كشفت مصادر طبية لـ"عربي بوست" أن العديد من المستشفيات الحكومية المصرية تعاني أزمة نقص الدواء في مصر إلى الدرجة التي تسببت في توقف إجراء العديد من العمليات الجراحية.
وأضافت المصادر نفسها أن عدداً من أدوية التخدير نفذ في كبرى المستشفيات الحكومية المصرية وعلى رأسها مستشفى قصر العيني بوسط القاهرة، وذلك للمرة الأولى منذ سنوات طويلة.
واتخذت الحكومة المصرية قراراً أخيراً بإلزام الأطباء بوصف الأدوية الضرورية للمرضى، مع مراعاة أن تكون الأولوية للدواء المحلي، وألا تُوصف المستوردة إلا في حال عدم توفر المثيل المحلي لها.
الاشتباك بالأيدي مع الأطباء
وقال طبيب بإحدى الصيدليات الحكومية داخل مستشفى شهير بمحافظة الجيزة، تحدث شريطة عدم ذكر اسمه، إن أزمة نقص الأدوية وصلت إلى ذروتها منذ بداية العام الجاري.
وأرجع المتحدث لـ"عربي بوست" أزمة نقص الأدوية في مصر إلى مجموعة أسباب في مقدمتها منظومة الحوكمة التي قررت وزارة الصحة تطبيقها منذ نهاية العام الماضي.
وتقضي هذه المنظومة بربط جميع المستشفيات الحكومية بمديريات الصحة في المحافظات المختلفة، ومكاتب الصحة في المحافظات والمراكز المختلفة بوزارة الصحة ومنظومة الدواء الحكومية.
وكان من المقرر، حسب المتحدث أن يتم تحديث نظم العمل في المستشفيات الحكومية في الفترة ما بين 26 ديسمبر/كانون الأول 2023 وحتى السادس من يناير/كانون الثاني 2024.
ويضيف المصدر ذاته أن تلك المنظومة التي أطلقت عليها وزارة الصحة منظومة الحوكمة، لم يتم الانتهاء منها في غالبية المستشفيات الحكومية حتى الآن، وهو ما تسبب في حالة من الشلل التام لدى المستشفيات التي كانت ترسل إلى هيئة الدواء احتياجاتها المستمرة من الدواء.
ولهذه الأسباب يقول المتحدث أصبحت المستشفيات في جزر منعزلة خاصة، مع حظر التعامل المباشر مع شركات الأدوية الحكومية أو الخاصة، مشيراً إلى أن قرار الحكومة بتطبيق المنظومة الجديدة خاطئ للغاية؛ لأنه يأتي مع بداية العام الجديد، وفي ذلك الحين تبدأ المستشفيات في تحديد حاجتها من الدواء.
ويلفت المصدر ذاته إلى أن المستشفى الذي يعمل به لم يعد لديه سوى سبعة أصناف فقط من جميع أنواع الأدوية، وأضحى الأطباء في حيرة من أمرهم مع عدم قدرتهم وصف أي من الأدوية المحلية أو المستوردة لعدم توفرها.
ففي حال كان المريض لديه أعراض البرد العادية فإنه لن يجد دواء للسعال أو مضاداً حيوياً أو أياً من أنواع المسكنات، وهو ما تسبب في حالة من الغليان والغضب العارم بين المرضى الذين دخلوا في مشادات كلامية وصلت إلى حد الاشتباك بالأيدي مع الأطباء وأضحت مشاهد الغضب متكررة بشكل يومي.
أزمة نقص الدواء في مصر تتجاوز المستشفيات الحكومية
يتابع المصدر أن أزمة نقص الدواء في مصر أدت إلى توقف العمليات الجراحية داخل المستشفى الذي يعمل به، إلى جانب عدد من المستشفيات الحكومية الأخرى بينها المستشفيات الكبيرة مثل قصر العيني بوسط القاهرة ومستشفى الشيخ زايد التخصصي بمحافظة الجيزة.
ويقول المتحدث إن وضع نقص الأدوية في مصر استمر لعدة أيام قبل أن يعود مرة أخرى الأسبوع الماضي، لكن ما زال هناك أدوية ليس لديها بديل بشأن بعض العمليات المرتبطة بالعظام، وفي تلك الحالة يتكفل المريض بتوفير الدواء لضمان إجراء العملية.
وتجذب المستشفيات الحكومية الغالبية العظمى من المواطنين البسطاء الذين يلجؤون إليها باعتبارها ملاذاً آمناً يحميهم من جشع المستشفيات الخاصة، كما أنها توفر الدواء بالمجان دون الحاجة للتعرض إلى الزيادات المطردة في أسعار الدواء المحلي والمستورد.
وخلال العام الماضي ارتفعت أسعار ألفي صنف دواء بنسبة تبلغ 50% من عدد الأدوية الأكثر تداولاً في السوق المصري؛ حيث يوجد 17 ألف دواء مسجل في مصر، بينها 4 آلاف صنف دواء هي الأكثر تداولاً.
هذا إلى جانب توالي شكاوى مصانع الأدوية التي تطالب بشكل مستمر بإقرار زيادات أخرى، بعد أن باتت تصنّع أدوية بتكلفة أعلى من أسعار البيع المحددة جبرياً، في ظل ارتفاع سعر الدولار وارتفاع تكاليف استيراد المواد الخام ومستلزمات الإنتاج.
ويشير أحد الأطباء يعمل بأحد المستشفيات الحكومية بالقاهرة، إلى أن أزمة نقص الدواء تتجاوز المستشفيات الحكومية؛ لأن الغالبية العظمى من الأطباء يقدمون وصفات للمادة العلمية وكتابة بدائل محلية ويطالبون المرضى بصرفها من الخارج، لكن في بعض الأحيان يعود المريض ليؤكد عدم وجود الدواء.
مشيراً إلى أن أزمة نقص الدواء في مصر احتدمت داخل المستشفيات الحكومية والصيدليات في توقيت واحد تقريباً، وهو ما يشير لوجود أزمة دولار تؤثر على الاستيراد من الخارج، سواء ارتبط الأمر بالمواد الخام أو الأدوية المستوردة.
الدواء المحلي لم يعُد متوفراً
ويلفت إلى أن قرار وزارة الصحة بحظر وصف الأدوية المستوردة يتم العمل به بشكل تلقائي من جانب الأطباء منذ فترة في ظل عدم توفير كثير من الأصناف المستوردة، لكن في جميع الحالات فإنه يعد خطوة على الطريق الصحيح إذا ما قدمت الحكومة المصرية تسهيلات قوية لتوطين صناعة الدواء بشكل كامل.
واعتبر المتحدث أن أزمة نقص الدواء في مصر ليست متفاقمة فيما يتعلق بالأدوية المحلية لأن البعض منها يتم إعداده بمواد خام محلية أيضاً، لكن المشكلة الحقيقية تتمثل في الدواء المستورد والذي ما زال يسيطر على الجزء الأكبر من سوق الدواء المصري.
ورغم تأكيد الأطباء أن الدواء المستورد ما زال يشكل جزءاً لا غنى عنه للعديد من الأمراض التي ليس لديها بدائل محلية، إلا أن المتحدث باسم وزير الصحة عادل عبد الغفار أشار مؤخراً إلى وجود مصانع أدوية تكفي 85% من إجمالي السوق المحلي.
وقال وزير الصحة المصري إن هيئة الدواء المصرية تضمن سلامة الدواء المحلي المثيل، وتحافظ على جودته وفاعليته كما تفعل مع الدواء المستورد.
ويرى الطبيب ذاته، أن التخلي عن كتابة وصف الأدوية المستوردة قد يكون مفيداً على المدى البعيد لكن في بداية الأمر سيواجه المريض بعض المتاعب لحين التعود على التركيبة العملية الموجودة في الداخل.
وأضاف أن العديد من مرضى السكر والغدد الدرقية استطاعوا التكيف مع الأدوية المحلية بخاصة الأنسولين المحلي الذي اعتاد عليه الملايين من مرضى السكر، لكن الأزمة الحالية تتمثل في أن الدواء المحلي أيضاً لم يعد متوفراً وتسبب ذلك في أزمة نقص الأنسولين المحلي والمستورد وكذلك الوضع بالنسبة لأدوية الغدة.
وشدد على أهمية إقدام وزارة الصحة على دراسة بشكل جيد، بحيث تتم معرفة ما إذا كانت المصانع والمعدات مستعدة لتغطية احتياجات السوق ولديها الإمكانية التي تمكن الأطباء من الاستغناء تماماً عن الأدوية المستوردة أم لا.
حياة المرضى لا يجب أن تكون خاضعة لقرار غير مدروس
وأخيراً، تقدمت النائبة حنان حسني يشار، عضو مجلس النواب، بسؤال برلماني، إلى المستشار حنفي جبالي رئيس المجلس، موجه إلى رئيس الوزراء ووزير الصحة، بشأن موعد انتهاء أزمة نقص الدواء في مصر.
وقالت المتحدثة إن سوق الأدوية المصري يشهد في الفترة الحالية نقصاً كبيراً في الأدوية بكافة أنواعها، مما يتسبب فى حالة من قلق المرضى بعدم توفر الدواء المستورد والبديل المصري لأمراض البرد والسكري والضغط ومرضى الأورام وغيرهم.
وأكدت عضو مجلس النواب أن الأزمة التي يواجهها سوق الدواء في مصر ترجع إلى النقص الشديد في المواد الخام، وإلقاء اللوم على أزمة الدولار في عملية استيراد الأدوية، وتصنيعها، وطرحها في الأسواق، وهو ما أدى إلى توقف بعض المصانع في تصنيع البدائل المصرية.
وأشارت إلى أن سوق الأدوية تأثر بشكل كبير بسبب نقص العملة الصعبة وارتفاع سعر الصرف، ما أدى في نهاية المطاف إلى تقليل استيراد المواد الخام من الخارج، إذ إن المواد الخام ومستلزمات الإنتاج يتم استيرادها من الخارج وهو الأمر الذي لم يعد مثلما كان في السابق.
ويذهب أحد أعضاء نقابة الصيادلة لتأكيد أن قرار وزارة الصحة بوقف وصف الأدوية المستوردة خطير للغاية؛ لأن بعض الأمراض لا بد من استخدام بروتوكولات علاجية مستوردة لها.
وفي تلك الحالة فإن الطبيب سوف يرى أنه ينفذ القانون والتعليمات في حين أن حياة المرضى لا يجب أن تكون خاضعة لمثل هذه القرارات، كما أن بعض الأدوية المحلية ليست بالكفاءة ذاتها التي تتسم بها الأدوية المستوردة، إلى جانب أن الجزء الأكبر من الدواء المحلي بحاجة إلى مواد خام مستوردة من الخارج؛ وهو أمر لا يتوفر في الوقت الحالي بسبب تكدس الأدوية في الموانئ.
الاستيراد أو توقف الإنتاج!
من جهته كشف المصدر لـ"عربي بوست" أن قرار حظر وصف الأدوية المستوردة لم يتم النقاش فيه مع نقابة الصيادلة وليس مخولاً لوزارة الصحة إصدار مثل هذا القرار في وجود هيئة الدواء التي من المفترض أنها تحمل صفة الاستقلالية ولديها البيانات كاملة بشأن الأدوية.
وأضاف المتحدث أنه لطالما لم يتوفر الدولار اللازم للاستيراد من الخارج فإن أزمة نقص الأدوية ستستمر، والجميع يتأثر بنقص الدولار بما في ذلك مصانع الدواء المحلية التي تعتمد 95% من مكوناته على المواد الخام المستوردة من الخارج.
وأوضح المتحدث في تصريح لـ"عربي بوست" أن المواد الخام التي كانت موجودة بالمصانع طيلة الثلاثة أشهر الماضية نفدت الآن ولم يعد مفر سوى الاستيراد أو توقف الإنتاج.
وتشير إحصاءات حكومية إلى أن إجمالي السلع الاستراتيجية المتراكمة بالموانئ البحرية حتى 7 فبراير/شباط 2024، مليار و157 مليوناً و664 ألفاً و770 دولاراً.
وجاءت أبرز البضائع المتراكمة بالموانئ البحرية حتى هذا التاريخ من الأدوية بقيمة 17 مليوناً و579 ألفاً و915 دولاراً، والأمصال واللقاحات بقيمة 570 ألفاً و332 دولاراً والكيماويات الخاصة بالأدوية بقيمة 274 مليوناً و271 ألفاً و867 دولاراً، ومستلزمات طبية بقيمة 407 آلاف و59 دولاراً، و(لبن بودرة – لبن أطفال) بقيمة 17 مليوناً و51 ألفاً و274 دولاراً.
ويوضح مصدر بمركز الحق في الدواء، أن جزءا من أزمة الدواء الحالية يعود إلى تهريب الأدوية إلى دول الصراعات المسلحة في المنطقة مقابل الحصول على عوائد أكبر لمصانع الدواء المحلية.
مشيراً إلى أن توجيه جزء من الإنتاج المحلي إلى قطاع غزة كتبرعات وكذلك خطة الحكومة للتصدير إلى أفريقيا انعكست سلباً على الأزمة في مصر، وتفاقمت أزمة الدواء خلال الشهرين الماضيين، في وقت تسعى فيه الحكومة لتوفير أكبر قدر من الدولار؛ تحسباً لاتخاذ قرارات اقتصادية قريبة.
ويضيف لـ"عربي بوست" أن أدوية القلب والأعصاب والقولون العصبي وأمراض المعدة وسيولة الدم وأدوية التصلب المتعدد لا تتوفر بشكل شبه كامل، وهناك أزمة بها بالنسبة للدواء المحلي أيضاً.
وتوقع أن تذهب العديد من المصانع لتوقف الإنتاج أو على الأقل تخفيض حجم الإنتاج جراء الخسائر التي تعرضت لها مؤخراً، إما بسبب تذبذب أسعار الدولار مقابل الجنيه، أو في حال بقائها أشهراً أخرى دون صناعة، وهو ما يحتاج إلى تدخل حكومي عاجل.
ومن المنتظر، حسب المتحدث، أن تذهب الحكومة في أولى خطواتها نحو زيادة أسعار أصناف عديدة من الدواء؛ في محاولة لإنقاذ الصناعة المحلية، لكن المستهلكين والمرضى سوف يدفعون الثمن.ويبلغ حجم سوق الدواء في مصر نحو 300 مليار جنيه وفق البيانات الرسمية، وتستهلك وزارة الصحة وحدها نحو مليار دولار أدوية سنوياً، وتشير تقديرات حكومية إلى أن مصر بها أكثر من 177 مصنعاً للدواء، بجانب المشروع الأضخم في قطاع الأدوية في مصر وهو "مشروع مدينة الدواء جيبتو فارما" بمحافظة القليوبية، فيما تنتج الشركات المحلية قرابة 4 مليارات وحدة دوائية سنوياً، تبلغ قيمتها 3.5 مليارات دولار.