"أبحث ليلاً ونهاراً عن الدواء، حتى أصبحت أسمى أمنياتي أن أجد عبوة واحدة"، هكذا عبرت ميسم بصوت مرتجف عن أزمة الدواء في لبنان التي تعصف بالمواطنين هذه الأيام.
ميسم، ربة المنزل البالغة من العمر 47 عاماً، تخشى من أن تفقد والدتها التي تعاني من مرضي الضغط والقلب، القدرة على الوصول إلى علاجها الذي تسير عليه بشكل يومي.
هذا ليس حال ميسم ووالدتها فقط، بل معظم اللبنانيين الذين يقفون في الطوابير أمام الصيدليات بعد أن أصبحت الأرفف فارغة، تملؤها فقط بقايا من صريخ الناس الذين يهرعون لتأمين أبسط الأدوية.
أزمة الدواء في لبنان
ولم يكن حال خالد علي في مدينة طرابلس أحسن حالاً، إذ يعاني من مرض الضغط والقلب أيضاً ودواؤه مفقود، يبحث منذ أيام عن علبة واحدة ريثما يتم تأمين علب أخرى عبر القادمين من تركيا.
يقف خالد، الذي يبلغ 56 عاماً من عمره ويعمل موظفاً في إحدى ثانويات التعليم في طرابلس، على باب صيدلية في وسط المدينة، حيث وعده الطبيب المناوب في الصيدلية بأنه سيؤمن له علبة إضافية من إحدى صيدليات بيروت.
يشكو الرجل الحال ويسرد بشكل سريع أنه لو قرر النزول لبيروت لتأمين علبة دواء، فلا يضمن أنه سيجدها، بالإضافة إلى أن شركات النقل متوقفة بسبب أزمة الوقود.
يضاف إلى ذلك أن ابنه العامل في تركيا ليس بإمكانه إرسال الدواء بشكل منتظم بعد امتناع اللبنانيين عن السفر، عقب تحول سعر التذاكر للدولار.
كيف بدأت الأزمة؟
هذا المشهد أصبح مكرراً عند عتبة الصيدليات، خصوصاً الصغيرة منها وتلك الموجودة في الأحياء الضيّقة، إذ تدور إشكالات يومية بين الصيدلي والزّبون على علبة دواء أو حليب. فجواب الصيدلي أصبح متوقعاً: "مقطوع".
بدأت أزمة الدواء في لبنان تتفاقم مع بداية عام 2020، وذلك بسبب نفاد العملة الأجنبية من مصرف لبنان من أجل دعم الدواء المستورد من الخارج كي تستطيع الشركات في لبنان بيعه بالسعر المنخفض نسبيّاً على سعر الدولار (مقابل 1500 ليرة) وليس على سعر السوق السوداء الذي وصل إلى معدلات 15 ألف ليرة مقابل الدولار.
تزداد الأزمة سوءاً مع الأيام، خصوصاً بعدما أكّد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في آخر تصريح له أنّ المصرف المركزي لن يستطيع الاستمرار بدعم الأدوية المستوردة، وبالتّالي هو متّجه إلى رفع الدعم عنها ممّا سيؤدّي إلى ارتفاع كبير في سعر الأدوية.
السبب وراء الأزمة
لا يقتصر فقدان الدواء في لبنان على سبب واحد، بل أسباب عديدة. وهنا، يسرد الصيدلي سهيل الغريب، والمنتسب الى مؤسّسة "نقابتي" – وهي نقابة مستقلّة عن السلطة والأحزاب السياسيّة اللبنانيّة – لـ"عربي بوست" تلك الأسباب مستهلّاً حديثه عن الشركات التي تمتنع عن توزيع الدواء بشكل متساوٍ بين الصيدليات.
ويعتبر الغريب أن الشركات، وبسبب ترقّبها لرفع الدعم، لا توزّع الأدوية على الصيدليات بشكل عادل. فتقوم شركات الأدوية الموزّعة في لبنان، بحسب الغريب، إمّا بتوزيع كميّة كبيرة لصيدليات ذات اسم كبير دون غيرها، أو بتسليم كميّة محدودة جدّا للصيدليات "الصغيرة" وهي لا تكفي ليومين، أو حتى ليوم واحد أحياناً.
في السياق نفسه، يشدّد الغريب أيضاً على أنّ: "هناك شركات تصدّر الأدوية إلى الخارج لتزيد من أرباحها، لأنها في الخارج تبيع السلعة الدوائية بالدّولار الأمريكي".
وأضاف: "ما لم يصدّر أو يوزّع من الدواء، يتم تهريبه أو تخزينه إلى حين رفع الدعم". وهذا ما يؤدّي الى عدم توافر الأدوية في الصيدليات وبالتّالي الأرفف فارغة.
وفي السياق ذاته يقول الصيدلي أحمد بدر، إن الوكيل الذي يستورد الدّواء من الخارج يوزّعه على الصيدليات؛ ومن ثمّ يحصّل أمواله من الدولة اللبنانية بعد 3 أشهر تقريباً.
لذا يعتبر بدر أن الوكيل يخاف من أن يوزّع البضاعة كاملة، وبعدها تصدر الدولة ممثّلة بالحكومة اللبنانية قرار رفع الدعم وبالتّالي كل عمله يذهب "هباء منثوراً". إثر ذلك، يتّجه الوكيل نحو التقنين في التوزيع كي لا يخسر أمواله.
يشير بدر إلى أنّه سابقاً كان الوكيل يوزّع كميات هائلة من الدواء، لكن اليوم يقتصر الموضوع على علبة واحدة في الشهر.
ترشيد الدعم
ما يتبعه مصرف لبنان هو خطّة إمّا لرفع الدعم أو لاستكماله، ولكن ما يطالب به الصيادلة هو "ترشيد الدعم".
ويعني ذلك، كما يشرحه الدكتور سهيل الغريب، أن يرفع الدعم عن الأدوية المستوردة من الخارج، وبالتّالي تحفّز الصناعة الوطنية اللبنانيّة.
الصناعة الوطنيّة أقلّ كلفة من البضاعة المستوردة، لذا من وجهة نظر غريب، فإن باستطاعة الصناعة الوطنية أن تؤمّن حاجة السّوق وتحقّق الاكتفاء، وبالتّالي تخفيض الكلفة عن المواطنين بشكل عام والدّولة بشكل خاص.
كما يؤكّد الغريب أنّ ترشيد الدعم وحده لا يكفي، بل يجب على الدولة اللبنانيّة السيطرة على حدودها، ومنع التهريب الخارجي عبر الحدود البريّة والبحريّة والجويّة.
ويضيف المتحدّث لـ"عربي بوست": "إنّ الدعم المعمول به من قبل المصرف فاشل، لأن الدّعم يجب أن يكون لمصلحة المواطن ويخدمه، لا لمصلحة الشركات التي تبحث عن طرق عديدة لبيع بضائعها في الخارج وتتوّخى الرّبح بالدّولار".
لرفع الدعم أيضاً فوائد شخصيّة للصيدلي، الذي يعتبر صاحب مشروع يجب أن يحافظ على ربحه وإلا سيخسر مشروعه مع الوقت، وبالتّالي يقفل أبواب الصيدليّة. انطلاقاً من هذه النقطة، يشرح الصيدلي أحمد بدر أن رفع الدّعم عن بعض الأدوية سيزيد من أرباحه، وبالتّالي سيصبّ ذلك في مصلحته.
ولكن من الناحية الأخرى، وبسبب الارتفاع في الأسعار الناجم عن رفع الدّعم، ستتراجع القدرة الشرائية لدى المواطنين، وبالتّالي لن يلجأوا الى الصيدليّة كما كان سابقاً، بحسب قول بدر.
الناس بالطّوابير.. وهدية المغترب علبة دواء
نتيجة التقنين المستمر، أصبح على جدول اللبنانيين اليوميّة الانتظار بالسّاعات داخل الصيدليات من أجل علبة دواء واحدة. وفي حال لم يكن هذا الخيار المتّخذ، فالجولة على صيدليات لبنان من شماله إلى جنوبه حتماً ستكون الخيار الثاني.
انقطاع الدّواء أصاب اللبنانيين بالذعر، وهنا ليس الحديث عن أدوية ألم الرأس مثلاً أو أدوية بسيطة– علماً أن هذه الأدوية لم تعد في متناول اليد أيضاً – بل أدوية للأمراض المزمنة كالضغط والسّكري والقلب وأمراض الجهاز المناعي.
عماد الشّل وأخوه من المواطنين الذين يعانون من مرض في الجهاز المناعي، وهما بحاجة لدواء يوميّ، وفي حال الانقطاع عنه، خصوصاً أخاه، فإمكانية وقوع التجلّطات الدموية عالية جدّاً.
يقول عماد: "أوكّل أصدقائي في مختلف المناطق بتأمين الدواء، وأؤمّن قدر المستطاع وأخزّن في المنزل"، ويتابع عماد بالقول إنّه يخشى أن يصل الى وقت لن يجد فيه الدّواء أبداً، فيصعب التفكير في المجهول.
ولكن الأمر لا يتوقّف عند هذا الحدّ أبداً، فأصبحت أجمل هديّة يمكن أن يحملها مغتربون أو سائحون إلى أهلهم وأصحابهم في لبنان، علبة دواء -أو عدّة علب- يستطيعون أن يسندوا أنفسهم بها إلى حين انفراج الأزمة.
عماد مثلاً حصّن نفسه بطلب الدّواء لأخيه ونفسه من أصدقائه في تركيا مهمّا كان سعره، فالصحّة أهمّ من كلّ شيء.
وحال جنى سكاكيني لا يختلف كثيراً عن وضع عماد. جنى بحاجة إلى أدوية مزمنة كونها تعاني من أمراض مزمنة ومنها مرض القلق وضغط الدّم.
وفي حال لم يؤمّن دواؤها، فسيؤدّي ذلك إلى آثار جانبية ومنها الارتفاع في ضغط الدّم، وبالتّالي خطر حدوث أمراض أخرى.
تقول جنى: "أبحث عن الأدوية دون توقّف، وإذا لم أجد الدواء الخاص بي أسأل الطبيب عن بديل، وإذا لم يوجد أوكل أحداً من الخارج"، وتؤكّد جنى على أنّ السعر يتضاعف ولكن ليس لديهم حل ثانٍ ولا بديل.
كيف وصل لبنان إلى هذه اللحظة؟
من المؤكّد أن لبنان لم يدخل في هذا النفق المظلم فجأة، فالأزمة تراكمت عبر السنين لتنفجر فجأة بوجه اللبنانيين دون سابق إنذار؛ إذ إنّ الدولة كانت دائماً تطمئن "الليرة بخير، لا داعي للهلع"… وما زالت.
لكن مدير مرصد الأزمة في الجامعة الأمريكية في بيروت د.ناصر ياسين يرى أن ما أوصل حال الصيدليات في لبنان إلى هذا الدرك الأسفل هي السياسات السّابقة التي جعلت من كلفة الفاتورة الدوائية في لبنان من الأعلى في العالم، إذ قُدر الإنفاق على الدواء عام 2018 قبل الأزمة الاقتصادية بـ3.4% من الناتج المحلي الإجمالي.
هذه من أعلى النسب في العالم، فمثلاً اليونان أنفقت على الدواء 2.2% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2018، وهو من أعلى مستويات الإنفاق في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
ويوضّح تقرير مرصد الأزمة أن الإنفاق على الأدوية يشكّل الحصة الأكبر من مجمل الإنفاق على الصحة والذي يقدر بـ44% من المجموع، وهذه النسبة هي من الأعلى في العالم .
يعود ذلك إلى اعتماد لبنان على استيراد الدواء من الخارج بنسبة 81% من احتياجاته الدوائية جلها من الأسماء التجارية، متجاهلاً تطوير الإنتاج المحلي للدواء؛ حيث تعمل مصانع الدواء بمعدل نصف طاقتها فقط مغطية 19% من احتياجات السوق- 12% من حاجات السوق هي فعلياً أدوية تتم تعبئتها لحساب الشركات العالمية و7% فقط هي بدائل.
المناكفة السياسية تزيد الأزمة
في المناكفة المستمرّة والتي لها خلفيات سياسيّة بين حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي يسعى إلى رفع الدّعم ووزير الصّحة في حكومة تصريف الأعمال حمد حسن الذي يشدّد على استمراره، يبقى الشعب الضحيّة الوحيدة محروماً من الدواء.
في رأي اللبنانيين، فإن الدولة تمنح مواطنيها خيارات عديدة للموت، فإذا لم يموتوا في انفجار الرّابع من أغسطس/آب الذي دمّر بيروت، يموتون من احتجاز أموالهم في المصارف، وإن نفذوا من هذه، يكون الخيار بانقطاع الأدوية من الأسواق. ويبقى اللبناني غريقاً يتعلّق بقشّة، محاولاً النجاة من الموت كلّ مرّة.. فهذا قدره.