يعتبر "كوفيد-19" أخطر وباء يهدد البشرية منذ الحرب العالمية الثانية، لِما خلّفه من إصابات وخسائر في الأرواح، مع الأزمات الاجتماعية، والنفسية، والاقتصادية على جميع دول المعمورة، ولا يزال يحصد المزيد.
وفي ظل هذه الرؤية الضبابية العالمية، تظهر للعلن داخل الساحة الدولية مواجهات بين الدول الكبرى حول أسباب "الجائحة". الولايات المتحدة الأمريكية، ومعها دول أوروبية تتهم الصين، وتقول إنها هي المصدر الأول للفيروس وتتهمها ضمنياً بخلق الوباء في "مختبراتها"، وتطالبها بتفسيرات وتوضيحات، وكذا بتعويضات عن الخسائر التي أفرزتها داخل مجتمعاتها.
على النقيض من ذلك، الصين تدافع عن نفسها وتؤكد أن الفيروس كان نتيجة أسباب طبيعية محضة، وتردّ على مهاجمتها بذلك بأن الآخرين يتهمونها دون دلائل وقرائن، وأنهم يشتتون الانتباه ويغطون "الأعين" عن الطريقة غير الصائبة في مواجهتهم للوباء. هذا التراشق المتسارع بين كبار دول العالم يطرح السؤال التالي: كيف سيكون تأثير الصين على التوازنات الدولية مستقبلاً؟
الصين في ظل التغيّرات الدولية
في ظل التغيّرات، التي طرأت على المشهد الدولي في العقدين الأخيرين، تسعى الصين دائماً أن تكون فاعلة في المشهد الدولي. فقد ارتكزت المدركات الصينية للتحوّلات العالمية على الرغبة في حماية تجربة الإصلاح الاقتصادي، والمحافظة على طابعها الصيني الخاص، وهو ما عُرف بالتجربة الصينية، مع إيجاد الشروط الملائمة لاستمرارها واللازمة لإنجاحها، لما لها من أهمية في بناء دور الصين المستقبلي.
ولقد سعت الصين بعد إنهاء جزء مهم من إصلاحاتها الداخلية على المستويين السياسي والاقتصادي إلى الانطلاق نحو تأكيد الحضور وبلورة معالم الدور عالمياً، في نظام دولي أخذت معالمه ترتكز على معطيات اقتصادية محضة وعلى المصالح وفتح الأسواق "العولمة"، بعد أن كان للأيديولوجيا في معظم مراحل القرن الماضي دور مهم في إدارة السياسات الخارجية للدول وفي رسم بنية التحالفات والتوازنات على المسرح الدولي.
لقد تغيرت معالم النظام الدولي مع ظهور مفهوم "القرية الواحدة" الذي ساعد الصينيين في رفع جملة قيود كانت تكبلها، وفتح أمامها هامشاً واسعاً وفرصة جديدة كي تتعامل مع جملة قضايا ربما كانت تعد في عهد القطبية الثنائية حكراً على القوّتين العظميين؛ الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي السابق.
هذا التغيير العالمي في هيكل الصراعات الدولية أعطى لبكين فرصة حاسمة بأن تكون فاعلاً دولياً ولها دور محوري في التفاعلات والأحداث الدولية والإقليمية، ولهذا تحركت باتجاه مجموعة قضايا حساسة.
لقد تحول نمط التفكير الصيني من موقع "الانحسار النسبي" في مرحلة القطبية الثنائية إلى "الانفتاح النشيط" في مرحلة القطبية الأحادية، الأمر الذي فرض على الصين أن تجهز نفسها للبحث عن مقومات دور جديد يتلاءم وحقائق التغيير، وأن تثبت من خلاله مكانتها الدولية. وهذا ما عكسته مجموعة من الإنجازات الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية، حققتها الصين في العقود الأخيرة، وفتحت لها بذلك البيئة الأنسب لتتحرك داخل دهاليز الساحة الدولية.
هل تتولى الصين الزعامة الدولية بعد كوفيد-19؟
ماذا بعد كورونا؟ سؤال يطرحه جميع الباحثين والمتتبعين للشأن الدولي وللعلاقات الدولية، فهناك انقسامات حول السيناريوهات التي سيكون عليها المسرح الدولي ما بعد نهاية "الجائحة". لذلك، ورغم أن السيناريوهات متعددة، لكن يمكن تأكيد معلومة بديهية وهي أن العالم سوف يتغير بعد "جائحة كورونا". الدول بشكل عام والعظمى على وجه الخصوص في مسعى دائم لتحسين مكانتها الدولية، وتعظيم نفوذها لتعزيز مصالحها وحمايتها. ومن موارد التميز والتفوق لدولة على أخرى ما تتوافر عليه من إمكانات اقتصادية، وعسكرية، وتكنولوجية، وسياسية، وغيرها، والقدرة على توظيف هذه الإمكانيات بالشكل الأمثل من حيث تحديد الأهداف ومراحل الإنجاز، والأولويات وأهميتها، وبما يلائم إمكاناتها وقدراتها. ومن هنا جاء السؤال: كيف هي الصين ما بعد كورونا؟
الجميع رأى ما أبانت عنه الصين خلال مواجهتها لفيروس كورونا، فمواجهة الصين للوباء أعطى صورة واضح للعالم وللقوى الكبرى الفاعلة في الساحة الدولية، بأن التنين الصيني بدأت عوامل قوته تظهر للعلن. رغم أن الصعود الصيني كان ظاهراً ومكشوفاً من خلال القوة الاقتصادية التي أبانت عنها الصين منذ عقود، لكن مواجهتها لفيروس كورونا أعطى نظرة ثانية للآخرين عن القوة الخفية لبكين. فمن خلال هذه الصورة والأبحاث المطروحة نستشف أن الساحة الدولية "ما بعد كورونا" ستتغير من حيث التوازنات والمؤثرين. فالصين ستصبح الفاعل القوي في تغيير التوازنات داخل الساحة الدولية، مع تراجع الولايات الأمريكية "تراجع طفيف"، وهذا التراجع سيؤثر على المنحى العالمي لرؤية "البيت الأبيض" للعالم.
أما الاتحاد الأوروبي ما بعد كورونا فلن تبقى له تلك الرؤية المستقبلية، التي تبناها مؤسسين التكتل. فمفاهيم الانسجام والتعاون والمصير المشترك لم تتجسد في مواجهة "كوفيد-19″، بل اكتفت دول الاتحاد الأوربي بقوانينها وحماية شعوبها، ومؤسساتها، بعيداً عن ميثاق وقوانين الاتحاد. ليطرح السؤال أين هو مفهوم الاتحاد، ولماذا لم ترجع دول الاتحاد الأوروبي إلى قوانينها المشتركة الصادرة عن البرلمان الأوروبي؟
لذلك، أوروبا يمكن أن تنقسم إلى ثلاثة توجهات، توجه يدور في الفلك الصيني، والثاني يتبع المصالح الروسية، والتوجه الأخير يستمر مع المصالح الأمريكية.
ختام القول، وفي إطار استشراف التوازنات القادمة يبدو أن الصين تمضي بخطى ثابتة، تحكمها المصلحة والوعي الجيوسياسي الجديد، الذي يتطلب حنكة دبلوماسية عالية. فالصين كانت معروفة بتمرّدها على مبادئ العلاقات الدولية، كما كان الحال في فترة "ماو تسي تونغ". إلا أنها في السنوات الأخيرة اتخذت استراتيجية خارجية محورها تطوير الحوار والتنمية على المستوى الدولي، وتغليب البعد البراغماتي على البعد الأيديولوجي، كسياسة تتبعها مع دول العالم، وتوسيع نفوذها في العلاقات الدولية عن طريق الانخراط في التكتّلات الإقليمية والدولية كمجموعة "البريكس"، وأتت جائحة فيروس "كوفيد- 19" لتفرز الدور المحوري للصين داخل الساحة الدولية في المستقبل القريب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.