ردّت إسرائيل على "خسارتها الواضحة" أمام حماس في المعركة الرقمية بإجراء أول عملية شراء في تاريخها لمنظومة تقنية يمكنها تنفيذ حملات تأثير جماعية عبر الإنترنت، بحسب ما نقلت صحيفة Haaretz الإسرائيلية عن عدد من المصادر المطلعة على الأمر.
تستطيع هذه المنظومة إنشاء المحتوى المخصص لاستهداف جماهير بعينها تلقائياً، إلى جانب أشياء أخرى، وقد جرى شراء هذه التقنية كجزء من محاولةٍ أوسع نطاقاً من جانب الكيانات الإسرائيلية -المدنية والعسكرية- لمواجهة ما وصفته المصادر بأنه "فشل الدبلوماسية العامة الإسرائيلية" بعد هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
صحيفة "هآرتس" نقلت عن 8 مصادر نشطة في عالم الاستخبارات والتقنية والتأثير على الإنترنت والدبلوماسية العامة، أن "إسرائيل لم تكن مستعدة لحرب الشبكات الاجتماعية التي اندلعت يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول"، ما أسفر عن "أزمة مصداقية" أعاقت قدرة الجيش الإسرائيلي على التحرك ضد حماس في ساحة المعركة الفعلية، وذلك من وجهة نظر تل أبيب.
ورغم أن المنظومة مصممة منذ البداية كحلٍّ لاحتياجات الاستخبارات والحرب النفسية بالمصطلحات العسكرية، لكن المصادر تقول إنها تُدار حالياً بواسطة مكتب حكومي، ويرجع سبب ذلك إلى مخاوف مؤسسة الدفاع من استغلال التقنية لأغراض "سياسية".
وقالت المصادر المطلعة على جهود الدبلوماسية العامة الإسرائيلية -المعروفة باسم "الهسبرة"- إن المنظومة من المفترض أن تتصدى لما وصفه الباحثون بـ"آلة الكراهية" جيدة التجهيز على الإنترنت، إذ تنشر تلك المنظومة معلومات "كاذبة ومغلوطة مناهضة لإسرائيل وموالية لحماس، إلى جانب خطاب ينكر أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، علاوةً على نشر المحتوى المعادي للسامية بوضوح"، وفق تعبير الصحيفة.
بينما أنكرت إسرائيل كافة المزاعم الواردة في هذا المقال عبر مكتب رئيس الوزراء، الذي يسيطر على مديرية الدبلوماسية العامة وغيرها من الكيانات.
جبهة الحرب النفسية
كشفت الساعة الأولى من الحرب عن مدى عدم استعداد مؤسسة الدفاع الإسرائيلية لإدارة منصات شبكات اجتماعية مثل إنستغرام وتيك توك، بالتزامن مع انتشار مقاطع الفيديو التي صورتها حماس على الإنترنت (ووسط المجتمع الإسرائيلي).
وسارع العاملون وشركات التقنية العالية لسد الفجوة، إذ تشكلت "غرفة حرب" تطوعية لتطوير تقنيات تُخطِّط منصات الشبكات الاجتماعية، أو تطوير قدرات تعرُّف على الوجوه للمساعدة في تحديد الإرهابيين والعثور على الرهائن، وهذا على سبيل المثال لا الحصر.
فمنذ بداية الحرب قبل 100 يوم، قادت حماس حملة اتصالات عامة شديدة النجاح وصفتها المصادر بأنها عملية تأثير "نفسي".
وتبيّن أن وحدة المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي تعاني من محدوديةٍ في قدرتها على التصدي النشط لهذا السيل -الذي يبدو لا نهائياً- من المواد المرئية المنشورة بواسطة حماس ووكلائها.
وقد ميّز المسؤولون الإسرائيليون وباحثو الشبكات الاجتماعية بين ثلاثة أشكال مختلفة من محتوى الإنترنت في هذا الصدد:
- منشورات مناهضة لإسرائيل: تدعم هذه المنشورات الفلسطينيين وتعارض التصرفات الإسرائيلية، وتندرج تحت إطار حرية التعبير.
- محتوى كاذب أو مضلل أو يحض على الكراهية: يتعارض هذا المحتوى مع سياسات الثقة والسلام الداخلية الخاصة بالشبكات الاجتماعية، ويمكن إزالته بواسطة فرق الإشراف في حال الإبلاغ عنه.
- محتوى عنيف وتصويري مؤيد للمقاومة: يُعتبر هذا المحتوى غير قانوني ويمكن إزالته بعد تقديم طلب من وزارة العدل الإسرائيلية.
بدوره، أوضح مسؤول استخباراتي كبير سابق: "لا يتعلق الأمر بحقنا كجيش في الرد على أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول كما فعلنا، أو حتى بالمكافحة النشطة لحالة إنكار الاغتصاب أو مواجهة المعلومات الكاذبة بكل وضوح. هذه معركة من أجل شرعية وجود إسرائيل نفسها كدولة وكجيش. وقد فازت حماس بالفعل على هذا الصعيد".
مفارقة الهسبرة
شكّلت هذه المسألة تحدياً عصيباً من وجهة النظر الإسرائيلية؛ إذ نجحت حماس في استغلال الموت والدمار في غزة، وسخّرت الأزمة الإنسانية لكسب القلوب والعقول، واستخدمت المعلومات المغلوطة كسلاحٍ ضد إسرائيل، وفق تعبيرها.
وبحسب المعلومات التي حصلت عليها صحيفة هآرتس، فقد شكّلت إسرائيل بعد بضعة أسابيع من بدء الحرب "منتدى الهسبرة" الذي يجتمع أسبوعياً، ويتألف هذا المنتدى من وكالات ومكاتب ووزارات حكومية، إلى جانب كيانات عسكرية ودفاعية واستخباراتية -تشمل الجيش والشاباك ومجلس الأمن القومي- علاوةً على شركات التقنية والمبادرات التطوعية المدنية وحتى المنظمات اليهودية.
وعقد مسؤولو مختلف الكيانات، بما فيها مديرية الدبلوماسية العامة ووزارة الإعلام والشتات، محادثات مع مختلف الشركات ومقدمي الخدمات التقنية النشطين في مختلف الحملات الجماهيرية على الإنترنت، فيما أوضح مصدر استخباراتي أن امتلاك الأصول أمر مهم، لكن المرء يحتاج إلى منظومة لإدارتها أيضاً.
وتؤدي أنظمة التأثير الجماعي عادةً إلى الإيقاع بمشغليها في ورطة، كما أن كشفها علناً قد يؤذي مصداقية العميل بشدة، بينما أفادت تحقيقات أخرى نُشرت في الماضي بأن تشغيل منظومة كهذه يحتاج إلى بنيةٍ تحتية أيضاً.
ونتيجةً لذلك، قررت إسرائيل شراء تقنية قائمة بدلاً من المخاطرة بتطوير تقنية مستقلة، ولهذا تم شراء عدد من الأدوات والبرامج المُطوَّرة للحملات التجارية والسياسية، وهي عبارة عن نظام لتخطيط الجماهير على الإنترنت، ونظام قادر على إنشاء مواقع الويب تلقائياً -وأشياء أخرى- بالإضافة إلى المحتوى المصمم خصوصاً لاستهداف جماهير معينة، ونظام لمراقبة الشبكات الاجتماعية ومنصات المراسلة وغيرها. وكانت إسرائيل تأمل استغلال ذلك في إطلاق حملات ستدفع رسالة إسرائيل الأساسية وتحسُّن الانطباع العالمي عنها.
إساءة استخدام عمليات التأثير
خلال هذه العملية، تقول المصادر إن مخاطر شراء أو تشغيل منظومة كهذه كانت واضحة للمسؤولين المدنيين والدفاعيين على حدٍّ سواء. وجاء هذا مصحوباً كذلك بمخاوف التدخل السياسي من جانب مكتب رئيس الوزراء، الذي يُشرف على كيانات أخرى درست إمكانية شراء تقنيات التأثير أيضاً.
وذكر التلفزيون الإسرائيلي الشهر الماضي أن "مؤسسة أمنية كبيرة"، كان يُفترض بها قيادة عمليات التأثير الإسرائيلية، أعربت عن مخاوفها حيال إساءة الاستخدام أو التدخلات السياسية المحتملة.
وفي النهاية، جرى شراء الأنظمة المختارة عبر وسطاء، وقالت المصادر التي تحدثت مع "هآرتس" إنه تقرر كذلك أن تتولى وزارة حكومية استخدام هذه الأنظمة، وليس كياناً دفاعياً.
وقد بدأت الحملة الأولى التي صممتها المنظومة على الإنترنت بالفعل، وليست الحملة بالعبرية ولا تركز على الحرب من الأساس، بل تركز على معاداة السامية ومكافحة الروايات المعادية للصهيونية.
بينما أوضح مصدر مطلع: "كانت الأسابيع الأولى من الحرب فوضوية؛ إذ تشاحنت الكيانات الحكومية في ما بينها من أجل التقدير والنفوذ، في ما سد المدنيون الفجوة فعلياً، وخاصةً من العاملين في مجال التقنية العالية وشركات العلاقات العامة النشطة في غرف الحرب التطوعية المزعومة".
وقال مصدر استخباراتي: "يبدو الأمر وكأن إسرائيل اكتشفت الإنترنت للمرة الأولى في ذلك السبت من شهر أكتوبر/تشرين الأول 2023، إذ لم ترَ إسرائيل فيه ساحةً حقيقية تستحق النشاط من قبل. ويستغرق هذا بعض الوقت. لكن ليس هناك تخطيط طويل الأجل، وليست هناك استثمارات كما هو حال التعليم".