صبيحة يوم الجمعة 3 تموز/يوليو الماضي حطَّت طائرة وزير الدفاع التركي خلوصي آكار في مطار معيتيقة بالعاصمة الليبية طرابلس يرافقه رئيس أركانه وعدد من القيادات العسكرية في زيارة التقى خلالها عدداً من المسؤولين في الدولة الشمال إفريقية، واختتمها من فوق السفينة الحربية التركية "TCG Giresun" ليؤكد لجنوده أنهم ماضون في دعم حلفائهم في حكومة الوفاق المعترف بها دولياً.
قبل ذلك بنحو أسبوعين، تحديداً مساء الأحد 14 يونيو/حزيران، ضربت الطائرات التركية أهدافاً في شمال العراق، وأعلنت انطلاق عملية مخلب النسر، وهو ما أثار غضب الساسة العراقيين بشدة حيث إن الضربات لم تكن بالتنسيق معهم ولا مع الحكومة المحلية في الإقليم الكردي، وفقاً للبيان الرسمي الصادر عن المتحدث باسم وزارة الخارجية العراقية أحمد الصحاف.
وبالطبع لا تزال العمليات العسكرية التركية مستمرة في إدلب السورية، "عملية نبع السلام" ضد الميليشيات الانفصالية الكردية وقوات النظام والميليشيات الإيرانية وداعميهم من الروس من خلال قواعدهم العسكرية في المدينة شمال سوريا. في صباح الجمعة 22 مايو/أيار الماضي خرجت اتهامات يونانية لتركيا بالاستيلاء على قطعة أرض في الجانب اليوناني من الحدود عند مجرى نهر إيفروس الذي يفصل بين الدولتين، لكن تركيا برّرت ذلك بأن مجرى النهر قد تغير لأسباب طبيعية واصطناعية منذ إقرار اتفاقية ترسيم الحدود عام 1926.
لم يكن ذلك التوتر الحدودي هو الأول مع اليونان، حيث لا تزال سفن التنقيب التركية "الفاتح والقانوني وبربروس وياووز" تجوب مناطق في البحر المتوسط "موقع تونا 1" على أن تبدأ بالفعل عمليات التنقيب في 15 من يوليو/تموز القادم، وفق ما أعلن وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي فاتح دونماز في 25 من مايو/أيار الماضي، مستنداً إلى اتفاقية ترسيم حدود مع حكومة الوفاق الليبية، وهو ما أثار غضب الاتحاد الأوروبي وعدد من الدول العربية بالإضافة للكيان الصهيوني؛ وهنا يطرأ على ذهن كل متابع للشأن التركي بشكل عام وسياسات حزب العدالة والتنمية بشكل خاص سؤال هام عن سبب التغير المحوري في سلوك القيادة التركية التي بنت مشروعها التنموي على أساس نظرية تصفير المشاكل، بل والعجيب هو إجماع قيادات الحزب بمن فيهم المنشقون عن أردوغان (داوود أغلو وعبدالله جول وعلي باباجان) على دعم تلك التحركات، والأعجب هو دعم المعارضة القومية أيضاً.
إخفاق الماضي
لفهم خريطة التحرك التركي ودوافعه بات لزاماً علينا العودة أكثر من قرنٍ من الزمان تحديداً نحو عام 1909، حين نجحت حركة الاتحاد والترقي في قيادة انقلاب ضد الخليفة العثماني عبدالحميد الثاني لتعزله من الحكم وتولي أخيه محمد الخامس "المعروف بالسلطان المظلوم" بدلاً منه، ليصبح حاكماً صورياً فيما استأثر العسكريون الثلاثة الذين قادوا الانقلاب بكامل السلطات وهم: "طلعت باشا وزير الداخلية، وجمال باشا وزير البحرية، وأنور باشا وزير الحربية"، وثلاثتهم كانوا مندفعين وعديمي الخبرة السياسية، ورّطوا البلاد في العديد من الصراعات كالحرب الإيطالية العثمانية 1911-1912، وعلى إثرها تركت الدولة العثمانية ليبيا فريسة للإيطاليين دون حماية، غير أن أخطرها بالطبع كانت الحرب العالمية الأولى بالتحالف مع النمسا وألمانيا.
في أعقاب هزيمة الدولة العثمانية، أجبرتها دول التحالف على التوقيع على وثيقة مودروس أكتوبر/تشرين الأول 1918، وعلى إثرها احتلت القوات البريطانية والفرنسية والإيطالية إسطنبول في نوفمبر/تشرين الثاني من العام ذاته، لاحقاً تم تعديل الوثيقة في معاهدة سيفر خلال أغسطس/آب 1920، حيث تضمنت المعاهدة التخلي عن جميع المناطق التي يقطنها غير الأتراك، وتقسيم الشرق الأوسط بين الفرنسيين والبريطانيين، ووضع البوسفور والدردنيل تحت الإدارة الدولية، والاعتراف بحقوق الأكراد في إقامة دولتهم المستقلة في الجنوب، وإقامة دولة الأرمن، وهي الشروط التي رآها القوميون الأتراك "الجمعية الوطنية الكبرى" مجحفة فقادوا معركة الاستقلال بقيادة أتاتورك وعصمت إينونو، وشهدت انتصارات عسكرية هامة لقوات القوميين دحروا خلالها القوات الفرنسية والبريطانية في الجنوب والقوات اليونانية والأرمينية في الغرب، وأجبروهم على الهروب من الأناضول وتراقيا الشرقية (الجزء الأوروبي من الأراضي التركية)، وتكللت في 24 يوليو/تموز 1923 بمعاهدة لوزان.
كانت لوزان أقل إجحافاً للجمهورية التركية وريثة الدولة العثمانية التي أُعلن بنصّ الاتفاقية وفاتها، حيث أبقت على إسطنبول وتراقيا الغربية ضمن حدود الدولة الوليدة، كما أُسقط حق الأكراد في إقامة دولتهم، فيما أقرّت بنزع السيادة التركية عن سوريا والعراق وليبيا وقبرص ومصر والسودان، كما أقرّ إقامة دولة أرمينيا وضم الموصل لدولة العراق بعد أربعة قرون من انضمامها للأراضي العثمانية، وكذلك بموجب تلك الاتفاقية تم تعيين الحدود مع اليونان وبلغاريا، وفيه سلبت من تركيا مساحات شاسعة من الأراضي التاريخية لدولتهم لصالح اليونان وبلغاريا، واستولت رومانيا على جزيرة "أدا قلعة" على نهر الدانوب، رغم أنها كانت ذات أغلبية مسلمة.
اليونان وتركيا
أجبرت الاتفاقية الأتراك على تقسيم الحدود والتخلي عن مساحات شاسعة من أراضي دولتهم والتي يقطنها مواطنون أتراك بواقع 400 ألف مواطن تركي وإجلائهم للداخل التركي وتسليم الأراضي للدولة اليونانية، وكذلك تأمين خروج 1.6 من المواطنين المسيحيين الأرثوذكس والأرمن من الأراضي التركية، ليقيموا في تلك الأراضي الجديدة المنضمة للدولة اليونانية فيما عرف لاحقاً باتفاقية مبادلة السكان عام 1923، ومن ضمن الأراضي المسلوبة عدد غير محدد من الجزر التي تقع مباشرة أمام السواحل التركية وتسليمها لليونان مقابل تعويض تركيا بعدد من المدن العربية في الشمال السوري، مثل: أورفا وأضنة وغازي عنتاب وكلس ومرعش.
من أشهر الجزر التي احتلتها اليونان جزر بحر إيجة، جزيرة ليسبوس وجزيرة كارادك وجزيرة خيوس ومجموعة جزر الدوديكانيز الـ12 وجميع الجزر التي تقع أمام سواحل مدينة إزمير التركية، كذلك جزر "كاستيلوريزو" و"رو" و"ستروغيلي"، وثلاثتها تقع على بعد ميل واحد فقط من السواحل التركية.
فرض واقع جديد وإسقاط لوزان
لا تزال لوزان الثانية غصّة في حلق الأتراك على اختلاف أيديولوجياتهم، فهي وإن أنقذتهم من شروط أكثر إجحافاً لكنها قلصت دولتهم جغرافياً كثيراً؛ وقد حان الوقت لرفع الظلم، حسب وصف الرئيس التركي أردوغان في كلمته أمام اجتماع المخاتير بالعاصمة أنقرة عام 2016، حيث وصف الاتفاقية بالجرح العميق، وقال: "هناك من يريد إقناعنا بأن لوزان انتصار لتركيا ولوحوا لنا بالموت لنقبل بالعاهة الدائمة"، وأضاف: "الحدود مع دول الجوار ثقيلة على قلوبنا، الموصل كانت لنا، وكركوك كانت لنا، وكذلك حلب".
ومع استشعار تركيا قوتها في الإقليم على الصعيد السياسي والصناعي والعسكري بشكل خاص، وبالنظر للضعف والانقسام الذي بدا واضحاً في القوى العربية والدول الأوروبية مؤخراً، وهو ما يمكن رؤيته بترتيب جيوش العالم لعام 2020، حيث لم يشهد الترتيب للدول العشر الأولى سوى تواجد دولتين أوروبيتين هما فرنسا وبريطانيا في المركزين السابع والثامن على التوالي، وكلاهما على مقربة من الجيش التركي صاحب الترتيب الثاني عشر، ومع انشغال أمريكا ترامب بصراعاتها في جنوب شرق آسيا وانكفائها على ذاتها مؤخراً وإهمال دورها التقليدي في الشرق الأوسط، بالتزامن مع توافق روسي تركي في عدد من الملفات الإقليمية، شعرت تركيا بأن الفرصة مواتية للتحرك.
تركيا الآن قوة ذات ثقل إقليمي، وتسعى جاهدة لنقضِ عُرى معاهدة لوزان عروةً عروة، فها هي تعود للموصل (آخر مدينة انسحب منها العثمانيون بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى) وتقيم فيها قاعدة بعشيقة منذ عام 2015 بحجة حماية الوجود التركماني وتدريب قوات البشمركة في المدينة التي ينظر لها جميع الساسة الأتراك بعين الاستحقاق التاريخي، ورغم تقدم العراق باحتجاج رسمي لمجلس الأمن، قال الرئيس التركي إن قواته لن تخرج من القاعدة، أما جزيرة قبرص فقد نجح الأتراك في استرداد شطرها الشمالي عام 1974، غير أنهم لم يكتفوا الآن بهذا بل يسعون للتنقيب عن النفط والغاز في مياه الشطر الجنوبي للجزيرة وتقاسم العائدات معهم؛ بحجة أن لقبرص الشمالية التابعة لهم نصيباً في تلك الموارد الجنوبية، وهو ما يرفضه الاتحاد الأوروبي الذي هدد بفرض عقوبات اقتصادية على تركيا في حال تماديها.
سودانياً سعت تركيا لبسط نفوذها الناعم عبر مشروع إعادة إعمار جزيرة سواكن في اتفاق موقع في ديسمبر/كانون الأول عام 2017، وترميم القلاع والآثار العثمانية هناك تمهيداً لإقامة قاعدة عسكرية تركية في البحر الأحمر، وهو المشروع الذي توقف في أعقاب الإطاحة بالبشير أبريل/نيسان 2019.
عوداً إلى الملف الليبي وبلاد عمر المختار الغارقة الآن في الفوضى والمنقسمة بين معسكرين: شرقي بزعامة اللواء المتقاعد خليفة حفتر ويدعمه إقليمياً مصر والإمارات والقيادة السودانية الجديدة والأردن ودولياً فرنسا وروسيا، ومعسكر غربي يقطنه أكثر من ثلثي السكان وتدعمه قطر وإيطاليا نسبياً ويحظى باعتراف دولي.
لماذا كانت هذه فرصة تركيا الفتية لضرب عدة عصافير بالحجر ذاته عبر تدخلها ووجودها في الملف الليبي؟ ولماذا نقول إنه لا يمكن لوم الأتراك في بحثهم عن مصالح بلادهم الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية والعسكرية، خاصة في ظل انكماش البلدان العربية وتحوّلها إلى مرتع لكل مَن أراد العبث بها أو استغلالها ونهب خيراتها.
دعونا نناقش ونحلل الأسباب في الجزء الثاني.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.