منذ أكثر من عشر سنوات، في أمسية شتوية من أمسيات سان دييغو San Diego الدافئة طال النقاش بيني وبين صديق قديم -يعمل استشارياً في وكالة ناسا وتنفيذياً في إحدى كبريات شركات صناعة الإلكترونيات- حول مستقبل هذه الصناعة في الولايات المتحدة وباقي دول الغرب. كان حديثاً ذا شجون، حيث أخبرني بأن لهيب العولمة قد طال زملاءه وفقد قرابة الثلاثين ألف مهندس ومبرمج وظائفهم في شركات مثل هيوليت – باكارد HP الشهيرة وكوالكم Qualcomm لصالح المهندسين الصينيين والهنود. قامت الرئيسة التنفيذية لإحدى الشركات بتسريح أكثر من عشرة آلاف مهندس، والسبب المقنع جداً لحمَلة الأسهم هو أن راتب المهندس الصيني أقل 8% من راتب المهندس في السيليكون فالي – وعليه تمت مكافأة السيدة بـ150 مليون دولار على خطة إعادة الهيكلة – هذا المشهد العبثي لم يدُر بمخيلة الكثيرين الذين قرأوا افتتاحيات نيويورك تايمز ووول ستريت جورنال، وتشبعوا بمقالات توماس فريدمان وكتابه الشهير شجرة الزيتون والسيارة الليكزس، وتنظيرات ميلتون فريدمان – مستشار رونالد ريغان وديكتاتور تشيلي الجنرال أوجستو بنوشيه – وفريدريك فون هايك -مستشار مارغريت تاتشر- الذين بذلوا جهداً خرافياً لإقناع الساسة والتأثير في الرأي العام بأهمية بل وحتمية فتح الأسواق وتعزيز اقتصاد السوق وتحرير التجارة العالمية.
مشكلة هيكلية
حينما انطلق قطار العولمة مع دعاية غير مسبوقة من كل وسائل الإعلام ودعم لا نهائي من المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي "IMF"، البنك الدولي "World Bank"، منظمة التجارة العالمية "WTO"، كل هذه الهيئات الدولية والقنوات التليفزيونية والصحف العالمية يبشرون العالم بنمو اقتصادي غير مسبوق للغرب، وقروض ميسرة تساعد الدول الفقيرة كثيفة العمل والفقيرة تكنولوجياً على تحقيق معدلات نمو مرتفعة. كل هذه البروباغندا لم تسفر عن أي قيمة مضافة، لأن ثمار هذا النمو لم تتساقط على كل فئات المجتمعات كما يروّج منظِّرو العولمة وعرابوها. ففي الولايات المتحدة وباقي الدول الصناعية الغربية انحسرت الأرباح الخرافية في فئة محدودة للغاية، سواء في الغرب -كبار المستثمرين وكبار المديرين التنفيذيين- أما في الدول النامية وباقي الدول الفقيرة فجنى أصحاب السلطة والحظوة وكبار الفاسدين من السياسيين والجنرالات كل الثمار.
تحالف غير مقدس بين الفساد والاستبداد وأباطرة المال
يساهم أغنى أغنياء الولايات المتحدة أقل من 0.25% من السكان بالتبرع بـ80% من التبرعات السياسية وكذا تساهم الشركات العابرة للقوميات والمستفيد الأول من العولمة – بشكلها المتوحش الذي يعبر عن رأسمالية منزوعة الرحمة – بـ 10 أضعاف ما تنفقه المجموعات العمالية والمنظمات غير الربحية في الحملات الانتخابية، فمن الطبيعي أن تتطابق أجندات السياسيين وهذه الشركات وتتم إجازة كافة القوانين التي تصب في مصلحة الاقتصاد المعولم، رغم كل صرخات دعاة الاقتصاد المؤنسن والمدافعين عن البيئة. وهذا يوضح إصرار صندوق النقد الدولي على اعتبار الاتفاقيات التي يبرمها مع حكومات ليست اتفاقيات دولية ولا تستلزم موافقة برلمانات هذه الدول، وكذا لابد من اعتبار السرية والكتمان التام لهذه الاتفاقيات حتى تمر هذه الاتفاقات التي تخدم أجندات الشركات العابرة للقوميات والحكومات التي تدور في فلكها. ولكي نفهم ضرورة السرية علينا دراسة أسباب استقالة بيني جولدبيرج من وظيفتها ككبيرة لاقتصاديي البنك الدولي، والتي فجرت فضيحة دولية. فقد رفض البنك نشر ورقة بحثية هامة تحلل العلاقة بين المنح والقروض المقدمة لدول العالم الثالث وتضخم حسابات المسؤولين لهذه الدول في الملاذات الضريبية. وقد استقالت الأكاديمية النزيهة ثم تم نشر البحث على موقع جامعة كوبنهاغن لكي يبرهن على فساد تلك المنظمات الدولية وتسترها على نهب منظم مقابل تنفيذ تعليمات هذه المنظمات "Elite Capture of Foreign Aid: Evidence from Offshore Bank Accounts"، وهذا غيض من فيض يوضح الفساد الممنهج والمؤسسي المتبع من قِبل أكبر مؤسستين ماليتين دوليتين.
تغييرات حتمية ما بعد الجائحة
نحتاج جميعاً إلى وجود بدائل تركز على ضرورة إنتاج كل دولة للمستلزمات الأساسية من الغذاء والدواء والعديد من السلع الرئيسية. إن الاعتماد على الدول الأخرى في إنتاج السلع الأساسية أثبت فشله في حالات الطوارئ مثلما حدث مؤخراً أثناء اشتداد الجائحة. لابد من تكثيف عمليات الإنتاج المحلية وتشجيع الصناعات الوطنية. التغيير قادم لا محالة ليس فقط في محاذير السفر والصناعات الترفيهية فحسب، بل هناك تغييرات هيكلية في سوق العمل والتخصصات الدراسية. هناك تغييرات جذرية في كيفية التجارة الدولية وقوانين الحماية الجمركية التي ستحمي الصناعات الوطنية والتي بدورها سترفع معدلات التشغيل إلى الحد الأقصى وتقلل من معدلات البطالة التي بلغت مستوى قياسياً يمثل خطراً حقيقياً على الأمن والسلام الدوليين.
على أبواب مستقبل جديد
من المتوقع أن تدور معركة كبرى وصراع شديد خلال الشهور القادمة بعد انقضاء الجائحة وعودة الحياة تدريجياً بين أنصار الاقتصاد المؤنسن والمدافعين عن البيئة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية ضد مروجي العولمة واليمين الشعبوي والديكتاتوريات السلطوية ورعاة الانقلابات العسكرية والشركات العابرة للقوميات والمؤسسات الدولية -التي وضح فسادها- وباقي منظومة الفساد الدولي.
الطريق ليس سهلاً والخصوم لديهم الثروة والإعلام المضلل ونحن لدينا الوعي والإصرار على الانتصار للقيم الإنسانية النبيلة. دعونا ننظر نحو مستقبل تتحقق فيه الحرية والإخاء والمساواة وينتصر الحق والخير والجمال على القبح والفساد، ولعل الانتخابات الأمريكية القادمة تكون بداية البداية نحو عالم أكثر عدلاً واقتصاد أكثر إنصافاً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.