زيارة كانت لها أبعاد ودلالات سياسية عميقة تلك التي قام بها الوفد النيابي الأردني إلى العراق برئاسة رئيس مجلس النواب عبدالمنعم العودات مع 18 نائباً أردنياً، والتقوا فيها شخصيات شيعية بارزة.
ورغم أن الزيارة جاءت في إطار رسمي بدعوة من رئيس مجلس النواب العراقي محمد الحلبوسي، بهدف تدعيم العلاقات بين بغداد وعمان وتأييد مخرجات القمة الثلاثية والتعاون والتنسيق المشترك والمستمر لتحقيق نتائجها، فإن لها أهدافاً أخرى غير معلنة.
فقد كشفت مصادر "عربي بوست" أن اللقاءات كانت لها أهداف سياسية واقتصادية أخرى، وأن الزيارة كانت بتكليف مباشر من العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني.
وأجرى الوفد البرلماني ثلاثة لقاءات منفصلة، الأول مع رئيس تحالف الفتح في البرلمان العراقي هادي العامري، والثاني مع أمين عام حركة عصائب أهل الحق قيس الخزعلي، فيما كان اللقاء الثالث من نصيب رئيس الهيئة السياسية للتيار الصدري نصار الربيعي، في مقر التيار بالعاصمة العراقية بغداد، الجمعة 3 سبتمبر/أيلول 2021.
زيارة بأمر من العاهل الأردني
كشفت مصادر سياسية أردنية مطلعة لـ"عربي بوست" أنّ زيارة رئيس البرلمان الأردني والنواب المرافقين له كانت بإيعاز مباشر من العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني، في رغبة منه لفتح نافذة حوار وتواصل مع الميليشيات العراقية الشيعية التي تتسيد المشهد السياسي في العراق.
وتهدف الزيارة أيضاً إلى إيجاد تسوية وتفاهمات سياسية على الأرض من خلال مستوى دبلوماسي منخفض.
كما أن للزيارة بعداً اقتصادياً مهماً يتمثل في الاتفاق على تمديد شبكة كهرباء بين الأردن والعراق ومصر، بالإضافة إلى إنشاء مشروع الأنبوب النفطي الذي يربط بين البصرة والعقبة الذي كان من المفترض أن يتم إنجازه لكنّه تعثر لأسباب سياسية.
السماح بالسياحة الدينية للشيعة
كما كشفت المصادر نفسها أنّ أمين عام حركة عصائب أهل الحق قيس الخزعلي ورئيس تحالف الفتح في البرلمان العراقي هادي العامري، طلبا من رئيس مجلس النواب الأردني فتح المجال نحو مقامات الصحابة في مدينة مؤتة الأردنية، جنوب الكرك، التي تحظى بأهمية دينية عند أتباع المذهب الشيعي.
كما طلبا السماح للحجاج الإيرانيين والعراقيين، من أتباع المذهب الشيعي، بزيارة الأضرحة المقدسة، وفي مقدمتها قبر الصحابي "جعفر بن أبي طالب"، شقيق علي بن أبي طالب، وعم الإمام الحسين.
اللقاءات بين الجانبين تطرقت إلى مدى موافقة الأردن على تسليم معارضين عراقيين محسوبين على التيار البعثي وعلى رأسهم رغد صدام حسين، ابنة الرئيس العراقي الأسبق، وشخصيات محسوبة على هيئة علماء المسلمين في العراق، وعدد من الشخصيات البعثية والضباط السابقين في الجيش العراقي، في محاولة لزج ملف المطلوبين العراقيين ضمن الملفات التجارية بين البلدين، في ظل تحفظ الحكومة العراقية ربط هذا الملف بالملفات التجارية والاقتصادية.
على المستوى الاقتصادي، طلب الخزعلي والعامري تقديم تسهيلات للمكاتب التجارية والاقتصادية التابعة للميليشيات كمنفعة شخصية لها؛ إذ تمثل تلك المكاتب أذرعاً رئيسية لديمومة عمل الميليشيات وتعزز من قوتها وسيطرتها.
وأوضح الباحث والكاتب عراقي، المتخصص في شؤون الشرق الأوسط، نظير الكندوري، أنّ الشركات الأجنبية العاملة في العراق مطالبة بدفع إتاوات لتمرير مشاريعها في العراق، وهذا ما سينطبق على مشروع الربط الكهربائي والأنبوب النفطي، إذ ستطالب الميليشيات باقتطاع نسبة من عائداته وأرباحه من الشركات التي ستنفذ تلك المشاريع.
اتفاقيات اقتصادية
وكانت حكومتا العراق والأردن السابقتان برئاسة عادل عبدالمهدي وعمر الرزّاز وقعتا، في 2 فبراير/شباط، 14 اتفاقيّة اقتصاديّة بين البلدين خلال اللقاء الذي جمعهما على الحدود بين البلدين، حيث تمّ الاتفاق على إنشاء المدينة الصناعيّة المشتركة، وتضمّنت هذه الاتفاقيّات 6 قطاعات، هي: النقل، والتجارة، والصحة، والزراعة، والمال، والطاقة.
فيما أثارت الاتفاقيّات الاقتصاديّة الأخيرة، التي وقّعت بين الحكومتين العراقيّة والأردنيّة، الجدل في العراق، حيث اعتبرت من قبل أطراف سياسيّة ومؤسّسات اقتصاديّة عراقيّة أنّها تصبّ في صالح الأردن وتضرّ بالعراق، وأبدت حركة عصائب أهل الحقّ، التي يتزعّمها قيس الخزعلي، اعتراضاً وتحفظاً على الاتفاقية؛ حيث قال: "إنّ المواطن العراقيّ سيدفع ضريبة هذه الاتفاقيّات".
هذه الاتفاقيّات قسّمت الموقف السياسيّ العراقيّ إلى فريقين: الأوّل مرحّب ومؤيد لها، والثاني كان رافضاً لها واعتبر أنّها "لا جدوى" اقتصاديّة منها ستعود على العراق، خصوصاً المتعلّقة بمدّ أنبوب من محافظة البصرة العراقيّة الغنيّة بالنفط إلى العقبة الأردنيّة، وهذا السبب البارز والرئيسي من زيارة الوفد النيابي الأردني للعراق، بحسب ما كشفت عنه مصادر مطلعة أردنية.
الأردن يدرك المعادلة السياسية في العراق
ومن هنا فإنّ الأردن بات يدرك جيداً المعادلة السياسية العراقية على الأرض، خاصة بعد الإعلان عن مشروع الربط الكهربائي الأردني العراقي الذي من المقرر إطلاقه في عام 2022، الأمر الذي يحتاج إلى مثل هذه التفاهمات السياسية مع الميليشيات الإيرانية في العراق باعتبارها طرفاً رئيسياً في تلك المعادلة لا يمكن تجاوزها.
وفي هذا السياق، يؤكدّ الباحث والكاتب عراقي، المتخصص في شؤون الشرق الأوسط، نظير الكندوري، أنّ لقاء الوفد النيابي الأردني بزعماء ميليشيات عراقية يشكل تحولاً خطيراً في سياسة الأردن ويحمل معاني كبيرة، لأنّه تحول من تحذير الأردن من خطر الهلال الشيعي إلى احتمالية أن يكون الأردن جزءاً من هذا الهلال.
وأشار إلى أنّ الأردن يحاول التعامل بواقعية مع المسألة العراقية، التي تقتضي أنّ هؤلاء الزعماء هم قادة العراق حالياً، ولا يمكن للأردن الاستفادة من الفرص المتاحة بالعراق ما لم يصلح علاقته بهم.
ويضيف الكندوري، في حديثه مع "عربي بوست": "كلنا نذكر كيف اعترضت تلك الميليشيات قبل عام على مد الأنبوب النفطي العراقي من البصرة إلى الأردن واعتراضاتهم على بيع النفط للأردن بأسعار مخفضة، والأردن يسعى للتفاهم مع العراق ليرى هذا المشروع النور".
وشدد على أنّ هذه اللقاءات تحمل بالمقابل رسالة لدول الخليج بسبب صدهم للمملكة الأردنية، وعدم مساعدتها لتخطي صعوباتها الاقتصادية وتقول لهم إن البديل موجود وهو المحور الإيراني.
وكشف الكندوري عن أنّ الأردن عمد، خلال اللقاء، مع زعماء الميليشيات الشيعية إلى مناقشة قضية مدّ الأنبوب النفطي بينه وبين العراق وإقناعهم بذلك، وهو أبرز المواضيع المهمة التي تمّت مناقشتها، بالإضافة إلى قضايا التعاون التجاري، ومشروع مدّ الكهرباء من الأردن والعراق وهذا كله تتحكم فيه الميليشيات الإيرانية، وهي من لديها الصلاحية في البدء بمثل هذه المشاريع من عدمها، منوهاً بأنّ الأردن إذا أراد الاستفادة من العراق بسبب ظرفه الاقتصادي الحرج فلا بدّ أن يتفاهم مع هذه الميليشيات.
العلاقات الأردنية-الإيرانية
ويؤكدّ الكندوري أنّ هذه اللقاءات الأخيرة تشكل مقدمة وباكورة للتفاهمات مع تلك الميليشيات، مشيراً إلى أنّه في المستقبل القريب سيكون هناك لقاءات أخرى ولغة الخطاب الأردني ستتغير تجاه إيران.
وبحسب الكندوري، فالأردن لن يحصل على شيء من العراق إذا لم يقدم تنازلات لإيران، على رأسها تقديم تنازلات على المستوى السياسي، وإخراج الأردن من معادلة العداء للنفوذ الإيراني، وإقناع الأردن وتشجيعه على فتح السياحة الدينية، إذ إنّ الأردن لا يزال ممتنعاً عن الاقتراحات التي قدمتها طهران في وقت سابق حول فتح السياحة الدينية، وهذه كلها سلسلة من التنازلات مقابل الاستفادة من العراق اقتصادياً.
ويوضح الكندوري أنّ واحداً من التنازلات التي يمكن أن يقدمها الأردن للعراق هو طرد المعارضين العراقيين لديه، لأنهم يحرجون النظام العراقي كثيراً، مشيراً إلى أنّ الأردن يعاني من وضع متأزم على المستوى الاقتصادي، وعمليات التطبيع الأخيرة لبعض الدول العربية حرم الأردن من كونه الوسيط ما بين العرب وإسرائيل، لذلك فهو في الوقت الحالي قابل للضغط عليه، وهو ما يجبره على تقديم تنازلات، لكن السؤال: إلى أي مدى يستطيع أن يصل الأردن بتنازلاته؟ وهذا ما ستكشفه الفترة المقبلة.
ويرى الكندوري أنّ الأردن يحاول أن يعدد خياراته، منها التقارب مع تركيا وإيران التي باتت تندرج ضمن هذه الخيارات المتاحة، معتبراً أنّ السياحة الدينية الشيعية هي أبسط التنازلات التي سيقدمها الأردن، ولن تصل به إلى درجة الانضمام الى المحور الإيراني أو محور ما يسمى "المقاومة"، مشيراً إلى أنّ موافقة الميليشيات العراقية على عقد أي تفاهم أو اتفاق مع عمان مرهون بالموافقة الإيرانية، وحتماً سيصل الطرفان إلى صيغة اتفاق ترضيهما.
في إطار مشروع الشام الجديد
زيارة الوفد البرلماني الأردني، برئاسة العودات، ولقاءاته مع الكتل البرلمانية العراقية، بما تمثله من أطياف سياسية عراقية، وامتداد تلك اللقاءات لتشمل ممثلين عن فصائل عراقية توصف بأنّها الأقرب لإيران، تؤكد مدى الجدية الأردنية في المضي قدماً بتعزيز العلاقات مع العراق، وهذا ما يكشف عنه خبير الأمن الاستراتيجي الأردني عمر الرداد، لاسيما بعد الاتفاقات التي أنجزت بين الأردن ومصر والعراق في إطار ما يعرف بـ"مشروع الشام الجديد".
ويوضح الرداد، في سياق حديثه مع "عربي بوست"، بالقول: "اللافت في هذه الزيارة لقاءات الوفد الأردني مع زعماء فصائل منضوية في إطار الحشد الشعبي العراقي، وهو ما تمّ تفسيره على أنّه اعتراف أردني بهذه الفصائل، بما في ذلك تمرير رسائل إيجابية من خلالها من عمان إلى طهران، لضمان سلامة أنبوب النفط العراقي عبر الأردن، والذي يعوّل عليه الأردن كثيراً في حلحلة أزماته الاقتصادية المتفاقمة، لا سيما أنّ مرور النفط العراقي عبر الأردن مطروح منذ أكثر من عشر سنوات إلا أنّه لم ير النور، لأسباب أمنية وسياسية، وفقاً لتقديرات الكثير من الخبراء".
ويؤكدّ الرداد أنّ نجاح زيارة الوفد البرلماني الأردني ولقاءاته مع فصائل معروفة بقربها من إيران يعني انفتاحاً جديداً على طهران من جهة، وأنّ نتائجه ستكون مرتبطة بردود طهران وربما شروطها، وفي مقدمتها فتح الأردن المجال أمام الشيعة لزيارة أضرحة الصحابة في مؤتة الأردنية جنوب المملكة، وهي القضية التي خضعت لتجاذبات في أوساط نخبوية أردنية قبل أشهر، وذلك بعد قيام العاهل الأردني بزيارة لتلك الأضرحة والتوجيه بالاهتمام بها قبيل زيارته للعراق.
ويضيف الرداد في سياق حديثه: "الأردن يدرك أنّ زيارة عراقيين وإيرانيين لأضرحة الصحابة تشكل إحدى أوراقه التي يفاوض بها في هذه المرحلة، ويبدو أنّه مستعد لتنفيذ ذلك بإجراءات وضوابط أمنية تبدد مخاوف شعبية من امتدادات إيرانية مذهبية في الأردن".
وبالتزامن يدرك الأردن، بحسب ما يشير إليه الرداد، أنّ أي تقارب مع ايران في هذه المرحلة سيتم تفسيره من قبل بعض الأوساط في المنطقة بأنّه ابتعاد عن المحور السعودي، إلا أنّ الحسابات الأردنية بهذا الخصوص تدرك أنّ هناك تحولات عميقة في الإقليم، وأنّ السعودية تجري مفاوضات مع إيران بوساطة عراقية، تؤيدها عمان في ظل استراتيجية أردنية جوهرها تعزيز وتشجيع مبادرات التعاون الإقليمي وحلحلة قضايا المنطقة والإقليم الذي أصبح ضرورة لكل شعوب المنطقة، وأنّ بوابة التعاون الاقتصادي هي الأنسب لتثبيت السلام في المنطقة.
تحذير ونصيحة للأردن
لكنّ تحذيرات ونصائح بدت تلوح في الأفق للأردن من عقد أو تكرار مثل هذه اللقاءات أو التفاهمات مستقبلاً مع المليشيات الشيعية التابعة لطهران ورموزها، وهذا ما يؤكده السياسي العراقي انتفاض قنبر المقرب من رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، الذي بعث برسالة نصيحة وتحذير إلى الجانب الأردني في حديثه الخاص مع "عربي بوست" قائلاً: "أنصح الأردن من باب الحب والصداقة أنّ اللقاء مع شخصيات ميليشياوية مثل الخزعلي لا يمكن أن تحقق فائدة للأردن، لأنّ تلك الشخصيات تأتمر بأوامر طهران ونواياهم سيئة نحو الأردن".
ويضيف قنبر، في سياق حديثه الخاص عن اللقاءات التي عقدها الوفد النيابي الأردني في العراق، بالقول: "من جراء تعاملي مع الأحزاب والميليشيات الشيعية التي تسيرها طهران لسنوات طويلة أعرف كم يمقتون الأردن، وطهران لديها حق دفين تجاه الأردن بسبب العلاقة الطيبة التي كانت تجمع العاهل الأردني الراحل الملك حسين وبين شاه إيران، وكذلك مواقف الأردن وتصريحات الملك عبدالله بخصوص التحذير من خطر الهلال الشيعي".
ويشير قنبر إلى أنّ العاهل الأردني ذكر في زيارته الأخيرة إلى واشنطن أنّ هناك طائرات مسيّرة من نوع "درونز" عبرت الحدود الأردنية-العراقية، وهذا اعتداء على السيادة والأمن القومي الأردني، كاشفاً أنّ هذه الطائرات سيرتها الميليشيات الإيرانية في العراق، محذراً من أنّ التعامل مع الميليشيات التابعة لإيران مثل عصائب أهل الحق التي يرأسها قيس الخزعلي فيه خطر على الأردن.
لكن في المقابل، يؤكدّ قنبر أنّ الأردن إذا أراد فتح حدوده للسياحة الدينية فلن يكون له ضرر، لأنّ هناك الكثير من الشيعة في العراق يرغبون في زيارة مرقد الإمام جعفر الطيار، شريطة أن يكون الأردن حذراً من الاختراق الإيراني من جراء فتح أبوابه للسياحة الدينية.
ويوجه قنبر رسالة نصح للأردن بعدم الاعتماد على أي اتفاقات أو تفاهمات مع رموز الميليشيات الإيرانية، لأنّ تحركاتهم لا تنبع من مصالح وطنية عراقية، بل تنبع من المصالح الإيرانية، مشدداً على أنّ طهران إذا غيرت توجهاتها وسياساتها فإنّ كل شيء سيتغير، وبالتالي فإنّ ربط المنفعة الاقتصادية والتجارية باتفاقيات مع هذه الميليشيات هو مسألة خطيرة، بحسب رؤية قنبر، وقد لا يترتب عليها نتائج مرغوبة لكل الأطراف، بل تسهم في تقوية الميليشيات الإيرانية وتعطيها الشرعية ونوعاً من السطوة التي سوف تستغلها لصالح تعزيز السياسات والنفوذ الإيراني بالمنطقة.