى خارج البلاد" من قبل "مصرفيين (لا يسمحون) للمودع بسحب 100 دولار".

مزيد من إرباك الأسواق

لأن لبنان يستورد كل شيء بداية من عود الكبريت وحتى السيارات الفارهة والسلع المعمرة والوسيطة والمواد الخام ومستلزمات الإنتاج، ويعتمد بشكل كبير على الواردات لإمداداته الغذائية، فإن انفجار بيروت ستكون له تداعيات خطرة على مخزون البلاد الاستراتيجي من السلع الأساسية، كما ستكون له تأثيرات على الأسواق التي تعاني من قفزات متواصلة في أسعار وانعدام الاستقرار بسبب تهاوي سعر الليرة.

تأخر تعافي قطاع السياحة

راهن العاملون في قطاع السياحة على التعافي في حال توصل حكومة دياب إلى صفقة يتم من خلالها الحصول على قروض ومساعدات خارجية تقلل من حدة الازمة المالية الحالية وتسد جزءاً من العجز المالي الذي تعاني منه البلاد وتسهم في عودة الاستقرار السياسي الهش، لكن الانفجار المروع خلط كل الأوراق وأجل تعافي القطاع وتأخر إعادة جذب السياح العرب والأجانب، وهو ما سينعكس سلباً على قطاع الفندقة في لبنان الذي يعاني من حالة ركود شديدة أدت إلى تعثر بعض الشركات المالكة للفنادق.

مزيد من الضغوط على القطاع المصرفي

بسبب حساسيته الشديدة للمخاطر، خاصة الأمنية، من المتوقع أن يتعرض القطاع المصرفي لمزيد من الضغوط خلال الفترة المقبلة خاصة مع تراجع إيرادات السياحة والعاملين في الخارج، وانخفاض ودائع العملات الأجنبية للعملاء من 82 مليار دولار في الخريف الماضي إلى 71 مليار دولار بحلول شهر مايو الماضي، رغم القيود الشديدة التي تفرضها البنوك على عمليات السحب النقدي.

هذه الضغوط ستعمق خسائر القطاع المصرفي والتي قدرها وزير المالية غازي وزني، يوم 24 أبريل الماضي، بنحو 83 مليار دولار، مقابل 53 ملياراً خسرها مصرف لبنان.  في حين قدر صندوق النقد الدولي، يوم 25 يونيو 2020، خسائر المصرف المركزي المتراكمة بنحو 50 مليار دولار. كما ستزيد ضغوط القطاع المصرفي، مع تنامي رغبة المودعين في سحب أموالهم، وتوقف الحكومة عن سداد الديون، وهو ما أثر على سُمعة البلاد المالية وثقة أصحاب الأموال بها.

مزيد من التنازلات للدائنين

مع تنامي الضغوط المالية التي يتعرض لها لبنان فإنه من المتوقع أن تقدم حكومة حسان دياب مزيداً من التنازلات للدائنين، وأن تخضع لابتزازات صندوق النقد الدولي الذي قد يطالبها بتعويم الليرة وإلغاء الدعم المقدم للوقود وزيادة الرسوم والضرائب وأسعار الكهرباء مقابل الإفراج عن قروض تقل قيمتها عن 10 مليارات دولار. وقد توافق الحكومة على بعض تلك الشروط الصعبة التي ستثير غضب الشارع، وذلك في محاولة منها لمعالجة بعض الأزمات المتفاقمة ومنها اضطرابات سوق الصرف، وتهاوي قيمة الليرة، وندرة النقد الأجنبي في الأسواق، وتراجع احتياطي مصرف لبنان، وهو ما يضعف قدرته على التدخل في سوق الصرف ومواجهة عمليات المضاربة على العملة من قبل تجار العملة.

رهان خاسر على الخليج

ستدفع التطورات الأخيرة داخل لبنان الحكومة لمعاودة الاتصال مجدداً بدول الخليج لطلب المساعدة في تجاوز الأزمة المالية التي يمر بها والتي عمقها انفجار مرفأ بيروت، لكن الرهان على هذه الدول، خاصة السعودية، بات خاسراً في ظل إصرارها على أنها لن تقدم دعماً للبنان وتوفر له مساعدات ومنح وقروض إلا بعد الموافقة على قائمة من الشروط، أبرزها تحجيم نفوذ حزب الله والدور الإيراني داخل البلاد وصولاً إلى المطالبة بتطبيق العديد من الإجراءات التقشُّفية التي يطالب بها صندوق النقد الدولي وستُخرج مزيداً من المواطنين المستائين إلى الشوارع، وهي خيارات مرّة لصانع القرار في البلاد.

وحتى لو استجابت لبنان للضغوط السعودية فإن تهاوي أسعار النفط في الأسواق العالمية وخسائر الأنشطة التجارية والاقتصادية بسبب كورونا سيحد من تلك المساعدات المرتقبة والتي يبحث عنها رئيس الوزراء اللبناني، حسان دياب، الذي وعد أن تكون أولى رحلاته الخارجية إلى منطقة الخليج بحثاً عن الدعم المالي.

انفجار بيروت الأخير سيغير من خريطة لبنان الاقتصادية والمالية إلى الأسوأ ما لم تتدفق المساعدات والمنح والقروض الدولية والإقليمية على البلاد، وهو أمر مستبعد حدوثه في المستقبل القريب في ظل تعثر المفاوضات بين حكومة دياب وصندوق النقد الدولي وهي المفاوضات التي بدأت في شهر مايو الماضي، وانشغال دول الخليج في أزمتها المالية الصعبة.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مصطفى عبد السلام
كاتب متخصص في الشأن الاقتصادي
تحميل المزيد