يتواصل الجدل الذي أثارته تصريحات الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي حول رغبته في تعيين ضابط لكل قرية مصرية، خصوصاً مع تخوف البعض من الهدف الحقيقي لهذا القرار، وما إذا كان تمهيداً لـ"عسكرة" الدولة.
وأثار الطلب تخوفات الكثيرين في مصر، خصوصاً بسبب جوانبه السلبية المتعددة، منها انشغال رجال الجيش بمهام ليست من صلب عملهم الأساسي وهو حماية البلاد من العدوان الخارجي، فضلاً عن استمرار مؤسسة الرئاسة في التضييق على الكوادر المدنية وإهمالها لحساب الجيش الذي يعتبره السيسي- بحسب معلقين سياسيين- حزبه السياسي غير المعلن، وهو ما يعزز في النهاية توجه السيسي نحو "عسكرة المجتمع المصري".
وكان السيسي فاجأ الحاضرين، خلال تفقده لمعدات تطوير قرى الريف المتضمنة في مبادرة حياة كريمة، بتوجيه طلب لوزير الدفاع المصري الفريق محمد زكي، أن يكون لكل قرية ضابط مسؤول عنها.
وتعد هذه الخطوة هي الثانية في مشوار تعزيز سيطرة القيادات العسكرية على المجتمع المدني؛ إذ سبقها إقرار قانون في يوليو/تموز 2020، بتعيين مستشار عسكري وعدد من المساعدين له في كل محافظة من العسكريين، يصدر قرار بتعيينهم من وزير الدفاع، وهو ما رآه البعض وقتها إقحاماً للجيش في الحياة المدنية.
طرحت "عربي بوست" على مصدر مسؤول بالحكومة المصرية الأسئلة المتداولة بين المواطنين، والتي تعكس مخاوفهم من هذه الخطوة.
رقيب على أموال التطوير
ذكر المصدر- الذي فضل عدم ذكر اسمه لحساسية الموقف- إن قرار الرئيس المصري بتعيين ضابط جيش لكل قرية، "ليس المقصود به وضع القرى تحت مظلة الحكم العسكري"، كما يشير البعض.
وأضاف أن تعيين ضابط لكل قرية يأتي من منطلق كونه "رقيباً"، إذ سيكون دوره متابعة تطوير القرى لضمان عدم إهدار الأموال المرصودة لمبادرة "حياة كريمة"، والتي تصل إلى 600 مليار جنيه مصري (38 مليار دولار) يتم إنفاقها على مدى ثلاث سنوات.
ويتخوف الرئيس- بحسب المصدر- من أن تضيع كل هذه المليارات، وهي عبارة عن أموال دافعي الضرائب والمنح والتبرعات، بسبب الفساد السائد في المحليات، الذي يعرفه حتى الأطفال الصغار في المحافظات المختلفة، على حد تعبيره.
ورأى السيسي أن أنسب طريقة للحفاظ على الأموال هي الاعتماد على المؤسسة العسكرية التي تمتلك الانضباط والجدية وسرعة التنفيذ، كما تتمتع- وهذا هو الأهم- بأقل نسبة فساد بين مختلف المؤسسات المصرية، على حد قوله.
وأشار إلى أن الرئيس لا يثق إلا في المؤسسة العسكرية التي ينتمي إليها، وقد بدأ اعتماده على الجيش منذ الشهور الأولى لتوليه السلطة في يونيو/حزيران 2014، وزاد اعتماده عليه بعد أن قامت الهيئة الهندسية للقوات المسلحة وإدارة المشروعات ومختلف الإدارات العسكرية المكلفة بتنفيذ تكليفاتها في الوقت وبالطريقة التي يريدها الرئيس، فلماذا يستبدلها الآن بمدنيين؟!
وأضاف أن من يتباكون على تخصيص ضابط لكل قرية يتناسون أن هناك فراغاً في المحليات بسبب عدم إجراء الانتخابات منذ ما قبل ثورة يناير/كانون الثاني عام 2011.
وعندما سألناه: هل مهمتهم ستتوقف بمجرد الانتهاء من التطوير ويعودون أدراجهم؟
أشار المصدر إلى أن هذا سابق لأوانه، وأنه يجب الحكم على التجربة أولاً. لكنه أوضح أن معلوماته تشير إلى أنهم سيبقون بعد التطوير للمتابعة والاطمئنان على أن التطوير الذي تم بالفعل "لن تطوله يد الإهمال"، على حد قوله.
فساد كبير في مشروع القرى
وكشف المصدر أن هناك أموالاً ضخمة تم توفيرها لتطوير المناطق الأكثر احتياجاً في السنوات الماضية، ولم يكن لذلك مردود إيجابي على أرض الواقع، ولديهم من الوقائع ما يثبت إهدار أموال لا حصر لها حجمها يضاهي حجم تكلفة المشروعات بل أضعاف التكلفة، فكل المشاريع لا تخلو من السرقات في ظل غياب الرقابة، وينعكس ذلك على أهالي القرى.
على سبيل المثال، تم إنفاق الملايين على تمهيد أحد الطرق بقرية فاقوس بمحافظة الشرقية، ثم توقف العمل به، وبالمثل أنفقت ملايين على نفق "الطاهرة" بذات المحافظة وأصبح دون جدوى بعد توقف العمل به بسبب تنفيذ خاطئ دون دراسة.
وأشار إلى أنه في أكتوبر/تشرين الأول 2016، أعلنت الدكتورة سحر نصر، وزيرة التعاون الدولي، نجاح مصر في الحصول على تمويل من البنك الدولى بقيمة نصف مليار دولار لدعم برنامج التنمية المحلية في محافظات الصعيد وتوفير الخدمات للمناطق الأكثر احتياجاً، والنهوض بمرافق البنية الأساسية، وما زال الوجه القبلي يعانى من الإهمال والأزمات.
ووفقاً لتقارير رسمية، صادرة عن وزارة التعاون الدولي، فإن مصر حصلت على منح من دول مختلفة تقدر بـ23.5 مليار جنيه، لدعم البنية التحتية لمحافظات الصعيد وحدها منذ ثورة يناير 2011، وحتى بداية عام 2016، ما يعد مؤشراً على إهدار هذه المنح وظهرت دلائل شبهة الفساد المالي في التناقض بين حجم المبالغ المالية المخصصة للقطاع وبين نسب النجاح.
وبالرغم من حجم المنح الذي يصل للمليارات إلا أن أبناء سوهاج، على سبيل المثال، لا يشعرون بأي تنمية حقيقية تحدث على الأرض، ومحافظتهم التي تضم 243 قرية تعتبر ثاني أفقر محافظات الجمهورية، وبالمثل محافظة قنا.
تقارير سرية حول الفساد
وأضاف المصدر أن هناك تقارير سرية تم رفعها للرئاسة، تفيد أن بعض المحافظين حصلوا على أموال القروض والمنح وحولوا جزءاً منها في دعم مشروعات أخرى، وجزء آخر من الأموال تم الاستيلاء عليه سواء من الجهات التى تتولى إنشاء المشروعات أو مسؤولين بالجهاز الإداري.
وأوضح أنه لا يتم متابعة تنفيذ المنح إلا في بداية المشروعات فقط، الأمر الذي يعطي الفرصة لتوقفها أو إهدار أموالها في مشروعات أخرى أو الاستيلاء عليها عبر الفاسدين.
وكشف المصدر عن أن هناك توصيات بالرقابة الشديدة على تلك المشروعات خوفاً من أن تدخل المحسوبية أو مراكز القوى الموجودة في القرى في اختيار قرية وتأجيل قرية أخرى فقيرة أكثر احتياجاً واستحقاقاً للمبادرة مما يتسبب في احتقانات بين أبناء القرى المتجاورة في حال تعثر الخطة، خاصة أن المبادرة تستهدف 1500 قرية من قُرى مصر البالغة 4700 قرية أساسية غير التوابع والنجوع.
القلق من تعاون الأمن الوطني
ونفى المسؤول بشدة لـ"عربي بوست" وجود نوايا خفية لدى الدولة من وراء هذا المشروع، مضيفاً: "سمعت الكثير من الافتراضات، ولم أملك نفسي من الضحك عليها، خصوصاً أن بعضها خيالي للغاية، مثل أن يقال إن الهدف هو خنق أي تظاهرات تخرج في القرى احتجاجاً على نقص مياه النيل".
لكن ما يقلق المصدر المسؤول برئاسة الوزراء، ليس موضوع الهدف من تعيين ضباط الجيش، لكن التخوف من شيء آخر لم يلتفت إليه الكثيرون، وهو أن اقتراح السيسي قد يفضي إلى تنازع صلاحيات بين هؤلاء الضباط مع جهاز الأمن الوطني، باعتبار الأخير هو المسئول الأول عن الملف الأمني في كل قرى الجمهورية.
المصدر يخشى أن يكون ذلك كفيلاً بحدوث صدامات مستقبلية بين الجيش والأمن الوطني وتآكل هذه المؤسسات، على حد تعبيره.
المهام مشابهة لمستشاري المحافظات
توجهت "عربي بوست" لمصدر آخر رفيع المستوى في رئاسة الوزراء المصرية حول ما تم على الأرض بالفعل لتنفيذ رغبة الرئيس المصري، والآليات المتوقع اتباعها لتحقيقها، ومن سيتولى صياغة علاقة الضابط الذي طلبه السيسي مع القيادات المدنية في تلك القرى من عمد ومسؤولين محليين وخلافه.
لكن المفاجأة أن المصدر أكد بوضوح أن لا شيء تم في هذا الأمر حتى لحظة كتابة هذه السطور، وأن الجيش هو من يتولى حالياً "هندسة" وإدارة الفكرة حتى ظهورها إلى النور. وهو ما يعني أن آلية وتفاصيل التطبيق ليست جاهزة حتى الآن.
وأوضحت مصادر خاصة لـ"عربي بوست" أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة، شكل بالفعل لجنة لدراسة تنفيذ طلب الرئيس، وتقدير الاحتياجات المطلوبة من الضباط للإشراف على القرى المصرية.
تجدر الإشارة هنا إلى أن الدراسة قيد التنفيذ تضع في اعتبارها أن يشمل المشروع كل قرى مصر وليس فقط القرى المشمولة في مبادرة حياة كريمة، أو تحديداً القرى التي تم الانتهاء من تنفيذ المبادرة فيها والتي لا تزيد على 20% فقط من إجمالي القرى الموضوعة في خطة التطوير والتي تبلغ 4741 قرية بخلاف عشرات آلاف النجوع والكفور الملحقة بها.
والفكرة السائدة داخل المجلس حالياً هي قصر إشراف الضباط على القرى فقط؛ بحيث يتولى كل ضابط متابعة أحوال الكفور والنجوع الواقعة في محيط القرية التي يشرف عليها، وذلك بهدف توفير أعداد الضباط المطلوبين لتولي هذه المهمة.
كذلك من المقرر أن تتولى اللجنة المشكلة وضع تصور لصلاحيات الضباط الذين سيتولون الإشراف على القرى، وحدود واجباته بحيث يكون دوره إشرافياً، أو بمعنى آخر رقابياً على عمل المسؤولين المدنيين في تلك القرى، سواء كانوا من عمد القرى، أو كبار الموظفين في الهيئات والمؤسسات المحلية في المحافظة التي تتبعها كل قرية.
هذا يعني إمكانية حدوث احتكاك بين الضباط وهؤلاء القيادات، في حالة اكتشاف تورط بعضهم في جرائم فساد.
ومن المتوقع أن يكلف الضباط المشرفون على القرى بنفس المهام التي أوكلت إلى المستشارين العسكريين الذين تم تعيينهم في العام 2020، ومن أبرز تلك المهام تمثيل وزارة الدفاع بالمحافظة، والمساهمة في المتابعة الميدانية الدورية للخدمات المقدمة للمواطنين، والمشروعات الجاري تنفيذها، ومعدلات تنفيذها، بجانب التواصل المجتمعي مع المواطنين للوقوف على مشاكلهم واتخاذ اللازم في شأنها، وكذلك التنسيق مع الجهات المعنية بالمحافظة لاتخاذ الإجراءات اللازمة لتحقيق أهداف الدولة التنموية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، أو توقي حدوث خطر جسيم يضر بأمن الدولة وسلامتها، وأخيراً التنسيق مع الجهات التعليمية على مستوى المحافظة لتنفيذ منهج التربية العسكرية وفقاً للقواعد التي تحددها وزارة الدفاع.
كما نصت المادة الثانية من القانون على أن للمستشار العسكري في سبيل تنفيذ مهامه المشاركة في اجتماعات كل من مجلس الدفاع الشعبي والمجلس التنفيذي للمحافظة، وعقد الاجتماعات مع قيادات المحافظة في الأحوال التي يرى فيها لزوم ذلك فيما يتعلق بمهامه، بخلاف رفع تقارير إلى وزارة الدفاع أو أي من الجهات المعنية في شأن أي من الأمور التي يختص بها، مع تفويض أي من مساعديه في الاختصاصات الموكلة إليه، ويحدد قرار تعيين مساعد المستشار العسكري للمحافظة الاختصاصات المنوطة به.
فساد المحليات لن يتوقف
عماد، مسؤول في المجلس المحلي بإحدى محافظات الدلتا وأستاذ جامعي، قال في تصريحات لـ"عربي بوست" تعليقاً على ما يحدث، إنه من المستبعد حدوث مشاكل أو خلافات بين الضباط المكلفين وبين القيادات المدنية، خصوصاً أن الثقافة السائدة في غالبية القيادات المدينة في أرياف مصر هي الطاعة العمياء للحكومة وكل من يمثلها، وفي المقابل اقتناع ممثلي الحكومة سواء كانوا من ضباط الشرطة أو الجيش بأن دورهم تحقيق التواصل مع تلك القيادات لبسط سيطرة الدولة على الفلاحين، وهذه الثقافة صورتها عشرات الروايات الأدبية والأفلام السينمائية.
وواصل المسؤول السابق كلامه قائلاً إن نوايا الرئيس السيسي طيبة، لكنها ليست كافية لإصلاح ما أفسده الدهر، خصوصاً أن نسبة الفساد في المحليات هائلة ومتشعبة ومركبة بشكل يجعل من المستحيل عملياً القضاء عليها، إلا إذا قررنا التخلص من كل من عمل في المحليات طوال الخمسين عاماً السابقة.
وأضاف أنه من السذاجة الاعتقاد بأن تعيين ضابط جيش مشرفاً على كل قرية في مصر كفيل بإصلاح أحوالها وضمان ألا يضربها الفساد، إذا كان هذا هو الهدف الحقيقي من المشروع!
ودلَّل الرجل على صحة رأيه بقوله إن كل محاولات السيسي السابقة لخلق قيادات موالية له تحارب الفساد باءت بفشل ذريع، بداية من تعيين الشباب في مناصب نواب محافظين، مروراً بالاعتماد على أعضاء ما تعرف بـ"تنسيقية شباب الاحزاب" في مناصب إدارية رفيعة في مختلف المحافظات، وصولاً إلى قانون المستشارين العسكريين الذي تم إقراره العام الماضي، ولم نسمع بأحد من هؤلاء المستشارين بعد تعيينهم وكأن المحافظات المصرية كلها في أحسن حال ولا يوجد فيها فساد وسرقات!
مخاوف على الجيش بسبب انشغال الضباط في الحياة المدنية
مدير تحرير بصحيفة قومية كبرى كان يعمل محرراً عسكرياً سابقاً، قال في تصريحات لـ"عربي بوست" إن ما يفعله الرئيس السيسي منذ سنوات يذكره بما فعله جمال عبدالناصر في ستينيات القرن الماضي وانتهى به الأمر إلى وقوع نكسة 1967، التي تعتبر أكثر الذكريات ألماً في الذاكرة المصرية سواء للعسكريين أو للمدنيين.
إذ سمح عبدالناصر بتوسيع نفوذ العسكريين على مختلف مفاصل الحياة المدنية في مصر، ورأينا ضابطاً في كل مؤسسة وهيئة حكومية، فكانت النتيجة تفشي الفساد نتيجة قلة خبرة هؤلاء الضباط بالهيئات المدنية، ما جعلهم لقمة سائغة للفاسدين في تلك الجهات، كما أدى ابتعاد الضباط عن ثكناتهم وعملهم الأساسي وهو القتال إلى ترهل الجيش ما أوقع به في شرك الهزيمة المُرَّة في 67.
وأضاف قائلا إنه بجانب الشكوك العميقة في قدرة الضباط على التعامل مع المشكلات المتراكمة في القرى المصرية على مدار سنين طويلة، فإنه كان على السيسي ومعاونيه أن يتوقعوا أن تقاوم القيادات المدنية تلك التعيينات، خصوصاً أنها جاءت بالأساس- وبحسب تصريحات الرئيس نفسه- نتيجة عدم ثقته في كفاءة هؤلاء المدنيين أو في نزاهتهم المالية، أي أن الدولة ترسل ضباطاً للرقابة والإشراف على مجموعة من الناس وصمتهم سلفا بـ"الفاسدين واللصوص"، فكيف نتوقع شكل تعاون هؤلاء مع الضباط؟!
وهناك خطورة إضافية لمثل هذه المشروعات التي يطلقها السيسي، تتمثل في زيادة احتمالات حدوث احتكاكات ومواجهات بين الشعب المدني وبين العسكريين، بسبب انتشار هؤلاء في السنوات الأخيرة في مختلف نواحي الحياة المدنية، وهو أمر لم يكن معتاداً للمصريين منذ ما يقرب من 50 عاماً، وتحديداً منذ أن تولى الفريق محمد فوزي قيادة الجيش عقب نكسة 67، حين قرر أن الرجل العسكري مكانه الجبهة أو الثكنة ومنع الضباط بالاتفاق مع عبدالناصر من تولى مناصب مدنية.
وحذر جورج إسحاق، عضو المجلس المصري لحقوق الإنسان، في تصريحات صحفية من معالجة فشل الحكومات في إعداد مؤسسات مدنية قوية تنجز مشروعات التنمية بـ"عسكرة المجتمع" عبر اختيار ضباط للإشراف على تنفيذ تلك المشروعات، لأن الأزمة سوف تظل مستمرة وما يقبل به المواطن حالياً قد يرفضه مستقبلاً.