شعور بالفخر انتاب كثيراً من المصريين خلال مراسم نقل 22 مومياء فرعونية يوم السبت الثالث من أبريل/نيسان الحالي من المتحف المصري بالتحرير إلى متحف الحضارات الجديد في منطقة مصر الفاطمية.
لكن تساؤلات كثيرة دارت حول تكلفة الحفل، خصوصاً بعدما كشف وزير السياحة والآثار المصري خالد العناني عن أن تكلفة بناء متحف الحضارات والمتحف الكبير الذي لم يفتتح بعد، بلغت 17 مليار جنيه مصري، بخلاف تكاليف نقل المومياوات في الموكب المهيب الذي شمل أيضاً افتتاح ميدان التحرير بتجهيزاته الجديدة، وعروض موسيقية وضوئية، وطلاء كل المباني المطلة على مسار الموكب بلون موحد، وأزياء تم تصميمها لـ1600 شخص، فضلاً عن البدء في تطوير المنطقة المحيطة بمتحف الحضارات في منطقة الفسطاط.
العناني صرَّح في مداخلة مع برنامج "على مسؤوليتي" في فضائية "صدى البلد"، بأن تكلفة بناء المتحف الكبير بلغت حتى الآن 15 مليار جنيه، ما يفيد بأنها ليست التكلفة النهائية، خصوصاً أن المتحف لن يفتتح قبل صيف العام المقبل، كما أعلن من قبل، فيما بلغت تكاليف بناء متحف الحضارات ملياري جنيه، بخلاف المبالغ الأخرى الصغيرة التي بلغت مئات الملايين للإنفاق على مشروعات أخرى تخص الوزارة.
تضارب في قيمة المبالغ
صحفي مخضرم متخصص في تغطية أخبار وزارة الآثار منذ سنوات طويلة، علَّق على تصريحات خالد العناني، فقال لـ"عربي بوست" إن الرجل إما أنه لا يعرف تفاصيل ميزانية الأعمال التي تقوم بها وزارته، أو أنه يتعمد المغالطة لأسباب لا يعلمها أحد إلا هو، مضيفاً أن تكلفة إنشاء متحف الحضارات كانت مقدرة في بداية إنشائه بحوالي 4 مليارات جنيه، وهذا الكلام نشرناه جميعاً عام 2018، نقلاً عن محروس سعيد المشرف العام على مشروع المتحف.
ويضيف: "ربما يفسر البعض ذلك بأن الوزير أراد تخفيف وقع تصريحاته عن تكلفة المشروعات الأثرية على الشعب الذي يواجه أغلبه صعوبات معيشية في الفترة الحالية، لكن ذلك التفسير يتناقض مع بقية تصريحات العناني نفسه في نفس الحلقة، حين صرح بأن تكلفة إنشاء المتحف الكبير بلغت حتى الآن 15 مليار جنيه، في حين أن الميزانية المعلنة للمتحف لا تتجاوز 9 مليارات جنيه (تحديداً 550 مليون دولار).
وحول إشارة الوزير إلى أن تكاليف المشروعات الأثرية تتحملها ميزانية الدولة بشكل مباشر، لأن وزارته بلا موارد منذ عام 2011، قال الصحفي المتخصص في الآثار إن هذه الإشارة لا تخرج عن كونها رغبة من العناني في المشاركة في "مولد" الإساءة لثورة يناير 2011 وتحميلها كل الأشياء السيئة التي مرَّت بمصر في الأعوام العشرة الماضية.
مسؤول بوزارة الآثار يكشف أن تكاليف الموكب ناهزت مليارَي جنيه
"عربي بوست" سأل نيفين العارف، المستشارة الإعلامية لوزارة السياحة والآثار، عن التكلفة الإجمالية لعملية نقل المومياوات وبناء متحف الحضارات وكل ما ارتبط بهما، فردَّت بأن الأوراق الرسمية بالتكلفة النهائية لم يعلن عنها حتى الآن، وأن طلب أي تفاصيل عنها غير ممكن في الوقت الحالي.
لكنَّ مسؤولاً في قطاع الآثار بالوزارة كشف عن أن التكاليف تضخمت بشدة في الشهور الأخيرة بسبب ضيق الوقت المخصص لنقل المومياوات الذي لم يتجاوز 10 شهور فقط، وكذلك لتلبية طلبات الرئيس عبدالفتاح السيسي، حيث كان يفترض أن يتم نقل المومياوات في هدوء ودون إعلان، لكن الرئيس طلب إقامة موكب جنائزي فخم يليق بالمناسبة حتى يكون دعاية جيدة لمتحف الحضارات في الغرب، كما طلب الرئيس أن يقام احتفال موسيقي ضخم لنفس الغرض، وافتتاح ميدان التحرير بشكله الجديد رسمياً في يوم نقل المومياوات.
كل هذه الأمور تكلفت ما يقرب من ملياري جنيه، تتضمن تكاليف تصميم السيارات الفرعونية التي نقلت المومياوات، ودهان المباني المطلة على مسار الموكب بلون موحد، فضلاً عن العروض الضوئية والموسيقية في ميدان التحرير التي تكلفت لوحدها حوالي 4 ملايين دولار.
وكان العالم قد تابع بانبهار موكب نقل المومياوات الملكية، الذي ضم مومياء 22 شخصية فرعونية شهيرة و17 تابوتاً، تم اكتشافها عام 1881 في مقبرة أثرية بجوار الدير البحري في غرب الأقصر، وتضم قائمة المومياوات كلاً من: الملك رمسيس الثاني، الملك رمسيس الأول، الملكة تيي، الملك أمنحتب الثالث، الملك أمنحوتب الأول، الملك تحتمس الرابع، الملك أمنحتب الثاني، الملك تحتمس الثالث، الملكة حتشبسوت، الملك تحتمس الثاني، الملك تحتمس الأول، الملكة ميريت أمون، الملك سقنن رع تاعا، الملك أمنحتب الأول، الملكة أحمس نفرتاري، الملك تحتمس الرابع، الملك سيتي الأول، الملك سيتي الثاني، والملك مرنبتاح.
وحول تفاصيل الحفل، قال محمد سعدى، رئيس الشركة المنظمة له، إن الرئيس عبدالفتاح السيسى كان يتابع كل تفاصيل الحدث، وكان يعطي ملاحظات على كافة الأمور حين تعرض عليه، ومن أبرز تلك الملاحظات قرار العمل على افتتاح ميدان التحرير بثوبه الجديد فى نفس يوم نقل المومياوات الملكية، مضيفاً أنه لم يكن مقرراً فى البداية إلا نقل المومياوات، ولكن طلب الرئيس أن يتم تجهيز ميدان التحرير بثوبه الجديد في نفس اليوم، كما اقترح الرئيس أيضاً أن يفتتح الحفل في متحف التحرير بالأطفال، لأنهم المستقبل، وما يحدث اليوم لهم ولمستقبلهم.
المصريون أثبتوا قدرتهم على تنظيم الأحداث الكبرى
وأشار سعدي إلى أن أكثر ما كان يقلقهم أن الموكب ونقل المومياوات ليس له مثيل في تاريخ مصر الحديث، بهذا الشكل، وبالتالي لم يكن أمامهم عمل مرجعي يمكن القياس عليه أو الاهتداء به، لكن ما يحسب لوزارة الآثار ولشركته وكل المشاركين في الحدث أنهم أثبتوا قدرة المصريين على تنظيم الأحداث الكبرى دون الحاجة لخبرات أجنبية، حيث تم تصميم العربات التي نقلت عليها المومياوات بجهود مصرية خالصة، كما أن فكرة وضع المومياوات في كبسولات نيتروجين لحفظها كانت فكرة مصرية خالصة أيضاً.
وكشف سعدي عن أن الفنانين المصريين شاركوا في الحدث متطوعين دون تقاضي أجر، رغبة منهم في المشاركة بهذا الحدث التاريخي، وهذه الروح التطوعية كفلت خفض تكاليف الحفل إلى أقل من 5% فقط من قيمة العروض التي قدمتها عدة شركات دولية لتنظيم الحدث، لكن سعدي رفض وبإصرار الكشف عن تكاليف الاحتفالية، مؤكداً أنها أقل بكثير من تكاليف أي حملة دعائية للآثار المصرية في الخارج، كما أنه أقل بكثير أيضاً من العوائد التي يتوقع أن يدرها متحف الحضارة على الاقتصاد المصري في السنوات المقبلة.
الدكتور مصطفى إسماعيل، مدير معمل ومخزن المومياوات بمتحف الحضارة، شرح تفاصيل نقل المومياوات في كبسولات معزولة بالنيتروجين، فقال إن الفكرة تبلورت خلال مناقشات مستفيضة لعلماء وخبراء الآثار المصرية حول سبل النقل الآمن للمومياوات، وتوصلنا أخيراً إلى وضع كل مومياء على حامل معدني تم تصنيعه في أمريكا حتى لا يتفاعل مع جسد المومياء، ثم تنقل المومياوات في كبسولات معزولة نيتروجين بدرجة حرارة ورطوبة تعد ابتكاراً علمياً مصرياً، ثم بعد ذلك وضع الكبسولة داخل صندوق خشبي معالج ضد الاهتزاز، تتم بداخله عملية التغليف، لضمان ثبات درجة الحرارة والرطوبة والغاز الخامل، حتى لا يحدث تفتت للمومياء أو وقوع ضرر للجلد أو الدعامات الداخلية لها أثناء عملية النقل.
وأضاف إسماعيل أن الهدف من "كبسولة النيتروجين" أن توفر نقاء كاملاً حول المومياء ما يسمح بالحفاظ عليها دون أن تتضرر من تأثيرات الرطوبة، وخاصةً البكتيريا والفطريات والحشرات، والكبسولة محاطة بمادة ناعمة توزع الضغط وتقلل الاهتزازات أثناء النقل، إضافة إلى وجود وحدات اتزان خارجية تتحكم في الحركة الرأسية والأفقية، بحيث تكون في النهاية ثابتة.
فكرة متحف الحضارات بدأت باقتراح من اليونيسكو قبل 41 عاماً
يقع المتحف القومي للحضارة المصرية بالقرب من حصن بابليون ويطل على منطقة عين الصيرة في قلب مدينة الفسطاط التاريخية بمنطقة مصر القديمة بالقاهرة، بدأت فكرة إنشاء المتحف في عام 1980 كاقتراح من منظمة اليونيسكو ليكون مكاناً يعبر عن مجمل الحضارة المصرية، ثم وضع حجر الأساس للمتحف عام ٢٠٠٢م ليكون من أهم وأكبر متاحف الآثار في العالم، حيث يضم أكثر من ٥٠ ألف قطعة أثرية مراحل تطور الحضارة منذ أقدم العصور حتى العصر الحديث.
صمم المتحف المهندس المعماري المصري الغزالي كسيبة فيما قام بتصميم مساحات المعرض المهندس المعماري الياباني أراتا إيسوزاكي، وسوف تعرض مقتنيات المتحف في معرض رئيسي دائم يتناول أهم إنجازات الحضارة المصرية، بالإضافة إلى ستة معارض أخرى تتناول موضوعات: الحضارة، والنيل، والكتابة، والدولة والمجتمع، والثقافة، والمعتقدات والأفكار، بالإضافة إلى معرض المومياوات الملكية.
ويتضمن المتحف أيضاً مساحات للمعارض المؤقتة، فضلاً عن معرض خاص بتطور مدينة القاهرة الحديثة، بجانب أبنية خدمية، وتجارية، وترفيهية، ومركز بحثي لعلوم المواد القديمة والترميم، كما سيكون المتحف مقراً لاستضافة مجموعة متنوعة من الفعاليات، كعروض الأفلام، والمؤتمرات، والمحاضرات، والأنشطة الثقافية ليكون المتحف مؤسسة متكاملة لها دورها المتميز في نشر الوعي الأثري والتعريف بدور مصر في إرساء دعائم الحضارة الإنسانية أمام الجماهير المحلية والأجنبية.
ومن المقرر أن تعرض المومياوات في إحدى قاعات المتحف ذات جدران سوداء اللون، داخل صناديق حديثة مزودة بتقنيات لضبط درجة الحرارة ومستوى الرطوبة أكثر تقدماً من تلك الموجودة في المتحف المصري بالتحرير، وتعرض المومياوات بشكل فردي بجانب التوابيت الخاصة بها، في صورة تحاكي مقابر الملوك الفرعونية تحت الأرض، مع سيرة ذاتية لكل مومياء وصور الأشعة لبعض منها.
من جهته، نفى وزير السياحة والآثار المصري وجود تعارض بين متحف الحضارات والمتحف الكبير المقرر افتتاحه صيف العام المقبل، حيث قال إن لكل متحف في مصر مكانته الخاصة، لافتاً إلى أن متحف الحضارة يضم قاعة المومياوات الملكية التي تم تنفيذها على أعلى مستوى وبأحدث التقنيات، أما المتحف المصري الكبير فمن المقرر أن يضم قاعة الملك توت عنخ آمون ومقتنيات الملك التي شملت 5 آلاف قطعة أثرية نادرة.
الصدفة وراء أحد أهم الاكتشافات الأثرية في التاريخ
يُذكر أن المومياوات الملكية الفرعونية التي تعد من أهم الاكتشافات الأثرية في التاريخ تم الوصول إليها بالصدفة عام 1881، حيث كان عدد من أفراد عائلة صعيدية تحمل لقب "عبدالرسول" من عائلات القرنة غرب الأقصر، التي استهواها البحث عن مقتنيات فرعونية في وقت ازدهرت فيه عمليات بيع تلك المقتنيات للبعثات الأثرية الأجنبية مقابل مبالغ طائلة.
وقال صلاح الماسخ، مدير حفائر أثرية بالأقصر، إن الأشقاء الثلاثة كانوا ينقبون عن الآثار بمنطقة الدير البحري وفوجئوا بالمقبرة التي أطلق عليها لاحقاً "خبيئة الدير البحري"، واتفقوا وقتها على أن يظل هذا الأمر سراً بينهم لحين تدبير بيع مقتنياتها الثمينة، وسرقوا بالفعل عدد غير قليل من القطع الأثرية والبرديات التي تخص عدداً من الملوك وباعوها للبعثات الأجنبية التي كانت تعمل في الأقصر آنذاك.
وظل الأمر هكذا حتى وقعت إحدى هذه البرديات في يد أحد الأوروبيين المولعين بالآثار المصرية، فأخذ يتقصى عن مصدر البردية حتى وصل لعائلة عبدالرسول وساومهم ليدلوه على مكان الكنز الأثري، إلا أنهم رفضوا فأوشى بهم عند حاكم إقليم قنا، وتم القبض على أحدهم، وكان يشغل في حينها وظيفة وكيل قنصل إنجلترا بمدينة الأقصر، ولكنه لم يرشد الشرطة إلى مكان الخبيئة، لكن الطريف أنه بعد الإفراج عنه طلب من أخويه زيادة حصته بحجة تعرضه لضغوط أكثر منهما إلا أنهما رفضا، ونتيجة لذلك توجه الأخ الذي يدعى محمد عبدالرسول إلى حاكم إقليم قنا مجدداً، وأرشد عن مكان الخبيئة.
وعن السبب الذي جعل الفراعنة يخبئون كل هذه المومياوات القيمة في مكان لا يصل إليه أحد بسهولة، يقول الخبير الأثري زاهي حواس إن السرقات التي تعرض لها مقابر الفراعنة مع بداية حكم الأسرة العشرين حينما نهبت مومياوات العديد من الملوك والكهنة في منطقة البر الغربي، دفع ملوك الأسرة الحادية والعشرين لأن تفكر في إيقاف هذه السرقات الخطيرة، فاقترح الكاهن الأكبر لآمون تجميع مومياوات الفراعنة السابقين وكبار الكهنة وتخبئتها في مقبرة بالقرب من معبد الملكة "حتشبسوت" بالدير البحري بالأقصر.