عندما تغدو الأيديولوجيات بمثابة ديانات أو هويات

عدد القراءات
2,441
عربي بوست
تم النشر: 2020/06/17 الساعة 10:47 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/06/17 الساعة 10:47 بتوقيت غرينتش

في زمن سابق، أي منذ ظهور الأيديولوجيات الكبرى، كنتاج لعصر الحداثة، في القرن التاسع عشر، مع انتشار الطباعة والصحف ونشوء الأحزاب وتبلور الدولة الوطنية، بدت تلك الأيديولوجيات، القومية واليسارية والدينية (مع تمييزنا هنا بين الدين والأيديولوجيا)، ذات مخزون فكري وثقافي، كما أنها انطلقت، في البداية، متوسلة مصالح الناس والمجتمعات، في النمو والرقي والتمدين وبناء الدول والمجتمعات وفق روابط معينة.

بيد أن تلك الأيديولوجيات لم تصمد طويلاً في مسار التجربة، وفي اختبارات الزمن، في حيز التجربة السياسية؛ لأنها انكشفت عن بنى أو مفاهيم ثقافية وسياسية مغلقة، وثابتة، حتى إنها أضحت بمثابة "أديان" أخرى، بحيث إنها فقدت عقلانيتها وقيمتها، وبالتالي فقدت حيويتها وفاعليتها، وباتت أفكاراً ساذجة، لا قضية لها، ولا روح فيها، ولا ترتبط بمصالح الناس ورقي عمرانهم بقدر ما تتوخى حيازة الموارد والسلطة.

هكذا تمخّضت فكرة اليسار عند بعض "يساريين"، عن تبرير التسلّط، وتدجّين الناس، وسلبهم حريتهم، باعتبارهم مجرّد مكوّنات طبقية صمّاء، لا ذوات لها، بادّعاء أولوية النضال من أجل "العدالة الاجتماعية" ومقاومة الرأسمالية العالمية والإمبريالية، في حين لم يكتشف أصحاب تلك الأيديولوجيا عمق التناقض بين فكرتهم عن العدالة الاجتماعية وعدائهم لحقوق المواطنة ولقيمة الحرية، بدفاعهم عن أنظمة الاستبداد. هذا ينطبق، أيضاً، على بعض العلمانيين، من الذين جرّدوا فكرة العلمانية من جوهرها المتعلّق بحرية العقل والرأي والتعبير، وضمن ذلك ضمان حرية التديّن، والتمييز بين الديني والدنيوي، وبين الدين كمجال خاص والدولة كمجال عام.

ينطبق ذلك على القومجيين الذين ابتذلوا الفكرة القومية، ولم يميزوا بينها كدعوة سياسية، وبين التعصّب، ونبذ الآخر، والاستعلاء القومي، والعنصرية، بما في ذلك تنميط للناس، من دون احتساب لخصائصهم وفرادتهم، وبما في ذلك تذويب الذوات الفردية في مفهوم الأمة، من دون إدراك أن الحرية معطى فردي، وأن حرية الأمم من حرية المواطنين، وأن ادعاء أن شعب معين، أو أمة معينة، حرة، في أنظمة تغيب المواطنين، وتحرمهم حقوق المواطنة هو مجرد ادعاء وتورية وتزييف للحقيقة. أما المقاومة، التي فكّت الارتباط بين معنى التحرير ومعنى الحرية، فقد تحوّلت إلى مجال للتلاعب، والاستهلاك، كما تمثّل ذلك فيما يسمى معسكر "الممانعة والمقاومة". وبالطبع فإن هذا يشمل بعض التيارات الإسلامية، التي باتت، بدورها تدّعي احتكار الحقيقة، وحقّ تفسير الإسلام على هواها، مع محاولاتها فرض ذلك بوسائل العنف على المجتمع، مشهرة تهمة الجاهلية، وسيف التكفير في وجه من يقف في مواجهتها، حتى لو كان ينتمي إلى تيارات إسلامية أخرى، علماً أن تلك التيارات السلفية ـ الجهادية، أسهمت في إضعاف شرعية التيارات الإسلامية المدنية والمعتدلة.

نجم عن كل ما تقدم نشوء ظاهرة أخرى تتمثّل في النزوع إلى تنميط أو تصنيف الناس، على أساس أيديولوجي، بحيث بتنا وكأننا أمام حالة طائفية، و"هوياتية"، من نوع آخر، كأن كل العلمانيين، أو الإسلاميين، أو القوميين، أو اليساريين، أو الليبراليين، من نسيج واحد، وهو أمر غير معقول، وغير عملي.

والأنكى أن هكذا تصنيفات "هوياتية"، تحيل تلك الجماعات إلى "طوائف" مغلقة ومتعصّبة، مثلها مثل الطوائف الدينية التي هيمنت عليها فكرة الطائفية، بحيث يغدو الإسلامي في مواجهة العلماني واليساري والقومي، واليساري ضد الليبرالي والإسلامي والقومي، والقومي ضد الإسلامي واليساري والليبرالي، وهكذا. علماً أن الواقع يشتغل على نحو آخر، إذ لا توجد تيارات خالصة، ومطلقة، لفكرة بعينها، إلا إذا كانت تلك التيارات في حالة موات، فالتيارات الحية تتعايش فيها جملة من الأفكار فثمة في التيار اليساري ليبراليون، وقوميون، أيضاً. وثمة في التيار الإسلامي ليبراليون وقوميون، كما ثمة في التيار الليبرالي يساريون وإسلاميون؛ لأن الإنسان أصلاً شخص متعدّد ومركّب وغني بتنويعاته.

على ذلك ليس من المجدي نقد شخص ما، أو محاباته، بدلالة التيار الذي ينزع إليه، فقط، سواء كان يسارياً أو إسلاميا أو قومياً أو علمانياً أو ليبرالياً، بمعنى أن هذا أو ذاك، ينبغي أن يتأسّس على الموقف من قضايا الحرية والمساواة والكرامة والعدالة والمواطنة، فهذه القيم الجمعية هي التي تحدّد، لا الأيديولوجيات أو التنميطات الهوياتية المغلقة.

ولعل هذا الاختلال في تعاطي تيارات "اليسار" أو العلمانية أو الإسلامية أو القومية، مثلاً، مع القيم المتعلقة بحرية الإنسان وكرامته، والتي تعلو على قيمة الأيديولوجيات، هو الذي أدى إلى عزلة بعض هذه التيارات في المجتمعات العربية، وتخبّط بعضها الآخر، أي أن الأمر لا يعود لأسباب لها علاقة بتخلّف الوعي السياسي لهذه المجتمعات فقط.

قصارى القول: لا يمكن الخروج من هذا الاستعصاء في الانغلاق، والتنميط الأيديولوجي، والهوياتي، إلا بتلاقح الأفكار مع بعضها، وانفتاحها، وارتكازها على قيم الحرية والحقيقة والعدالة، وحقوق المواطنة، التي كفلتها كل الشرائع السماوية والأرضية.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

ماجد كيالي
كاتب سياسي
كاتب سياسي فلسطيني له العديد من المقالات والدراسات السياسية والكتب.