القتل للأفقر قبل الأسود.. كيف نفهم وحشية الشرطة الأمريكية؟

عدد القراءات
4,588
عربي بوست
تم النشر: 2020/06/19 الساعة 12:18 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/06/19 الساعة 12:18 بتوقيت غرينتش
اعتداء الشرطة على مواطن أسود

كان التحوُّل سريعاً بشكلٍ لافت مُحيِّر. منذ ست سنوات، اعتقد معظم الأمريكيين أن قتل الشرطة للمواطنين السود المُشتَبَه بهم مجرد "أحداث فردية". لكن الآن، يقبل ثلاثة أشخاص من كلِّ أربعة أن الأمر متجاوز لحدود "الأحداث الفردية" إلى مشكلة منهجية في النظام الشرطيّ برمته. تصاعد الدعم لحركة "حياة السود مهمة" خلال الشهر الماضي بشكلٍ أكبر مِمَّا زاد خلال العامين الماضيين. كانت الحركة أبعد ما تكون عن تعزيز قاعدة دونالد ترامب الشعبية، وقد قضت النيران التي تلتهم المدن الأمريكية على مكانة الرئيس، بينما لم تفاقم -حتى الآن- من الاستقطاب داخل الأمة الأمريكية. 

مواقف تتغير.. جذرياً

تغيَّرَت أيضاً المواقف في المؤسَّسات الكبرى، وليس فقط في الأوساط العامة. الاتحاد الوطني لكرة القدم، الذي ندَّدَ منذ أربعة أعوام باللاعبين الجالسين على ركبهم أثناء عزف النشيد الوطني احتجاجاً على حالات القتل العنصري، يعترف بأن هذا ذلك الموقف كان خطأً منه. أما اتحاد الألعاب الرياضية (NASCAR)، وهو الاتحاد الأكثر موالاةً لترامب من بين كلِّ الاتحادات الرياضية، فقد حظر الأعلام الكونفدرالية. وتؤكِّد شركةٌ بعد أخرى علانيةً دعمها لحركة "حياة السود مهمة". 

في بريطانيا أيضاً، تغيَّرت الأوضاع على الأرض؛ من الاحتجاجات الجماهيرية الواسعة إلى الأحاديث عبر البلاد عن التماثيل والتاريخ، ومن لاعبي كرة القدم والسياسيين الذين يجلسون على ركبهم، يبدو أن الحياة العامة تغيَّرَت بصورةٍ لا رجعة فيها. حين أسقط المتظاهرون تمثال المُستعبِد إدوارد كولستون في بريستول، لم يؤيِّد ذلك إلا أقلية من البريطانيين. غير أن أغلبيةً ظنوا أن التمثال لابد من إسقاطه بشكلٍ قانوني، وهو أمرٌ لا يمكن تصوُّره حتى قبل شهورٍ قليلةٍ فقط. 

من إحدى وجهات النظر، يعبِّر التحوُّل في المواقف العامة عن شيءٍ إيجابي، ألا وهو رفض العنصرية. غير أن المواقف نادراً ما تتغيَّر في غمضة عين.

تعكس سرعة التحوُّل الأخير أيضاً الطابع المحموم للسياسات المعاصرة. والتقلُّب والاستقطاب ما هما إلا تعبيران عن الظاهرة نفسها: انفصال السياسة عن مراسيها الاجتماعية التقليدية. إنها قضيةٌ كثيراً ما نوقِشَت في السنوات الأخيرة في سياق صعود الشعبوية وتحوُّل الولاءات في أوساط الناخبين من الطبقة العاملة. ولقد شهدنا على مدار الأسابيع القليلة الماضية أحد التعبيرات غير المُتوقَّعة لذلك العجز عن توقُّع السياسات. 

ومع انفصال هذه المراسي القديمة، أصبحت السياسة مدفوعةً بالقلق الثقافي أو النفسي بالقدر نفسه التي هي مدفوعةً به بالمخاوف المادية. انظروا إلى تأثير سياسات الهوية أو إعادة صياغة مظالم الطبقة العاملة لتلاحظوا الفرق الشاسع.

لطالما استندت السياسة إلى الرموز والطقوس والاستعراض. غير أننا نشعر اليوم كما لو أن السياسة قد استهلكها الاستعراض. فكِّروا في الطريقة التي نتحدَّث بها الآن عن "امتياز البِيض" أكثر من الحديث عن "العنصرية". تُعَدُّ المشكلة في العنصرية اجتماعيةً وهيكلية – القوانين والممارسات والمؤسَّسات التي تحافظ على التمييز. والتشديد على "امتياز البِيض" يحوِّل قضيةً اجتماعيةً مثل هذه إلى مسألةٍ تتعلَّق بنفسية شخص أو جماعة. 

أيها البِيض، أنتم المشكلة!

كَتَبَت داهلين غلانتون، كاتبة الأعمدة بصحيفة Chicago Tribune: "أيها البِيض، أنتم المشكلة". وتُصِر الكاتبة البريطانية لوري بيني، المقيمة بالولايات المتحدة، قائلةً: "بالنسبة للبِيض، فإن الإقرار بحقيقة العنصرية يعني الإقرار بذنبهم وتواطُؤهم". يغسل البِيض أقدام الزعماء الدينيين السود كفارةً عن خطاياهم، ويعترفون دينياً بذنوبهم. مثل هذه المظاهر من الاستياء العام هي استعراضاتٌ تمنح الأفراد شعوراً أفضل حيال أنفسهم، لكنها أيضاً تُبقِي هياكل السلطة والتمييز دون مساس. 

إن النظر إلى البِيض -جميع الناس البِيض- باعتبارهم "مذنبين ومتواطئين" يشوِّه القضايا السياسية ويحرفها عن أسبابها الحقيقية. في الولايات المتحدة، فإن السود، على حد ذِكر مؤسَّسة Sentencing Project، "أكثر ترجيحاً أن يُلقَى القبض عليهم من الأمريكيين البِيض، وبمجرد أن يُلقَى القبض عليهم يصبحون أكثر ترجيحاً أن يُدانوا، وبمجرد أن يُدانوا، يصبحون أكثر ترجيحاً أن يقضوا فترات سجنٍ مُطوَّلة". وهم أيضاً أكثر ترجيحاً أن يلقوا حتفهم على يد الشرطة. غير أن هناك دراساتٍ قد أظهرت أيضاً أن المشكلات التي تواجه الأمريكيين من أصل إفريقي ليست بسبب الأشخاص البِيض، أو حتى ضباط الشرطة البِيض، بل بسبب نظام العدالة الغارق في الظلم والجور. 

وليس الأمريكيون من أصل إفريقي هم الوحيدين الذين تُدمَّر حياتهم بظلم نظام العدالة. فأكثر من نصف الذين يُقتَلون على يد الشرطة الأمريكية هم أناسٌ بِيض، وبينما انخفض عدد القتلى من الأمريكيين ذوي الأصل الإفريقي -نسبياً- على يد الشرطة في السنوات الأخيرة، ارتَفَعَ عدد القتلى من البِيض بحدة. يطرح بعض المُحلِّلين أن أفضل مؤشِّر لقتلى الشرطة ليس العِرق، بل مستويات الدخل -كلما كنت أفقر، زادت احتمالية قتلك. وأظهرت دراساتٌ أخرى أعداد السجون المرتفعة بشكلٍ مُذهِل في الولايات المتحدة يمكن تفسيرها على نحوٍ أفضل من خلال الطبقة لا العِرق، وأن "السجن الجماعي يتعلَّق في المقام الأول بالتعامل المنهجي مع الطبقات الدنيا، بغض النظر عن العِرق". إن الأمريكيين من أصلٍ إفريقي، والذين هم من أبناء الفقراء والطبقة العاملة على نحوٍ غير متناسب، يُحتَمَل أن يُسجَنوا أو يُقتَلوا على نحوٍ غير متناسب أيضاً. 

تُعَدُّ حالات القتل على يد الشرطة أقل في بريطانيا (292 في أماكن الاحتجاز و40 إطلاق نار مميت على مدار الـ15 عاماً الأخيرة)، لكن هنا أيضاً السود هم الضحايا على نحوٍ غير متناسب -يشكِّلون 3% من السُكَّان و8% من القتلى في أماكن الاحتجاز. غير أن أغلبية القتلى من البِيض -249 من أصل 292 في أماكن الاحتجاز، و26 من 40 حالة إطلاق نار- وربما هم بشكلٍ أساسي من الفقراء والطبقة العاملة، رغم أنه من الأصعب الحصول على هذه الإحصاءات بشكل دقيق.

لنأخذ حالات الموت جرَّاء الإصابة بفيروس كوفيد-19 مثالاً.. وُثِّقَ تأثير الفيروس على المجتمعات البريطانية غير البيضاء بصورةٍ دقيقة. لكن اللامساواة الطبقية مهمةٌ هنا أيضاً – تُوفِّيَ الناس الذين يعيشون في أكثر المناطق حرماناً في إنجلترا وويلز من الفيروس بأعدادٍ أكبر مرتين من مُعدَّل الوفيات في المناطق الأقل حرماناً. 

العرق أم الطبقة؟

إن العرق والطبقة ليسا تصنيفين مُتعارِضين يمكن أن يوضع الواحد منهما في مواجهة الآخر. فالأقليات هي جزءٌ لا يتجزَّأ من الطبقة العاملة وفي كثيرٍ من الحالات لديهم خبراتٌ مشابهة مع سلطة الدولة. يُشكِّل العِرق والطبقة حياة الناس بطرقٍ مُعقَّدة. 

بالنظر إلى حالة السيولة في السياسة الحالية، قد يبدو ما نشعر به الآن من تحوُّلٍ جوهري في الوعي العام أقل بعد شهرٍ أو عام من الآن. والأكيد رغم ذلك هو أن اللامساواة، سواء إذا كانت في العِرق أو الطبقة، لا يمكن أن تُختَزَل إلى مسألة امتياز البِيض أو يُمارَس التحدي ضدها من خلال إثارة الذنب. إن الرمزية مهمة، لكن بؤرة المشكلة تكمن في العلاقات الاجتماعية والهياكل المؤسَّسية المُشوَّهة والظالمة. وبينما نبحث عن مراسي سياسية جديدة، نحتاج للتفكير ليس فقط في الهوية والنفسية، وإنما أيضاً فيما هو مادي واجتماعي. 

– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Guardian البريطانية. 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

كنعان مالك
كاتب ومُحاضِر ومذيع بريطاني
تحميل المزيد