بزي رسمي أنيق وابتسامة دائمة على وجهه، وإن كانت باهتة، كان جوزيف مينجل المُشرف على الفريق الطبي بمُعسكر أوشفيتز النازي يتحرك دوماً في طرقات مُعسكره.
الطبيب الأنيق المُبتسم معروف بين السجناء بساديّته، ووحشيته، وشعوره الحانق دائماً تجاههم، فهو يعتبرهم أدنى من أن يوصفوا بالإنسانية، ويراهم من أعراق متدنية ولا يستحقون الحياة، فكان يطلق عليهم النار، أو يحقنهم بمواد قاتلة، ليتخلص منهم.
كل ذلك في حال لم يُقرر إجراء تجاربه المُتعلقة بالنسل والخصوبة عليهم، حيث سجناء المُعتقل حقل تجارب طبية له من أجل الوصول لنتائج تزيد من نسل الألمان، وتُحسن هذا النسل.
ملاك الموت وأكثر الأطباء شراً
يُعرف جوزيف مينجل بـ "ملاك الموت"، ويُلقب أيضاً بأنه أكثر الأطباء شراً في التاريخ، ولد في 16 مارس/آذار عام 1911 بألمانيا، وارتبط اسمه بمعسكر الإبادة النازي "أوشفيتز" الذي كان يعمل فيه، واشتهر مينجل بإجراء التجارب الطبية على نزلاء المُعتقل من أجل الوصول لنتائج في دراسات عنصرية شديدة الوحشية.
كان والد مينجل مؤسس شركة تُنتج الآلات الزراعية في إحدى قرى ولاية بافاريا بألمانيا، درس مينجل الفلسفة في ميونيخ عام 1920، وحصل على شهادة في الطب من جامعة فرانكفورت عام 1933.
وانضم إلى الحزب النازي عام 1937، عن عمر يناهز 26 عاماً، ثم انضم أيضاً إلى فريق البحث في معهد أبحاث البيولوجيا الوراثية والتطهير العنصري الذي أُنشئ عام 1934، وعمل كطبيبٍ خلال الحرب العالمية الثانية.
خلال فترة تجنيد مينجل في عام 1941، تميز بالكثير من الأعمال الشجاعة في وحدته، فقد تمكن في إحدى المرات من سحب الجرحى من داخل دبابة مُحترقة.
بداية تعيينه في "بيركناو"
في عام 1943 تم تعيينه ليكون كبير الأطباء في "بيركناو" وهو مُعسكر الإبادة التكميلي لمعسكر أوشفيتز، والذي كان موقعاً للاحتجاز القسري لأسرى الحرب.
وكانت أولى جرائمه عندما وصل حديثاً إلى وحدة القوات الخاصة بالمُعتقل، حيث وجد في المُعتقل 600 امرأة فأمر بإعدامهن بالغاز على الفور، دون مُراجعة سجلاتهن الطبية!
وخلال عمله بالمُعتقل أجرى مينجل الكثير من التجارب المجنونة على نزلاء المُعتقل لاكتشاف وسائل لزيادة الخصوبة، بهدف الوصول إلى نتائج تُساعد على تحسين نسل العرق الألماني.
وقد كان الفريق الطبي برئاسة جوزيف مينجل يُشرف على إجراء تجارب غامضة على التوائم والحوامل. وكان ضحايا مينجل يخضعون لتجارب نقل الدماء، ويُحقنون بمواد غير معروفة.
وكانوا يُجبرون على استخدام محاليل تؤدي للعمى المؤقت والدائم، كما أخصي البعض، ومات بعض من خضع لتجارب مينجل تلك.
قرارات سريعة قاتلة بشأن نزلاء المُعسكر
كان المُعتقلون الذين يصلون إلى "أوشفيتز" يُحدَّد لهم ما إذا كانوا سُيرسلون إلى العمل أو سُيعدمون. وفي إحدى المرات وصلت للمعتقل امرأة وابنتها البالغة من العمر 14 عاماً، وكان القرار بإرسال الأم إلى العمل، لكنها رفضت الانفصال عن ابنتها رفضاً تاماً، لأنها علمت قطعاً بأنهم سيعدمونها.
فقرر مينجل أن يتدخل لحل الأمر، وقام بإطلاق النار على كلتيهما، ثم أمر بإرسال بقية المعتقلين إلى غرفة الغاز.
وفي مُناسبة أخرى شبّ خلاف بين مينغل وأطباء آخرين في مُعسكر بيركناو حول إصابة صبي بمرض السل من عدمها، حيث كانت علامات المرض لم تظهر بعد بشكل واضح على جسد الصبي.
غادر مينجل الغرفة وعاد بعد ساعة أو أكثر مُعتذراً عن تأخيره وعن سوء تقديره في اعتبار الصبي مصاباً بالسل. لكن ما الذي غيّر رأي مينجل؟
اتضح بأنه عندما غادر حجرة النقاش ذهب لإطلاق النار على الصبي وتشريحه بحثاً عن علامات المرض الذي لم تظهر بعد، وبعد التشريح لم يجد مينجل أثراً للمرض.
وحينما اندلع مرض التيفوس بين ثكنات النساء، قرر مينجل مُعالجة الأمر بطريقته الخاصة، فأمر بإعدام 600 امرأة بإرسالهن إلى غرفة الغاز.
وفعل الأمر نفسه مرة أخرى بعد بضعة أشهر خلال اندلاع الحمى القرمزية بين النساء أيضاً، وقد كان يترك الثكنات نظيفة وجاهزة لاستقبال دُفعات جديدة خالية من المرض وقادرة على العمل.
بسبب كل هذا، كان الناجون من معسكر بيركناو إذا سئلوا عن اسم القاتل الأكثر وحشية في المُعسكر بأكمله يذكرون اسم الدكتور جوزيف مينجل.
اهتمام مينجل الدموي بالتوائم
كان اهتمام مينجل الرئيسي هو إجراء الأبحاث عن التوائم، حيث كان مولعاً بنظريات علم الوراثة والنظريات العنصرية التي شكلت تفكيره خلال فترة دراسته في ميونيخ، ومنذ انضمامه إلى الحزب النازي، كتب مينجل مقالات تتعلق بالتغيرات العرقية والتشوهات الجينية.
وقد كانت هذه المقالات سبباً في تعيينه في أوشفيتز وفرصة لوضع هذه النظريات القاتلة موضع التنفيذ على كائنات حية. اهتم مينجل في أبحاثه بدراسة تأثير الوراثة على السمات الجسدية المُختلفة، من أجل تحسين النسل الألماني أيضاً.
كانت التوائم المُتطابقة مُفيدة لهذا النوع من بحوث الوراثة كونهم يمتلكون جينات مُتطابقة، وأي اختلافات بينهم تكون نتيجة لعوامل بيئية، وهو ما جعلهم حقل تجارب مثالي لمينجل، لأنه يستطيع مُقارنة وتناقض أجسام التوائم وسلوكهم تجاه المواقف المُختلفة بعد تنحية تأثير العوامل الوراثية.
جمع مينجل المئات من أزواج التوائم، وقضى ساعات طويلة في قياس الأجزاء المُختلفة من أجسادهم، وأخذ ملاحظات بالغة الدقة حولهم. وكان يقوم في كثير من الأحيان بحقن توأم واحد بمواد غامضة، ثم يبدأ برصد الأمراض التي تصيبه جراء دخول هذه المواد إلى جسده.
وكان يشبك أطراف الأطفال بالمشابك المؤلمة من أجل إحداث الغرغرينا لهم، وكان أيضاً يحقن الصبغات في عيونهم، وعندما يتوفى الشخص الخاضع للاختبار فإنه يقتل توأمه على الفور من خلال حقن قلبه مُباشرة بمادة الكلوروفورم القاتلة. ثم يقوم بتشريح الجثتين للمُقارنة بينهما.
وفي إحدى تجاربه قتل مينجل 14 زوجاً من التوائم بهذه الطريقة، وبعد قتلهم قضى ليلته بلا نوم مُنشغلاً بإجراء عمليات التشريح على الجثث الـ28. ويُقال إن عدد ضحايا تجارب مينجل على التوائم بلغ 1500 زوج من دون تخدير، نجا منهم 200 زوج فقط.
ويُقال إن وحشية مينجل وتجاربه الطبية المجنونة تسببت في وفاة أكثر من 400,000 ضحية من نزلاء أوشفيتز.
تمكن مينجل من الهرب بهوية مزيفة
بعد الحرب نجح مينجل في الإفلات من العقاب وتمكن من الهروب عقب هزيمة النازيين. ففي يناير/كانون الثاني عام 1945، تم تفكيك مُعسكر أوشفيتز، وخرج السجناء الجوعى المرضى هائمين على وجوههم، بينما قام مينجل بجمع ملاحظاته البحثية وعيناته، وتركها مع صديق موثوق، واختفى تماماً حتى لا يتم اعتقاله.
نجح مينجل بالفعل في تجنب الحلفاء المنتصرين حتى يونيو/حزيران، حيث ألقت حينها دورية أميركية القبض عليها، ورغم أنه كان يُسافر مُستخدماً هويته الحقيقية، فإن قائمة المجرمين المطلوبين لم توزّع بكفاءة، وسمح له الأميركيون بالرحيل.
بعدها عمل مينجل لمدة أربعة أعوام كحارس إسطبل بمزرعة في إحدى قرى بافاريا، وفي عام 1949 قرر الخروج من البلاد.
تمكن مينجل بالفعل من الهرب إلى أميركا الجنوبية عبر إيطاليا، وفي الخمسينيات افتتح عيادة طبية غير مرخصة في بوينس آيرس، عاصمة الأرجنتين، حيث تخصص في إجراء عمليات الإجهاض غير القانونية. تم القبض عليه عندما توفيت إحدى مريضاته، لكن وفقا لأحد الشهود، فقد ظهر أحد أصدقائه في المحكمة بظرف مملوء بالنقود للقاضي، مما أدى إلى إغلاق القضية.
ثم في عام 1961 انتقل إلى البرازيل، وكانت حكومات البرازيل والأرجنتين وباراغواي حينها مُتعاطفة للغاية مع النازيين الهاربين الذين لجأوا إلى بلدانهم. غيّر مينجل اسمه إلى "فولفغانغ غيرهارد"، وعاش في منزل كان يملكه زوجان مجريان.
وفي عام 1979 توفى منجيل إثر إصابته بسكتة دماغية أثناء السباحة، ودُفن تحت اسم غيرهارد أيضاً.
لكن في 6 يونيو/حزيران عام 1985، قامت الشرطة البرازيلية في ساوباولو بحفر قبر غيرهارد، بالتعاون مع فريق خبراء في الطب الشرعي من البرازيل وألمانيا الغربية وأميركا. وأثبتت الأدلة الجنائية والوراثية في وقت لاحق وبشكل قطعي أن بقايا غيرهارد تعود إلى جوزيف منجيل.
وفي مارس/آذار عام 2016 ، منحت محكمة برازيلية حق السيطرة على رفات مينجل الذي تم استخراجه من قبر غيرهارد إلى جامعة ساو باولو. وصدر بيان رسمي من الطبيب المُختص بالقضية بأنه سيتم استخدام الرفات من قبل الطلبة في أغراض البحث الطبي