على مدار العطلة الأسبوعية الماضية، توجهت أنظار العالم نحو شوارع باريس حيث وقعت صداماتٌ بين آلاف المتظاهرين وقوات الشرطة الفرنسية واندلعت النيران ساعاتٍ، في واحدٍ من أصعب التحديات التي يواجهها الرئيس إيمانويل ماكرون حتى الآن.
وحسب تقرير نشرته صحيفة Los Angeles Times الأميركية، فإن باريس تبقى مجرد فصلٍ من قصةٍ أكبر بكثيرٍ، إذ جاء جزءٌ من هذا الغضب الجامح تجاه تخطيط الدولة لزيادة الضريبة على وقود الديزل من محافظات فرنسا، حيث يعتبرون ماكرون شخصاً متمدِّناً يحابي الأثرياء ويفتقر إلى تفهُّم وضع سكان الأرياف الفرنسيين.
130 ألفاً شاركوا في المظاهرات
وحسب الصحيفة الأميركية، فقد قدَّر وزير الداخلية الفرنسي أن نحو 136 ألف شخصٍ قد نزلوا إلى المسيرات، أو شاركوا في الاحتجاجات بجميع أنحاء البلاد على مدار العطلة الأسبوعية. وفي مدينة تولوز الجنوبية الغربية، أسفرت الاحتجاجات عن إصابة 57 شخصاً، من بينهم 48 شرطياً. وشرقاً بمحاذاة الساحل الفرنسي، لقي سائقٌ حتفه في بلدة آرل بعد أن اصطدمت شاحنته بحاجزٍ وضعه المتظاهرون. وفي مدينة أربونة، أضرم المتظاهرون الحريق في مقرٍّ لمحصلي الضرائب.
وحتى في باريس، قال المدَّعي العام ريمي هايتز، إن معظم المُعتَقَلين الـ378، خلال العطلة الأسبوعية، قد جاءوا من محافظاتٍ خارج العاصمة باريس.
حركة Gilets Jaunes، أو "السترات الصفراء"، حيث يرتدي المحتجُّون السترات اللامعة المفروض على السائقين الاحتفاظ بها في سياراتهم على الدوام، بدأت أولاً باعتبارها رد فعلٍ على الضريبة المخطَّط لها على وقود الديزل، والمقرَّر تطبيقها في يناير/كانون الثاني 2019، باعتبارها جزءاً من جهود ماكرون لمكافحة تغير المناخ.
ويقول سكان الأرياف الأكثر اعتماداً على سياراتهم لأجل أعمالهم وحياتهم اليومية، إن الضريبة ستكون ظالمةً لهم. ولكن الحركة قد كشفت كذلك عن حالة اضطرابٍ تغلي بمناطق بعيدةٍ عن باريس في فرنسا. وبالنظر إلى المشاكل الضمنية المتأصلة، فلم يعد الحديث عن ضريبة الوقود، ببساطةٍ، كافياً لتسوية هذا التوتر.
حتى إن ماكرون نزل بنفسه لتفقُّد آثار التظاهرات
عاد ماكرون، الأحد 2 ديسمبر/كانون الأول 2018، من قمة العشرين الاقتصادية في الأرجنتين، ليجد أخطر أزمةٍ حدثت إبان فترة رئاسته، التي بدأت منذ 18 شهراً. وتفقَّد الأضرار، وطلب من رئيس وزرائه عقد سلسلةٍ من الاجتماعات الطارئة مع قادة جميع الأحزاب السياسية الكبرى وممثِّلي حركة "السترات الصفراء"، التي لا تملك منظمةً رسميةً.
ويوم الإثنين 3 ديسمبر/كانون الأول 2018، لم تكن هناك فائدةٌ من العودة إلى الوضع الطبيعي. فشركة Vinci، وهي شركة مقاولات خاصةٌ تتولى كثيراً من مشاريع الطرق السريعة في جنوب فرنسا، كانت لا تزال بصدد نشر قائمةٍ طويلةٍ من الانسدادات في شبكاتها، كان من بينها 70 موقعاً من مواقع الاحتجاجات، والتي يعوق بعضها الوصول إلى طرقٍ كبرى. وفي هذه الأثناء، حتى طلاب المدارس الثانوية قد نظَّموا مسيراتٍ تعاطفية مع الحركة.
وحسب تقرير نشرته صحيفة Los Angeles Times الأميركية، فإنها تعتبر التظاهرات انتفاضة مربكة، لأنها ليست نتيجة تخطيط جماعةٍ منظمةٍ. ومع أن الفرنسيين اعتادوا الإضرابات، فعادةً من تنادي بها هي النقابات والأحزاب السياسية الكبرى، وحينئذٍ يكون هناك في أغلب الأحيان سابق إنذارٍ.
وحين قرَّر موظفو السكك الحديدية الفرنسية الإضراب عن العمل 3 أشهرٍ خلال الصيف الماضي، نشروا جدولاً زمنياً لمواعيد الإضرابات، لكي يستطيع المسافرون تخطيط رحلاتهم بناءً على ذلك.
على النقيض، تشعر بأن احتجاجات "السترات الصفراء" أشبه بانتفاضةٍ، حتى في ظل إصدار بعض النقابات بياناتٍ لتقديم الدعم والتضامن، ما يزيد الإحساس بالشك والترقب. إلا أن مؤشرات هذا الصدع موجودةٌ منذ سنواتٍ.
وفقاً للإحصاءات من المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية INSEE، يعيش قرابة 60% من الشعب الفرنسي الآن في المدن الكبرى، التي تمثِّل 7% من مساحة أرض الدولة. بينما على النقيض، تغطي أرياف فرنسا 70% من مساحة أرضها، ولكنها موطن 23% فقط من التعداد السكاني، وهي نسبةٌ مطَّردة في النقصان. أما البقية فيعيشون في نوعٍ من الضواحي الممتدة.
بالنسبة إلى قاطني المناطق الريفية، فإن المتاجر ومكاتب البريد وعيادات الأطباء والوظائف تستمر أعدادها في الهبوط، ما يضطر السكان إلى الاعتماد بدرجةٍ أكبر على سياراتهم، وفقاً لمعهد INSEE.
الوضع الاقتصادي واتساع الفجوة بين الريف والحضر من مسببات التظاهرات
وتقول صحيفة Los Angeles Times الأميركية، إنه إلى حدٍّ ما، يعكس الغضب المتفجر، بالأسابيع الماضية، حالة التوتر في دولةٍ تتركَّز فيها الثقافة والسياسة والاقتصاد بعاصمتها باريس. على مدار العقد الماضي، اتسعت الفجوة بين الريف والحضر أكثر وأكثر، وهو ما تدل عليه الانتخابات الرئاسية الأخيرة، إذ فاز ماكرون في الجولة الثانية من التصويت بنسبة 66%، ولكن كثيراً من الـ34% الذين صوتوا لصالح مرشحة حزب الجبهة الوطنية، اليمينية المتطرفة مارين لوبان، كانوا من المناطق الريفية المتأثرة بهذه الفجوة.
وقد شجع فوز حزبه بأغلبيةٍ ساحقةٍ في الانتخابات التشريعية ماكرون على التعجيل بالعمل على إصلاحات الضرائب بسرعةٍ متهورةٍ.
وحتى مع انخفاض شعبية ماكرون إلى 27% خلال الأسابيع الأخيرة، فقد شعرت أحزاب المعارضة بقلة الحيلة. ومن كان يتضح لهم شيئاً فشيئاً أن المصرفي الاستثماري السابق هو "رئيس الأغنياء"، شعروا بألا يوجد سبيلٌ لتوصيل أصواتهم إلى مسامعه.
وبدا أن الضريبة على الوقود ترمز إلى هذا الانفصال. فمن منظور سكان الأرياف، في حين كان ماكرون يستغل حملته ضد تغير المناخ لاكتساب مزيدٍ من الشعبية على الصعيد الدولي، لم يكن يفكر في الطبقة الوسطى في أثناء وضع السياسات. وقد أفضى هذا إلى ما أصبح أحد شعارات الحركة في مسيراتها: "يتحدَّثون عن نهاية العالم ونتحدَّث نحن عن نهاية الشهر".
اجتمعت كلودين رايفلز، مساء الإثنين 3 ديسمبر/كانون الأول 2018، بنحو 30 متظاهراً خارج حدود بلدة غاياك بالقرب من أحد مخارج طريقٍ سريعٍ. وقد أمضت كلودين عمرها كله تقريباً في هذه المنطقة الريفية بجنوب غربي فرنسا، المعروفة بنبيذها وورودها. وكانت آخر وظائفها بيع الورد، ولكنها أُرغِمت على التوقف عنها لدواعٍ صحيةٍ، وتعيش الآن على دخلٍ ثابتٍ منذ عدة سنواتٍ.
ولكن في حين ظل دخلها ممتنعاً عن الزيادة، استمرت تكاليف كل شيءٍ آخر في الارتفاع. وكانت قد فقدت الأمل في مساعدة السياسيين، ولم تصوِّت حتى في الانتخابات الأخيرة. لكن حين سمعت بعض احتجاجات "السترات الصفراء" حيال ضريبة الوقود، نشرت نداءً على موقع فيسبوك، لكي يتجمَّع الناس في منطقتها، وفوجئت حين ظهرت مئاتٌ منهم في العطلة الأسبوعية الأولى.
وفي حديثها عن الأمر، قالت: "ليس هذا بحزبٍ سياسيٍّ ولا نقابة. إن الشعب هو من يصيح، والشعب هو الغاضب".
"السترات الصفراء" في حاجة إلى قيادة واضحة للتفاوض مع الحكومة
وحسب الصحيفة الأميركية، فبعد أن جذبت انتباه الجماهير وأعاقت الحياة العامة عن الاستمرار، تواجه حركة "السترات الصفراء" تحدياتها الخاصة. لقد حافظت على الدعم الجماهيري في استطلاعات الرأي، رغم حوادث العنف. ولكن مع سعي الحكومة إلى التفاوض، تجد الحركة أنها لا تملك أية قيادةٍ واضحةٍ. وفيما عدا التراجع عن ضريبة الوقود، فمطالبها وأجندتها غير واضحة.
في تولوز، أعلن رجلٌ يُدعى بنجامين كوشي أنه المتحدث الرسمي لمتظاهري "السترات الصفراء" المحليين، وبدأ يظهر على شاشات التلفاز وبرامج الإذاعة بمظهرٍ يوحي بالهيبة والوقار في بدلته ورابطة عنقه. وحين أصرَّ المتظاهرون المحليون على أنهم لم يسمعوا عنه قط، وأنهم لا يملكون أدنى فكرةٍ عمَّن هو، "استقال" فجأةً وأعلن تأسيسه منظمةً خاصةً تحت اسم Les Citrons (الليمون).
وفي السياق ذاته، أعلن كلٌّ من لوبان ولوك ميلينشون عن دعمهما قضية "السترات الصفراء"، وميلينشون سياسيٌّ يساريٌّ متطرفٌ أُقصِي من الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية هذا العام (2018). وفي مقابلةٍ أُجرِيت بالعطلة الأسبوعية على إحدى القنوات التلفزيونية الفرنسية، قال ميلينشون: "نحن في موقفٌ يكاد يكون أشبه بتمرد".
ودعا الثنائي إلى اقتراح حجب الثقة عن ماكرون، وإلى حل الجمعية الوطنية لأجل السماح بتنظيم جولةٍ جديدةٍ من الانتخابات، لكي يصدر الفرنسيون حُكمَهم على ماكرون قبل موعد انتهاء فترته الرئاسية بعد 3 أعوامٍ ونصف العام.
سلك قادة الحكومات الإقليمية، حيث لا يزال الحزب الاشتراكي محتفظاً بنصيبٍ من السلطة، مساراً مختلفاً، إذ كانت كارول ديلغا، رئيسة منطقة أوكسيتاني، تسعى بالفعل إلى إقرار سياساتٍ متعلقةٍ بتحسين القوى الشرائية لسكان منطقتها الجنوبية، التي تشمل مدينتي تولوز ومونبلييه. وقد تضمن ذلك التفاوضَ على تخفيض أسعار القطارات المحلية، والدعم المالي للأدوات المدرسية.
وكانت ديلغا، التي تظل نسبة دعمها في استطلاعات الرأي الإقليمية 60%، واحدةً من 15 رئيساً إقليميّاً وقَّعوا على كتابٍ مفتوحٍ موجَّهٍ إلى ماكرون الأسبوع الماضي، مطالبين إياه بالاعتراف بمعاناة أعضاء حركة "السترات الصفراء"، واتخاذ مزيدٍ من الخطوات المباشرة لتوفير المساعدة لهم على المستوى الاقتصادي.
وورد في الكتاب: "سيكون خطأً جسيماً أن تُصوَّر ثورتهم كحركةٍ متطرفةٍ يتحكم فيها أقصى اليمين أو أقصى اليسار. إن حركة السترات الصفراء تعبيرٌ حيٌّ عن الصدع الإقليمي والاجتماعي في بلدنا. وهي تعبِّر عن غضب إخوتنا المواطنين".