لقد كان هذا هو الأسبوع الثاني من صفّ الدين الإسلامي، ووقف المعلم منصور صديقزاي أمام فصل مليء بالشباب المسلمين، ثم أشار إلى عبارة على السبورة خلفه تقول: "الإسلام لا ينتمي إلى ألمانيا".
ثم نظر إلى الطلاب سائلاً: "مَن قائل هذه العبارة؟".
فارتفعت الأيادي، وقالت طالبة ترتدي حجاباً أزرق: "البديل من أجل ألمانيا؟"، مشيرة إلى الحزب اليميني المتطرف الذي يضطهد اللاجئين. فأومأ منصور برأسه وقال: "لا". فحاول آخر، وقال: "زيهوفر؟"، فأجاب منصور: "نعم. ومَن هو؟"، فقال ثالث: "وزير".
وأخيراً، أجاب أحدهم الإجابة الكاملة، وعرَّف هورست زيهوفر بأنه زعيم حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي المحافظ في ولاية بافاريا ووزير الداخلية في حكومة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، الذي هدَّد في عدة مناسبات بنسف حكومتها بسبب مسألة الهجرة.
فقال منصور: "نعم، هذا صحيح". والتفت للباقين قائلاً: "وماذا تظنون؟ هل هو محق؟".
بلد أوروبي منقسم بسبب الانتماء
في بلدٍ قسَّم فيه الجدال حول "مَن ينتمي إلى ألمانيا؟" حكومة ميركل، وأشعل مظاهرات ضخمة، وأجَّج صعود الشعبوية المعادية للاجئين، يواجه أولئك الشباب ذوو الستة عشر والسبعة عشر عاماً كل يوم أشكالاً مختلفة من ذلك السؤال في العناوين الرئيسية وحيواتهم الخاصة: هل أنا أيضاً أنتمي؟ هل يمكنني أن أكون ألمانياً ومسلماً في ذات الوقت؟
وتساعد المدارس الحكومية في بعض المدن الألمانية الأكثر اكتظاظاً بالسكان هؤلاء الطلاب للإجابة عن هذا السؤال عبر وسيلةٍ غير متوقعة، وهي صف الدين الإسلامي، حسب ما ذكرت صحيفة The Washington Post الأميركية.
دراسة الدين الإسلامي متاحة
يُدرِّس هذه الصفوف معلمون مسلمون، وهي موجهة إلى الطلاب المسلمين، وقد انطلقت لأول مرة في أوائل الألفية، وتُقدَّم الآن كمقرراتٍ اختيارية في تسع ولايات من أصل 16 ولاية ألمانية، عبر أكثر من 800 مدرسة ابتدائية وثانوية حكومية، وفقاً لشبكة البحوث Mediendienst Integration. وتتضمن الصفوف دروساً للقرآن، والتاريخ الإسلامي، والدين المقارن، والأخلاق. وفي كثير من الأحيان، تتحول النقاشات إلى نزاعاتٍ حول هوية الطلاب أو مشاعر الاغتراب.
قالت غولندام فيليباسوغلو، 17 عاماً، التي انضمت هذا العام إلى صف منصور لتدريس الدين الإسلامي للصف العاشر: "عندما يسألني ألماني من أي بلد أنا؟ أقول له تركيا". لكنَّها وُلِدَت وتربَّت في مدينة دورتموند بغرب ألمانيا. وأضافت: "إذا قلت (أنا ألمانية)، لن يقبلوا الإجابة. سوف يرونني دائماً أجنبية، مع أنني مواطنة ألمانية".
جديرٌ بالذكر أنَّ ألمانيا تضم أكبر عدد من المسلمين في دول الاتحاد الأوروبي بعد فرنسا، بحسب تقديرات مركز Pew Research للأبحاث. إذ بلغ عدد المسلمين في ألمانيا عام 2016 نحو 4.95 مليون مسلم، أو 6.1% من تعداد سكانها. ولكن لا يواظب على الصلاة سوى أقل من نصف هذا العدد، ومن يرتاد المساجد أقل منهم بكثير، وفقاً للاستطلاعات الأخيرة التي أجرتها الحكومة.
مسؤولون لا يقبلون المسلمين
لكنَّ قادة ألمانيا أعربوا عن وجهات نظر متناقضة بشأن الإسلام. إذ أتت مقولة زيهوفر "الإسلام لا ينتمي إلى ألمانيا" بعد أشهر قليلة من دخول حزب البديل من أجل ألمانيا المعادي للإسلام البرلمان. ومع ذلك، حاز الحزب دعماً متزايداً على مدى العامين الماضيين. وفي 14 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حقق الحزب مكاسب انتخابية أكبر من أي حزب في بافاريا، التي تُعَد أكثر الولايات الألمانية اكتظاظاً بالسكان.
وفي العام الماضي 2017، علَّق الحزب ملصقاتٍ في مدينة دورتموند تحمل صوراً لنساء مرتديات النقاب وشعار "أوقفوا الأسلمة". بينما حملت ملصقات العام الجاري جملة "مدارس خالية من الإسلام"، تحت صورة لخمسة أطفال سعداء من ذوي البشرة الفاتحة.
وقال منصور، الذي وُلد في مدينة بوخوم الألمانية لأبوين أفغانيين، ويطلق لحيته ويرتدي حذاء نايكي للذهاب إلى المدرسة، إنَّه خائف من تأثير ذلك في طلابه. وأضاف: "هذه الملصقات تقول لهم: (نحن لا نريدكم هنا)".
وأردف: "لا أحد يقبلهم في ألمانيا، ولا أحد يقبلهم في بلادهم الأم، مما يخلق عندهم رغبة في الانتماء إلى جماعةٍ ما. ثم يأتيهم أحد الإسلاميين ويقول: (أنت لا تنتمي إلى أي أحد، فكن مسلماً فقط). ويعرضون عليهم طريقاً ثالثاً".
ويرى منصور أن توعية طلابه بمواجهة تلك الإغراءات جزءٌ من عمله.
جماعات الطرف الثالث
وفي وقتٍ مبكر من العام الجاري، حين ناقش ساسة محليون منع الحجاب، أطلقت جماعة، تطلق على نفسها اسم Reality Islam أو "الإسلام الحق"، حملةً عبر مواقع التواصل الاجتماعي، للاحتجاج على الاقتراح، وضمِّ الطلاب إلى صفوفها.
وأوضح منصور لطلابه كيف ترتبط هذه الجماعة بحزب التحرير المتطرف الذي حُظر في ألمانيا منذ عام 2003. وشجعهم أيضاً على التشكيك في موقف الجماعة من الحجاب، التي ادَّعت أن القرآن فرضه على النساء.
وقال منصور: "أُريهم الآيات القرآنية التي تتحدث عن الحجاب، ونناقشها معاً، ولا نجد قاعدة واضحة تجبر النساء أو الفتيات على ارتداء الحجاب. يعتقد معظمهم أن القرآن لا يحمل تناقضات، وحتى هذا تصور خاطئ. إذ توجد العديد من التناقضات في القرآن".
تعليم الدين الإسلامي لدمج الطلاب
ويضغط بعض الساسة الألمان لنشر صفوف الدين الإسلامي في المدارس الحكومية بصفته وسيلةً للتشجيع على دمج الطلاب المسلمين ثقافياً، وتعزيز تفسيرٍ للإسلام يُسلِّط الضوء على القيم الألمانية.
إذ كتبت كيرستين غريس، المُشرِّعة المنتمية إلى الحزب الديمقراطي الاشتراكي المُشارك في الحكومة الائتلافية والمنتمي إلى تيار يسار الوسط، في مقال رأي لها: "نحتاج إلى المزيد من التعليم الديني؛ لأنها الطريقة الوحيدة التي نستطيع بها أن نبدأ حواراً حول تقاليدنا وقيمنا، وأن نفهم الآخر".
ولا يهتم هؤلاء الدعاة عموماً بتلقّي الطلاب غير المسلمين مثل هذه الصفوف لكسب إدراكٍ أوسع عن الدين الإسلامي. وبينما تُقدِّم بعض أنظمة المدارس الألمانية صفوفاً دينية تتضمن معتقدات عديدة، أو دروساً أخلاقية تتناول الدين بسطحية، فالدين الذي يُدرَّس في المدارس الثانوية الحكومية بدعمٍ من القانون الأساسي الألماني يستهدف عموماً فئاتٍ معينة.
التطرف الديني سبب آخر
وثمة سببٌ آخر لتدريس صفوف الدين الإسلامي، وهو "تحصين" الطلاب المسلمين من التعصب الديني، على حد قول هاينريش بيدفورد-شتروم رئيس الكنيسة البروتستانتية في ألمانيا.
وما يثير قلقاً كبيراً هو التطرف الذي قد يؤدي إلى العنف؛ إذ ترك ألمانيا أكثر من 1000 شخص منذ عام 2013 ليقاتلوا في صفوف تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ومنظمات إرهابية أخرى، أو يدعموها، ومعظمهم تحت سن الثلاثين.
لكن هناك أصوات معارضة
لكنَّ بعض المعلمين والساسة يعارضون فكرة وجود الإسلام داخل المدارس الحكومية الألمانية.
إذ قال ألكسندر غاولاند أحد قادة حزب البديل من أجل ألمانيا بعد مقترح بيدفورد – شتروم: "بالإضافة إلى حقيقة أنَّ لدينا مشكلاتٍ أهم بكثير داخل مدارسنا، من المستحيل أن يعزز أسقف ألماني صورة الإسلام".
ولم تختبر بعد أي دراسات مدى تأثير صفوف الدين الإسلامي لمنع التطرف، وفقاً لما ذكره هاري هارون بير أستاذ الدراسات الإسلامية وعلم أصول التدريس في جامعة غوته بفرانكفورت.
ومع ذلك، قال إنَّ هذه الصفوف مهمة؛ لأنها تظهر للطلاب أن معتقدهم لا يقل أهمية عن المعتقدات الأخرى التي تُدَرَّس في مدارسهم، ولأنها تظهر الإسلام ديناً منفتحاً على التفكير والنقد الذاتي.
إقبال كبير على هذا الصف الدراسي
يحظى صف الدين الإسلامي بشعبية واسعة داخل مدرسة منصور، حيث ينتمي نحو 95% من الطلاب إلى الجيلين الأول والثاني من المهاجرين. وعندما يمشي منصور في فناء المدرسة، نادراً ما يستطيع أن يمشي خمس خطوات دون أن يوقفه أحد الطلاب ليسأله عن الدرجات أو الحب أو خطط المستقبل.
وقال يوسف أكار، أحد الطلاب البالغ من العمر 17 عاماً: "ما يدرسه لي الأستاذ منصور هو شيء لا تتعلمه في المسجد. كيفية التفاعل مع غير المسلمين الذين قد لا يكونون متيقنين من كيفية التفاعل معنا. أو الذين يخافون منا".
لكنَّ الأمر لا يقتصر على ذلك؛ إذ قال أكار: "يظهر لي ذلك مدى الترحيب بي هنا؛ لأنَّ المدرسة لم تعد تطلب منَّا أن نبتعد عن ديننا. إنهم يقبلونه، بل ويخلقون الفرصة لتتعلمه. وهذا هو ما يعطيني شعوراً بأنني جزء من هذا المجتمع".