على مرّ التاريخ الحديث كانت الأزمات العالمية هي المنعرج الأكبر الذي يتغير فيه ترتيب القوى الدولية في مضمار الزعامة، أبرز مثال على ذلك كان في 1945 بعد الحرب العالمية الثانية التي أنهكت جميع البلدان مَن حاربوا ومَن كانوا يدعمون الحرب لكن بلداً واحداً فقط كان مستفيداً هو الولايات المتحدة الأمريكية، فكسبت أوروبا وروسيا واليابان الدم والموت، وكسبت أمريكا الذهب وأسواق المال، وهكذا صعد العملاق الأمريكي على ظهر هؤلاء، ومنذ ذلك الوقت أصبحت بلاد العم سام هي القوة العظمى التي تأمر وتنهي في العالم. كالعادة التاريخ تاريخ واحد لكنه فقط يعيد التجسد في هيئة مغايرة، ويبدو أنه اليوم قد قرر التجسد في صورته الصينية.
إلى الآن لا تزال الدول الكبرى تحاول الخروج ببطء وحذر من أزمة كورونا الحالية بخطط إعادة إنعاش اقتصادي ومالي وحتى صحي، الاتحاد الأوروبي يحاول لمّ شتات نفسه، أمريكا تشتعل بزيت صبّه رجل أسود على نار كورونا الحارقة، اللاتينيون يحصون كل صباح عدد موتاهم، بينما الصين قد لفت العالم شرقاً وغرباً تستعرض عضلاتها السياسية والدبلوماسية بعد أن رتبت بيتها الداخلي باعتبارها أول بلد يُصاب بالجائحة وأول بلد يتعافى منها على حد قول الحكومة هناك، ليتحول مرض وبائي إلى فرصة عظمى لبكين في تعزيز توغلها العالمي وتعزيز علاقاتها الدولية بالنسبة لبلد يصدر الوباء ويصدر كماماته.
تلعب الصين حالياً ورقة الدبلوماسية الصحية، باعتبارها تعرف أنها مسؤولة أمام الرأي العام عن ما حدث في العالم منذ نصف عام، لهذا فهي تسعى عن طريق "سياسة الكرم" إلى إسكات أفواه من اتهموها دوما بالجحود. منذ بداية الجائحة لم تتوانَ الصين في إرسال المساعدات الطبية إلى كل من يطلبها لكنها ركزت انتقائياً على "مناطق نفوذها التقليدية" بطريقة أو بأخرى بما يزيد من آفاق شراكتها مع العالم لهذا فلا عجب أن تكون دول إفريقيا (على رأسها الجزائر وإثيوبيا) والشرق الأوسط وأوروبا الشرقية صاحبة النصيب الأكبر من كعكة بكين، لكن الأمر لم يمنع كذلك من دخول شركاء جدد على الخط من الذين ينضوون تحت قبعة الاتحاد الأوروبي كإيطاليا وإسبانيا، وحتى أمريكا ترامب الذي كان منح الجنسية الصينية لفيروس (Sars CoV 2) لم يتردد في قبول يد الصين حين امتدت إليه.
إن التموقع الصيني الجديد لم يشمل العلاقات الثنائية فقط، فالدولة الصينية عملت أيضاً بخبث سياسي على دعم منظمة الصحة العالمية ورئيسها الإثيوبي مادياً ودبلوماسياً حين وهبت لها 30 مليون دولار كانت بمثابة "إحراج سياسي" لواشنطن بعد تعليق المساهمة الأمريكية في المنظمة بقرار دونالد ترامب الذي سيسجل ضده في قادم الأيام. لذا فالواضح أن غباء الغربيين ساهم أيضاً في ترك الملعب فارغاً لتلعب الصين فيه بأريحية، مثلما ساهم فيه أيضاً ذكاء الصينيين الذين أرفقوا كل هذا ببروباغندا غير مسبوقة وتغطية إعلامية كبيرة، فالتلفزيون الصيني الرسمي لا يتخلف عن تصوير المساعدات والفرق الطبية والتبرعات بطريقة توحي أن الدولة الآسيوية هي تلك القوة العظمى الطيبة الودودة التي تسعى لمد يد العون نحو كل العالم.
لكن ماذا الذي يدفع النظام الصيني إلى هذا؟ بالطبع الهدف الرئيسي هو ضرب عصفورين بحجر: أولاً رغبة الحكومة الصينية في "التكفير" عن ذنب الوباء الذي تسترت عليه منذ البداية وعدم مشاركتها وإنذارها العالم قبلاً، وثانياً محاولة الحزب الشيوعي الحاكم تغيير صورته النمطية في الداخل كنظام شمولي قامع للحريات ومُخفٍ للحقائق. كما تحاول الصين أيضاً تعزيز نفوذها الدولي بضرب محاور الشراكة الأوروبية ومزاحمة النفوذ الفرنسي والأمريكي في القارة السمراء الذين يتعاملان بمنطق "المعادلة الصفرية" مع دول أصبحت تريد تحرراً أكبر وعلاقات منافع متبادلة حقيقية. كما أن للأمر بُعداً دعائياً آخر بأن الصين بلد يقدس مبادئ الصحة العامة ويسعى لتكريس مجتمع صحي عكس ما يعرفه العالم عن نهم الصينيين لكل مخلوق يزحف أو يطير أو يمشي على أربع أقدام.
لا يخلو البعد الاقتصادي بدوره من هذه السياسة، فاقتصاد الكمامة وتجارة الأجهزة التنفسية هي سوق الموسم بالنسبة لمن يريد أن يفوز بالمال على حساب المرض والفرد الصيني باعتباره بائعاً بالدرجة الأولى لن يفوت الظرف دون عائد ربحي، ثم إن سرعة تعافي الدول المتضررة التي تدعمها بكين سيكون في صالح تبادلاتها التجارية التي انكمشت في فترة الحجر العالمي ما أدى إلى تباطؤ النمو الاقتصادي في بلد الملياري نسمة، هذا دون إغفال المشاريع الاستثمارية التي تحوزها الشركات الصينية في هذه البلدان ورغبة الحكومة في إعادة بعث طريق الحرير الذي سيكون أضخم مشروع تبادل في العالم.
يعرف الغرب جيداً -بما فيه الرؤوس السياسية الكبرى- أنه لا يستطيع مضاهاة سخاء الصين أبداً، لذا فهو يسعى إلى شيطنة المساعدات الصينية، ويحاول كسب النقاط التي خسرها عن طريق إلهاء العالم باتهام الصين بنشر الفيروس والتشكيك في شفافية تعاملها مع الجائحة محلياً ودولياً. لكن عملياً فقد كانت الصين أكثر براغماتية ونجاحاً في تسيير الأزمة لدرجة أن تأثيرها بدا جلياً على الساحة السياسية الدولية، فاليد الصينية أصبحت تهدد الكيان الأوروبي بعد أن أدرك الكثير هناك أن يد الصين البعيدة كانت أنفع من يد أوروبا القريبة، مثلما أصبحت أيضاً مؤثراً في الانتخابات الأمريكية حين فضحت سياسة ترامب الصحية والدولية العرجاء للشعب الأمريكي.
حين تنتهي الأزمة لا شك أن العالم الأول لن يغفر للصين ما حدث ويجعل القضية تمر مرور الكرام، ولن يهدأ له بال إلا بعد أن ينال ما يريد بقدر ما يريد، وحريّ بالصين أن تستعد للتحقيقات العلمية وأروقة المحاكم الدولية وضغوط المؤسسات العالمية وعقوبات اقتصادية وقطيعة دبلوماسية أكثر من ذي قبل، لكن في نفس الوقت ستكون قد كسبت الكثير بحلول ذلك الوقت. ربما ستضطر إلى التعويض والتنازل بعض الشيء، لكن ما الذي يضير التاجر الثري صاحب المشروع الضخم حين يدفع ضريبة بسيطة؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.