تحولت المدارس السودانية في مصر إلى صداع في رأس الحكومة بعد أن أخذت في التوسع والتمدد دون ضوابط أو قوانين منظمة لعملها، بعدما أصبحت عملية تجارية بحتة لدى مصريين وسودانيين استغلوا توقف العملية التعليمية في السودان وفرار مئات الآلاف من الطلاب إلى مصر لتحقيق مكاسب طائلة.
وهو ما تتخذه جهات أمنية مدخلاً للتعامل مع الوافدين إلى المحافظات المصرية دون أوراق ثبوتية أو تأشيرات إقامة، مع انتهاء المهلة التي وضعتها لتوفيق أوضاع الجاليات الأجنبية بنهاية الشهر المنقضي.
المدارس المجتمعية تحولت إلى تجارة
ولا يوجد في مصر سوى ثلاث مدارس سودانية تحصل على تراخيص عمل رسمية من السفارة السودانية ووزارة التربية والتعليم المصرية وتقوم بتدريس المناهج السودانية، إحداها تعرف بالمدارس المجتمعية أغلقتها السلطات بعد حملة في محافظتي القاهرة والجيزة.
وقال صاحب أحد المدارس المجتمعية بالسودان ل"عربي بوست" إن الطلاب الفارين من الحرب لم يجدوا سبيلاً للتعليم سوى من خلال المدارس المجتمعية التي يشرف عليها معلمون سودانيون إلى جانب بعض المصريين الذين اتجهوا لافتتاح مقار تعليمية لتدريس المناهج السودانية.
وأضاف المتحدث أن هذه المدارس تبقى تجارية بعدما كانت تحظى برعاية جهات دولية قدمت لها دعمًا ماديًا ولوجستيًا، وبالتالي تلاقت مصالح الأسر السودانية التي تبحث عن مكان يأوي أبناءها تعليميًا، ومن قرروا الاتجار في التعليم والاستفادة من عدم وجود مؤسسات تعليمية مقننة يمكن أن تستوعب مئات الآلاف من الطلاب.
وأضاف المصدر ذاته، أن تأسيس مدرسة مجتمعية في مصر لا يتطلب سوى الحصول على إذن إنشاء من جمعية أهلية وتوفير المكان والحصول على المناهج السودانية التي يتم طباعتها في مطابع منتشرة بأحياء القاهرة، أما الزي المدرسي فيتحمل الطالب تكلفته.
وأشار إلى أن الدراسة في المدارس المجتمعية محصورة في الفترة بين يونيو/ حزيران ويناير/ كانون الثاني، وفي أقصى حد يمكن أن يمتد إلى فبراير/ شباط من كل سنة دراسية، وذلك في مراحل التعليم عدا الثانوية العامة، التي تحتاج إلى اعتماد من وزارة التربية والتعليم السودانية وهو أمر لا يتحقق حاليًا بسبب توقف التعليم للسنة الثانية على التوالي.
وهو ما يشير إلى أن الغالبية العظمى من الطلاب يتجهون إلى المدارس المجتمعية فيما تتجه قلة قليلة منهم إلى المدارس الدولية وهؤلاء يشكلون طبقة الأغنياء ممن استطاعوا الفرار من السودان وأغلبهم جاء إلى مصر خلال الأيام الأولى من الحرب.
تهديدات الحكومة المصرية
وذكر المصدر ذاته، أنه افتتح مدرسته قبل عام تقريبًا، عبر استئجار بناية مكونة من أربعة طوابق في شارع فيصل الشهير بمحافظة الجيزة، وهناك ثمانية شقق سكنية كل شقة بها ثلاث غرف تحوي عشرة فصول تعليمية.
وأضاف المتحدث أن الفصل يتكون من مقاعد مجهزة للكتابة وسبورة للشرح، مشيراً إلى أنه في العام الدراسي المنقضي كان عدد الطلاب الذين التحقوا بالمدرسة لا يتجاوز 300 طالب والآن العدد وصل إلى 700 طالب وهناك قوائم انتظار تسعى للبحث عن فرصة تعليم.
ولفت إلى أنه أضحى يتخوف من غلق المدرسة في أي لحظة وفي تلك الحالة فإن الطلاب سوف يضيع عليهم العام الدراسي وكان يأمل في أن يمنحهم شهادات على أمل الاعتراف بها من جانب وزارة التعليم السودانية حال قررت استئناف الدراسة مرة أخرى.
مشيراً إلى أن المصروفات الدراسية في العام الواحد تتراوح ما بين 3000 إلى 7000 جنيه بحسب السنة الدراسية، وأنه يسعى للحصول على دعم من إحدى المنظمات الدولية العاملة في مجال رعاية اللاجئين لكنه قد لا يأتي مع تهديدات الحكومة المصرية بإغلاق المدارس.
وبحسب السفارة السودانية، فإنها "تتابع صورة التطورات الأخيرة الخاصة بإغلاق بعض المدارس السودانية بمحافظة الجيزة، بما فيها مدرسة الصداقة التابعة للسفارة السودانية، علمًا بأنها المدرسة الوحيدة التي لديها ترخيص للعمل".
تلزم مصر القائمين على المدارس بإرسال ملف كامل للمدرسة يشمل المراحل التعليمية وعدد الطلاب المنتظر تسجيلهم بالصفوف والمراحل التعليمية بالمدرسة، وإرفاق رسم تخطيطي لهيكل المدرسة.
شهادات غير معترف بها
وقال معلم سوداني يتواجد في مصر منذ عشر سنوات تقريبًا، إن المدارس السودانية يبدو أنها ستكون شرارة لانطلاق نحو ملاحقة السودانيين ممن ليس لديهم أوراق ثبوتية ولم يستطيعوا توفيق أوضاعهم خلال الأشهر الماضية، لأنها تعد أسهل طريقة نحو الوصول لتلك الأسر.
وأضاف المتحدث أن هذه المدارس لديها بيانات الطلاب وأغلبيتهم ليس لديهم إقامة قانونية، لأنهم في حال حصلوا عليها سيكون لديهم الحق في دراسة المنهج المصري الذي يبحث عنه غالبية السودانيين في الوقت الحالي مع عدم معرفتهم بموعد استئناف الدراسة في بلدهم.
وأضاف أصحاب هذه المدارس يستغلون الطلاب لأنهم يحصلون على مبالغ تفوق قيمة الخدمة التي يقدمونها لهم إذ أنها تبقى بمثابة كورسات لاستذكار الدروس وليس مؤسسة تعليمية بالمعنى الحقيقي ولا توفر بيئة تربوية يمكن الاعتماد عليها بل أنها تتحول إلى مكان يساعد الطلاب على عدم نسيان ما تعلموه من قبل.
كما أن الشهادات التي تمنحها على الأغلب لن يكون معترفًا بها، لأنها شهادة من صنع أصحابها وليس هناك ما يثبت أن هذا الطالب أو ذاك اجتاز العام الدراسي وأضحى مستعدًا للقبول بالعام الذي يليه.
وشدد على أن الأسر السودانية تبحث عن المدارس الأقل تكلفة وكان لديها سابق معرفة بأن المدارس المجتمعية هي في الأغلب مدعومة من جهات خارجية بينها منظمة الهجرة الدولية وهيئة الإغاثة الكاثوليكية لتقديم خدمات تعليمية للطلاب اللاجئين.
كما أن مفوضية اللاجئين التي كانت تقدم الدعم لها تخلت عنها مع تزايد أعدادها بصورة كبيرة ولم يكن يتجاوز عددها 20 مدرسة قبل ثلاث سنوات لتصل الآن إلى أكثر من 400 مدرسة، لكن الوضع تبدل الآن.
وتابع: "ومع ذلك فإن المدارس تبقى الخيار الأول وليس هناك فرصة للالتحاق بمدارس حكومية مصرية لأن غالبية من وصلوا إلى مصر ليس لديهم تأشيرة إقامة كما أن المدارس المصرية وهي مجانية على الأغلب لا تقبل الطلاب السودانيين بسبب مشكلات الكثافة ويبقى هؤلاء أسرى للتعليم الخاص الذي ترتفع مصروفاته عن المدارس المجتمعية التي تدرس المناهج السودانية".
إغلاق المدارس يهدد 200 ألف طالب سوداني
وحسب منظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة (يونيسف) يوجد نحو 19 مليون طفل في السودان خارج المدارس، وهي إحصائية أعلنت بعد ستة أشهر من بدء الصراع المسلح، محذرة من "كارثة لجيل بأكمله".
قالت المتحدثة الرسمية باسم مفوضية شؤون اللاجئين في مصر كريستين بشاي في تصريحات إعلامية إن الوافدين ممن تتراوح أعمارهم بين 3 و17 سنة يشكلون 33.5 في المئة من إجمالي اللاجئين بمصر، وهم في حاجة ماسة إلى خدمات تعليمية مناسبة.
وتقدر مفوضية اللاجئين أعدادهم في مصر بـ570 ألف لاجئ بينهم 300 ألف سوداني، ووفق تقديرات رسمية مصرية، يتعدى عدد اللاجئين والأجانب المقيمين في مصر تسعة ملايين أجنبي، من نحو 133 دولة، وتشير التقديرات إلى أن مصر تستضيف ما يقرب من 5 ملايين سوداني، أغلبهم تواجدوا في البلاد قبل اندلاع الحرب.
ويوضح خبير تربوي سوداني، أن التعليمات التي أرسلتها الحكومة المصرية بشكل غير رسمي لبعض القائمين على هذه المدارس بإغلاقها يهدد ما يقرب من 200 ألف طالب في المدارس السودانية المجتمعية.
وأضاف المتحدث أن هؤلاء الطلاب يعانون الأمية مع عدم الوصول إلى اتفاق حكومي بين مصر والسودان يقضي بتقنين أوضاع المدارس التي يلتحقون بها أو يضمن لهم الالتحاق بمدارس مصرية، متوقعًا أن تشهد الأيام المقبلة مزيداً من الحملات على البنايات التي لا تحقق اشتراطات السلامة وتقع في مناطق آهلة بالسكان بعد توالي الشكاوى منها.
ويضيف لـ"عربي بوست" أن السفارة السودانية بالتعاون مع أصحاب هذه المدارس يحاولون الوصول إلى حلول وسط يمكن أن تضمن استمرار الطلاب في عامهم التعليمي، غير أن خطط الحكومة المصرية بشأن التضييق على اللاجئين الذين لم يحصلوا على إقامة قانونية واتجاهها نحو ترحيلهم يبدد من فرص إيجاد حلول تضمن الحفاظ على مستقبل الطلاب.
وأشار المتحدث في تصريح لـ"عربي بوست" أن الأهداف التجارية لأصحاب هذه المدارس قد تدفع نحو غلقها في حال شعروا بأن هناك خطرًا يحيط بهم.
خطر مجتمعي وأمني
وقال مصدر أمني تحدثت إليه "عربي بوست"، إن الحكومة المصرية تدرك الخطر الوارد من وجود مئات الآلاف من السودانيين في بنايات لا تتوفر فيها السلامة الإنشائية وفي الوقت ذاته فهي تدفع المقيمين بصورة غير شرعية لتقنين أوضاعهم ولا تقصد معاقبة هؤلاء.
وأضاف المتحدث أن مصر تدرك أن هؤلاء من حرب شرسة وهربوا من الموت في بلادهم، وقد يكون الهدف من إغلاق عشرات المدارس هو تشجيع الأهالي على التسجيل في مفوضية اللاجئين بما يضمن التعرف على هوية الذين دخلوا إلى المحافظات المصرية دون تأشيرات دخول مسبقة.
وأضاف المصدر ذاته، أن مصر تسعى أيضًا لضمان المشاركة الدولية الفاعلة في رعاية اللاجئين في ظل أوضاع اقتصادية صعبة تعانيها البلاد، وفي الوقت ذاته تدرك بوجود أخطار أمنية عليها تستوجب التكاتف من جميع السودانيين على أراضيها وكذلك المؤسسات الدولية للتعرف على هويتهم.
وكشف المصدر أن ما يتم تطبيقه على المدارس غير المرخصة سيطال أيضًا المحال التجارية التي انتشرت على حين غفلة دون أيضًا الحصول على أوراق عمل، مشددًا على أن هناك خطر مجتمعي وأمني آخر يتعلق بعدم وجود رقابة على ما يتم تدريسه للطلاب من مقررات وقد تشكل ضررًا يستوجب التدخل لإعادة توفيق الأوضاع وليس من أجل معاقبة الطلاب السودانيين، مشيراً إلى أن المدارس السورية واليمنية سيطالها الأمر ذاته بما يضمن عمل جميع المدارس تحت السيادة المصرية.
تستضيف مصر التي يبلغ عدد سكانها أكثر من 106 ملايين نسمة، ما يقرب من 9 ملايين مقيم أجنبي، أغلبهم من الفارين من دول عربية تضربها صراعات ونزاعات، ونسبة كبيرة من هؤلاء يحملون جنسيات سودانية وسورية وفلسطينية ويمنية.
يشار إلى أن الحكومة المصرية كانت قد طالبت الأجانب المقيمين على أراضيها بسرعة تقنين أوضاعهم والتوجه للإدارة العامة للجوازات والهجرة والجنسية لتقنين أوضاعهم وتجديد إقاماتهم والحصول على كارت الإقامة الذكي لضمان الاستفادة من كافة الخدمات الحكومية المقدمة إليهم.
وقررت منح الأجانب مهلة نهائية لاستخراج تلك البطاقات تنتهي بتاريخ 30 سبتمبر المقبل على أن يتم خلالها إيقاف جميع الخدمات المقدمة لهم لحين إحضار بطاقة الإعفاء من الإدارة العامة للجوازات.