كشفت صحيفة The Washington Post الأمريكية عن أصغر ضحايا مجزرة نيوزيلندا التي أودت بحياة 50 شخصاً كانوا يؤدون صلاة الجمعة 15 مارس/آذار 2019.
وتقول الصحيفة الأمريكية إن موكاد إبراهيم كان يرتدي جوربين بيضاوين صغيرين، من النوع الذي لا يجعل الصغير ينزلق، عندما ذهب بصحبة أبيه وأخيه إلى مسجد النور في المدينة.
لا يزال حذاؤه أمام المدخل، حيث تركه عند وصوله لصلاة الجمعة. عيناه البنيتان الكبيرتان، اللتان كانتا تشعان بالضحك، أُغلقتا إلى الأبد في أثناء نقله إلى سيارة الإسعاف. كانت هذه آخر مرة تراه فيها عائلته.
تأمل عائلته أن تتمكن أخيراً من تغسيل وتكفين جسده الصغير ودفنه الإثنين 18 مارس/آذار 2019، متأخرين كثيراً عن التقاليد الإسلامية التي تدعو إلى دفن الجثث بسرعة، خلال اليوم الأول تحديداً.
أصغر ضحايا مجزرة نيوزيلندا
كان موكاد يبلغ من العمر 3 سنوات، وُلد في نيوزيلندا لعائلة صومالية هربت من الحروب المشتعلة ببلادها منذ أكثر من 20 عاماً.
كتب أخوه الأكبر "عبدي" ينعاه على فيسبوك بعد مجزرة نيوزيلندا : "موكاد كان نشيطاً، ومفعماً بالحيوية، ويحب الابتسام والضحك. سنفتقدك أخي العزيز".
كان الأصغر بين 50 ضحية قُتلوا في الهجمات التي شنها مسلّح على مسجدين، الجريمة التي صدمت نيوزيلندا وهذه المدينة على وجه الخصوص، والتي استدعت إلى ذاكرتها المأسوية ذكرى الزلزال المدمر عام 2011 والذي أودى بحياة 185 شخصاً.
ومثل مذبحة مدرسة ساندي هوك في كونيتيكت وما سببته من ألم وحزن، بسبب براءة الضحايا في الصف الأول، هكذا غلّف مقتل موكاد هذه الكارثة الإنسانية غير المبررة.
قال محمود حسن، أحد أعضاء المجتمع الصومالي في نيوزيلندا الذي يتألف من نحو 60 عائلة: "كان يمكن أن يكبر ليكون دكتوراً نابغاً أو رئيساً للوزراء". ثم هز رأسه، تعبيراً عن غضبه بسبب حادثة القتل الجماعي، وتساءل: "لماذا؟!" .
حمله أبوه، عدان إبراهيم، عند الظهيرة ليصحبه إلى صلاة الجمعة في المسجد، كما اعتادوا. وبعد الصلاة، كان الصغير معتاداً الذهاب للعب الكرة في متنزه هاغلي، مع أخيه "عبدي".
ركض نحو المسلح وسط الفوضى
ولكن عندما اقتحم المسلح المسجد بعد نحو 10 دقائق من الخطبة وبدأ ينهال على الجميع برصاصاته دون تمييز، بدا أن موكاد اعتقد أنه مشهد من لعبة الفيديو التي يلعبها إخوته الكبار. وقال حسن إنه ركض نحو المسلح. ووسط الفوضى، ركض والده وأخوه في اتجاهات مختلفة.
وبعد انتهاء المذبحة، حمل أحد المصلين موكاد إلى المسعفين فور وصولهم.
وفي مساء الأحد 17 مارس/آذار 2019، كان الأب ينتظر بالمستشفى؛ آملاً أن يرى أصغر أبنائه منذ أن قُتل، وأن يكون يوم الإثنين هو اليوم الذي يدفنه فيه أخيراً إلى مثواه الأخير.
وكتب "عبدي": "إنا لله وإنا إليه راجعون. سنفتقدك أخي العزيز". هناك حالة من الإحباط بين العائلات، بسبب طول المدة الزمنية التي تستغرقها السلطات لتسليم الجثث إلى ذويهم.
قالت رئيسة الوزراء جاسيندا أرديرن، خلال مؤتمر صحفي، الأحد 17 مارس/آذار 2019، إن بعض الجثث سيتم تسليمها إلى ذويهم في مساء اليوم نفسه، وإنها تأمل تسليمها جميعاً بحلول يوم الأربعاء 20 مارس/آذار 2019.
وصاحت إحدى النساء على شاشات التلفاز: "أعيدوا لنا جثثهم فحسب". كان ذلك بعد ظهيرة يوم الأحد، حيث اجتمع أعضاء المجتمع الإندونيسي معاً، لدعم عائلة ليليك عبد الحميد، المهندس بطيران نيوزيلندا، والذي قُتل في الهجوم.
بينما تعاني العائلات لتسلُّم جثت الضحايا
ويعمل 90 من ضباط تحديد هويات ضحايا الكوارث، من بينهم 20 من الخارج، على تحديد هويات ضحايا مجزرة نيوزيلندا .
ولكن الطبيب الشرعي في كرايست تشيرش قال إن العملية تستغرق وقتاً؛ حيث تشمل التعرف على الملابس والحصول على السجلات الطبية وبصمات الأصابع.
وقال والي هاوماها، نائب مفوّض الشرطة، إنه يتفهم أن عدم القدرة على الامتثال للتعاليم الدينية للجنائز يزيد من صدمة الأسر.
وقال يوم الأحد: "تركيزنا الوحيد حالياً هو إعادة الجثث إلى ذويهم وأحبائهم، لاتباع تقاليدهم الثقافية بتغسيل وتكفين ودفن أحبائهم".
واستُخدمت معدات ثقيلة لحفر عشرات المقابر في المقبرة التذكارية بمدينة كرايست تشيرش، بمكان ليس بعيداً عن المسجد الثاني الذي تعرض للهجوم. وتم تخصيص دار جنائز محلية لتسليم الجثث إلى العائلات، لجراء عملية الغُسل.
ولكن، لا تزال الأسر لا تعلم أين ستقام الجنائز، حيث لا تزال المساجد في كرايست تشيرش مغلقة.
ويستمر توافد النيوزيلنديين لتقديم التعازي
وأمام مسجد النور، حيث قُتل 41 من الضحايا، استمر توافد الناس يوم الأحد 17 مارس/آذار 2019، إلى السياج الأمني الذي تفرضه الشرطة في المتنزه المقابل للمسجد. حيث يضعون الزهور ويتركون كتابات تعبر عن التعازي والتشجيع بمختلف اللغات.
بعضهم حمل لافتات تعرض المعانقة والمواساة؛ والبعض قدّم لأسر ضحايا مجزرة نيوزيلندا مخبوزات منزلية. وأدى أعضاء فريق الدراجات النارية "بلاك باور" رقصة الهاكا، في الشارع المقابل للمسجد، وهي رقصة تقليدية للماوريين، السكان الأصليين للبلاد، تعبّر عن القوة والوحدة.
ويتوافد أعضاء الجالية الإسلامية جيئة وذهاباً بين مركز الأُسر الذي تم إعداده في كلية المجتمع والمستشفى، عبر المتنزه المقابل للمسجد.
وارتدى الرجال الباكستانيون قمصان الرغبي السوداء على القميص السلوار التقليدي. بينما كان النيوزيلنديون من الأصول البنغالية والسورية والفلسطينية والهندية يحيي بعضهم بعضاً بالعناق والبكاء. وترددت أصوات الترحيب العربية عند مدخل المستشفى.
قدّم إبراهيم عليّ، زعيم الجالية الصومالية، التحية لبعض الأشخاص الذين لم يتعرف عليهم، وسألهم: "مرحباً، من أين؟"، فأجابه رجب الذي يرتدي القبعة الإسلامية المعروفة: "أوكلاند". فقال له: "لا، قبلها". وكانت عائلاتهم من فيجي.
في هذه اللحظة، بدا واضحاً أن الجميع نيوزيلنديون.
وقال سعيد عبد القادر، الذي قُتل والده البالغ 70 عاماً في مجزرة نيوزيلندا : "لن يغيّر ذلك من شعوري تجاه نيوزيلندا". بينما قال المشتبه فيه الأسترالي إنه ارتكب هذه الجريمة هنا تحديداً، ليسبب صدمة في بلد يعتبر نفسه دائماً ملاذاً آمناً. وكان عبد القادر متأخراً عن الذهاب إلى المسجد في هذا اليوم، ولم يصل إلا بعد رحيل المسلّح.
وقال: "هذا هو ما يريده الإرهابي". ثم تذكر كيف كان أبوه يحب السير عبر متنزه هاغلي في طريقه إلى المسجد. واختتم قائلاً: "أراد منّا الإرهابي أن نشعر بعدم الأمان في أي مكان. ولكننا نعرف نيوزيلندا أكثر منه".