بعد أن كانت شبكة بي بي سي نيوز البريطانية مثالاً معروفاً بمهنيّتها وعدم انحيازها الإعلامي تجاه أيّ من الأطراف، أتى العدوان الإسرائيلي على غزة ليظهر انحياز الشبكة التام للروايات الإسرائيلية والبروباغندا الإعلامية الإسرائيلية في موادها المنشورة عن الحرب الدائرة بينها وبين قطاع غزة المحاصر.
ننتبع هنا أبرز السقطات الإعلامية التي قامت بها شبكة "بي بي سي نيوز" في التغطية الخبرية عن هجمات إسرائيل المتكررة منذ 11 يوماً على قطاع غزة المحاصر والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، كنموذج صارخ وواضح لمدى الانحياز الإعلامي الغربي "غير المهني" أو الموضوعي لطرف على حساب آخر.
هل تقوم حماس ببناء أنفاق تحت المستشفيات والمدارس؟
طرحت بي بي سي في موقعها الرسمي سؤالاً تقول فيه: "هل تقوم حماس ببناء أنفاق تحت المستشفيات والمدارس؟"، فيما استهجن البعض طرح هذا السؤال باعتباره تشريعاً لضرب إسرائيل للمرافق الصحية والأبنية المدنية في قطاع غزة المحاصر.
وأجابت كبيرة المراسلين الدوليين في جنوب إسرائيل ليز دوسيه قائلةً بأن "أنفاق غزة تعتبر بمثابة متاهة مترامية الأطراف لدرجة أن الجيش الإسرائيلي يطلق عليها اسم "مترو غزة".
وأضافت أن الأنفاق جزء حيوي من عمليات حماس: "تُستخدم الأنفاق لنقل البضائع والأشخاص، وتخزين الأسلحة والذخائر، وإيواء مراكز القيادة والسيطرة".
وتابعت أنه "من المعروف" أنها معززة بشكل كبير بالخرسانة وموصولة بالكهرباء: "إنها عميقة جدًا، حيث يصل عمقها إلى 100 قدم (30 مترًا) بحيث يصعب تحديد موقعها على وجه اليقين. لكن مثل هذه الشبكة الواسعة تحت الأرض، على قطعة صغيرة من الأرض، يبدو من المرجح أن تتدفق تحت أحياء مكتظة بالمنازل والمستشفيات والمدارس."
وقالت دوسيه أنه كانت هناك "تقارير تفيد بأن بعض الممرات لها مداخل تقع في الطوابق السفلية من المنازل والمساجد والمدارس والمباني العامة الأخرى للسماح للمسلحين بالتهرب من اكتشافهم."، من دون أن توضح مصدر هذه التقارير أو أن تستشهد بها، فيما اعتبره مراقبون تشريعاً وتبريراً لضربات إسرائيل المتكررة على المرافق الصحية والمساكن البشرية والمباني العامة.
واقتبست دوسيه مصادرها من الجيش الإسرائيلي، قائلةً بأنه "اتهم حماس مرارا وتكرارا بالاختباء داخل هذه الأنفاق، واستخدامها فعليا كدروع بشرية"، دون أن توازن ذلك باستشهادات من الجهات الفلسطينية أو أيّ مصادر من الطرف الآخر أو طرف محايد أو دوليّ.
وجاء مقال البي بي سي قبل ساعات من وقوع مجزرة مستشفى الأهلي المعمداني التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة، الثلاثاء 17 أكتوبر/تشرين الأول 2023، ما أسفر عن سقوط أكثر من 500 شهيد من النازحين، جلهم من النساء والأطفال، وسط تنديدات عربية ودولية.
بي بي سي تعترف بتضليل المشاهدين
اعترفت شبكة بي بي سي الإعلامية بأنها قامت بتغطية إعلامية مضللة بشأن المتظاهرين المؤيدين لفلسطين في بريطانيا، إذ أنها قالت أن المظاهرات كانت مؤيدة لحماس وليس لفلسطين، في محاولةٍ منها لوصم المظاهرات واتّهامها بتأييد حركات المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل.
وكانت بي بي سي قد قالت في تغطيتها للمظاهرات التضامنية مع فلسطين، إنها تتضمن أشخاصا يدعمون حماس، التي تصنّف في بريطانيا على أنها جماعة إرهابية.
وكان الآلاف تظاهروا في لندن تضامناً مع فلسطين، في نهاية الأسبوع، مطالبين إسرائيل بإنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية.
وقالت مذيعة بي بي سي نيوز: "في وقتٍ سابق على بي بي سي نيوز، قمنا بتغطية بعض المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين، في عطلة نهاية الأسبوع، تحدثنا عن عدة مظاهرات في جميع أنحاء بريطانيا أعرب الناس خلالها عن دعمهم لحماس، ونحن نعترف أن صياغة هذه العبارة كانت سيئة، ووصفاً مضللاً للمظاهرات المؤيدة للفلسطينيين".
وكتبت المذيعة في "بي بي سي" مريم مشيري عبر حسابها في منصة إكس: "نقلنا تغطية عن بعض المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين في نهاية الأسبوع. تحدثنا عن مظاهرات عديدة في جميع أنحاء بريطانيا أعرب خلالها الناس عن دعمهم لحماس. نقر أن الصياغة تمت بشكل سيء وكان وصفنا مضللاً للمظاهرات".
ورأى ناشطون ومدونون ما حدث من بي بي سي ليس خطأ عارضا؛ بل توصيف متعمد منها، ترتب عليه آثار سلبية من شأنها إحداث ضرر بالمجتمع والمشاركين في المظاهرات والجالية المسلمة في بريطانيا، ومن ثّم الحياة عامة.
وعلّق الكاتب أوين جوناس، عبر حسابه على إكس قائلا، إن "هذا التشويه كان مثالا خطيرا للتحيز الإعلامي، فالعديد من المحتجين مسلمون بريطانيون، تألموا لمقتل إخوانهم في فلسطين، وتصنيفهم داعمين لحماس يزيد من خطر الهجمات المعادية للمسلمين".
وفي السياق ذاته، علق مارتين أوكلاجيهن قائلا، " بيان بي بي سي حول صياغتهم المضللة متأخر ولا يكفي، فالأضرار التي تسببت في تحريض الكراهية والانقسام قد حدثت بالفعل، لا يمكن لأي غرفة أخبار بث عبارة "عرضية" مرتين، إلا إذا كانت متعمدة".
ماتوا ولم يقتلوا
وصل الحال ببي بي سي نيوز إلى اعتماد صياغات لغوية مختلفة بين ضحايا القصف الإسرائيلي على غزة، وضحايا صواريخ المقاومة من إسرائيل. إذ جاء في أحد تغريدات بي بي سي المنشورة في 9 أكتوبر/تشرين الأول من 2023 الخبر التالي: "أكثر من 600 شخص ماتوا في غزة بعد أن أطلقت إسرائيل غارات جوية ثأريّة ضخمة، وفقاً لوزارة الصحة في غزة."، فيما استخدمت وصفاً آخر للضحايا الإسرائيليين، إذ تابعت في التغريدة نفسها لتقول: "أكثر من 700 شخص "قُتِلوا" في إسرائيل منذ أن أطلقت حماس هجماتها في يوم السبت".
إذن، بالنسبة لشبكة بي بي سي نيوز ضحايا القصف الإسرائيلي من غزة "يموتون" وكأنهم يموتون لأسباب طبيعية، بينما الضحايا الإسرائيليون "يُقتلون".
بي بي سي تتخذ إجراءات عقابية ضد موظفين أشادوا بالمقاومة
أعلنت هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي أنها تحقق مع 6 من صحفييها العرب بعد إشادتهم على منصة "إكس" بعملية طوفان الأقصى التي تشنها المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، بينما تراجعت الهيئة عن وصف أنصار القضية الفلسطينية بأنهم مؤيدون لحركة المقاومة الفلسطينية حماس.
وأفادت تقارير بريطانية بأن بي بي سي أوقفت عن العمل 6 من مراسلي فرعها العربي، بعد أن نشروا موضوعات مؤيدة لحركة حماس، أو وضعوا علامات إعجاب على منشورات تشيد بالحركة، التي تكافح الاحتلال الإسرائيلي.
وقد وصف بعض الصحفيين المعنيين السابع من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، بأنه صباح الأمل، وسخر آخر من إسرائيل التي بدت حائرة أمام هجمات المقاومة الفلسطينية.
ورغم إزالة هذه المنشورات، تعهدت بي بي سي باتخاذ إجراءات تأديبية ضد الصحفيين العرب، إذا ثبت انتهاكهم "لإرشاداتنا التحريرية"، وتلك المتعلقة "بوسائل التواصل الاجتماعي".
تغطية منحازة لقصف مستشفى المعمداني
قُتِل مئات الأشخاص في قصف على مستشفى الأهلي المعمداني في قلب غزة، مساء الثلاثاء، حسب وزارة الصحة الفلسطينية في القطاع، مُولدًا موجة من ردود الفعل العربية والدولية حول الحادثة التي اتهمت السلطة الفلسطينية وحركة حماس إسرائيل بارتكابها.
توقّع مراقبون أن تمثل واقعة قصف طائرات الجيش الإسرائيلي لمُستشفى الأهلي العربي "المعمداني"، في حي الزيتون بمدينة غزة، الثلاثاء، وسقوط مئات الضحايا، نقطة تحول في مسار الصراع الراهن بين إسرائيل وحركة حماس، والذي يتصاعد بشكل فادح من 11 يومًا.
وقال متحدث باسم وزارة الصحة في غزة، إن 500 قتيل سقطوا في الضربة الجوية الإسرائيلية على المستشفى، في حين أظهرت صورًا النيران تلتهم قاعات المستشفى وتناثر الزجاج وأشلاء الجثث في المنطقة.
ورغم نقل معظم الوسائل الإعلامية لخبر قصف طائرات الجيش الإسرائيلي لمستشفى الأهلي العربي "المعمداني"، إلا أن شبكة بي بي سي نيوز أصرّت على صياغة الخبر بطريقةٍ مختلفة توحي بأن المسؤول عن المجزرة مجهول الهوية.
وقالت بي بي سي أن "مئات من القتلى وقعوا في انفجار مستشفى في غزة" وأن "إسرائيل والمسلحين الفلسطينيين يتبادلون الاتهامات بالمسؤولية عن الانفجار".
وفي جميع تغطيتها الإخبارية منذ وقوع المجزرة مساء البارحة (الثلاثاء 18 أكتوبر/تشرين الأول) حتى اليوم، عمِدت بي بي سي إلى تغميم القضية باستخدامها صياغة موحدة لجميع أخبار قصف المستشفى عبر إعادة تكرار رواية أن المسؤول غير معروف، وأن الطرفين يتبادلون الاتهامات دون أن يكون هناك كفة راجحة لأحدهما.