كان السرير يميل بي كالسفينة فأصبحت أخاف منه .. لماذا لن نسامح الرجال الذين فعلوا ذلك ببيروت؟

عدد القراءات
1,142
عربي بوست
تم النشر: 2020/08/12 الساعة 13:06 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/08/12 الساعة 14:02 بتوقيت غرينتش

فتحت عيناي فجأة، والرعب جاثم على صدري بالفعل. عادت إليّ جرعة الهول كاملة: ماذا حدث، وكيف، ومن المسؤول؟ إنها الرابعة صباحاً. قلبي ينسحق تحت وقع ضرباته السريعة حتى اعتقدت أنني سأتقيأ. الصور الرهيبة تومض في ذهني بلا توقف.

لم تكن تلك مرّتي الأولى، لقد واجهت حزناً مُوهناً حد الإنهاك من قبل. غير أنه قبلاً كان ذلك الحزن يسمح لي على الأقل بزفرات راحة قصيرة عند فتح عيناي للوهلة الأولى، بضع ثوانٍ من النسيان قبل أن تعاود الانغماس في ذكرى كيف تحطمت حياتك. لكن حتى زفرة الراحة تلك لم يعد لها مكان هنا. وليست حياتي فقط هي التي تحطمت. إنه العالم كله الذي يحفظ أركانها، من الأحباء إلى مناظر المدينة المؤنسة. بالكاد نمت، تماماً مثل الليلة السابقة.

أعتقد أنني لا أنام، لأنني أخاف من سريري. وأعتقد أنني أخاف من سريري، لأنني كنت فيه عندما وقع الانفجار. أتذكر أنني كنت أحاول ترك السرير، لكنه كان يميل بي مثل سفينة، كان عليّ القفز منه. استغرق الأمر مني زمناً طويلاً حتى ظننته لن ينتهي أبداً.

نحن جميعاً، الموجودون في بيروت –وأولئك الذين غادروا بيروت لكنهم يحبونها- يغمرهم الوهن والحزن والغضب، الذي يجتاحه نزوع الرغبة في القتل على نحو متزايد. كلنا لا يمكننا التفكير أو التحدث سوى عن شيء واحد. ماذا حدث، وكيف حدث، ومن المسؤول عن كل ذلك.

ماذا حدث: دوي انفجار هائل يجتاح بيروت وشوارعها ومنازلها في الساعة 6.08 مساء الثلاثاء 4 أغسطس/آب 2020. كان الانفجار من الشدة، بحيث سمعه أهل قبرص. كان قوياً جداً لدرجة تحطيم الزجاج ونزع الأبواب عن مفصلاتها في منازل على بعد كيلومترات. لقد أحرق الأشجار وانتزع الأسطح الحمراء لمبانٍ تعود إلى قرون مضت، ودفع بمياه البحر الزرقاء إلى البر. خلّف الانفجار وراءه 5 آلاف مصاب و154 قتيلاً، حتى الآن. ولا يزال هناك كثيرون في عداد المفقودين تحت الأنقاض.

أرجح التخمينات حتى الآن هو أن الانفجار وقع بسبب 2750 طناً من نترات الأمونيوم كانت مخزنة في المستودع رقم 12 في مرفأ بيروت. ربما بجوار مستودع آخر يحتوي مفرقعات وألعاب نارية. لا نعرف حقاً كيف اشتعلت نترات الأمونيوم هذه، وكيف صُودرت من إحدى السفن لتُخزَّن في ظروف غير آمنة لا تراعي شروط السلامة العامة، في قلب المدينة، لمدة ست سنوات. ولا نعرف؛ لأن المسؤولين يرفضون على نحو حثيث إجراء تحقيق دولي.

ولنكن واضحين بشأن من هم هؤلاء، أولئك المسؤولين: هم كل من تبقى من أمراء الحرب الذين اجتاحهم الشيب، وأبناؤهم وأبناء أخواتهم وأصهارهم الذين يشغلون أعلى مقاعد السلطة في البلاد. إنهم كل مُوالٍ اختاروه وصنعوه على أعينهم، ثم ناوروا به في كل منصب مؤثر وكل قطاع يمكن تصوره، عاماً كان أو خاصاً. إنهم كل وزير وبيروقراطي لا يعبأ سوى بمصلحته الشخصية، أو أجبن بكثير من أن يتحدث. هذه المافيا هي ما يشار إليها على نطاق واسع في لبنان باسم "الطبقة السياسية"؛  أو ما يعرف بـ"النخبة الحاكمة".

إذا بدوت مضطربةً من فرط الغضب، فهذا لأنني كذلك. إنه اضطراب مساوٍ لفاجعتي على الدمار الذي لحق بمدينتي الأثيرة التي ولدت وترعرعت فيها، على القتلى والمفقودين والمصابين، على الأنقاض التي تنتشر الآن في شوارعها، على الزجاج والحجر، لكن أيضاً على الملابس والكتب والصور واللوحات، كل تذكارات الحياة. وسخطي على كل هؤلاء الأشخاص الذي فعلوا هذا بنا.

لأن هذا لم يكن "حادثاً مؤسفاً"، بل كان إهمالاً مميتاً. ولقد عرفنا منذ زمن طويل أن سلامتنا ورفاهيتنا وحياتنا لا تعني شيئاً لهؤلاء الرجال.

إنهم نفس الأشخاص الذين حاولنا إسقاطهم عندما خرجنا إلى الشوارع في أكتوبر/تشرين الأول 2019، في موجة الاحتجاجات الجماهيرية المناهضة للحكومة التي انفجرت لتعمَّ جميع أنحاء البلاد. وأعلنّاها وقتها في إصرار "كلّن يعني كلّن"، حتى عندما تعرضنا للضرب والاعتداء من الموالين لمختلف الأحزاب بسبب هتافاتنا.

انطلقت الاحتجاجات وقتها مدفوعةً بضريبة مقترحة على مكالمات تطبيق "واتساب"، في حين أن الواقع أنها نتيجة سنوات من خيبة الأمل المتراكمة، بسبب سوء إدارة القطاع العام والفساد المستشري وغيرها من الممارسات التي أغرقت البلاد في ديون قدرها 86 مليار دولار. وها نحن بعد مرور 30 عاماً على انتهاء الحرب الأهلية، ما زلنا نفتقر إلى كهرباء متوفرة على مدار اليوم، وإلى مياه صالحة للاستخدام وإلى صرف صحي مناسب وإلى خدمات جمعٍ للقمامة بطريقة موثوقة وآمنة. ومع ذلك، فإن ما  كان لدينا هو عدد لا نهائي من مواقع البناء، ومشروعات إنشاء عقارات فاخرة لا يمكن لأحد تملكها أو الوصول إليها باستثناء فاحشي الثراء.

كنا غاضبين أيضاً حينها، لكنه كان غضباً مدفوعاً بسرور عارم. لقد رقصنا وهتفنا وأذْهلنا اجتماعُنا إلى جانب بعضنا رغم الاختلافات الطائفية والطبقية. تمكنا من الإطاحة بالحكومة وابتهجنا بانتصارنا. لكن بهجتنا لم تدم طويلاً: فالحكومة الجديدة التي عُيّنت لتحل محلها غيّرت الأسماء فحسب، ولم تغير الأحزاب ولا السياسات.

ومنذ ذلك الحين، انهار اقتصادنا بالكامل. وفقدت عملتنا أكثر من 80% من قيمتها، وفي الوقت الذي قيّدت فيه البنوك عمليات السحب للناس العادية، هرّب مصرفيون 6 مليارات دولارات. أصبحت الرواتب ومدخرات الحياة بلا قيمة بين عشية وضحاها. كما لم تصدّق الحكومة على تدابير الشفافية اللازمة للحصول على قرض صندوق النقد الدولي.

وخلال الإغلاق المرتبط بجائحة كورونا، لم توزع الحكومة أي مساعدات على السكان المعوزين الذين تفاقمت حاجتهم. وأغلقت البنوك أبوابها في وجوهنا لأسابيع متتالية. وسرّحت الشركات عمالها جماعياً، وانتشرت حالات الانتحار. ولجأ الناس إلى مقايضة ممتلكاتهم البسيطة مقابل زجاجة حليب أو حفاضات للأطفال.

ثم حلَّ الانفجار.

الانفجار الذي نجم عن قدر فظيع من الإهمال، وافتقار لا يُتصور إلى الكفاءة، بدرجة يستعصي فهمها إذا لم نكن ندرك بالفعل حجم اللامبالاة الفجّة والازدراء الذي يحمله هؤلاء الرجال لحيواتنا. كل شخصية في تلك السلطة، من الرئيس نزولاً، أنكر مسؤوليته وتذرّع بعدم علمه وألقى باللوم على غيره، وفي الوقت ذاته لم تبذل الدولة أي جهد في رفع الجثث أو إعادة الجثامين لذويها، فكل ذلك قام به مواطنون عاديون.

الناس يحشدون الآن لاحتجاجات جماهيرية. الغضب الذي رأيته ليس مثل أي شيء شهدته من قبل. أعرف ذلك لأنه يحتدم في صدري أيضاً. وعلى خلاف المرة الأولى التي نزلنا فيها إلى الشوارع، لم يعد ثمة حديث عن إصلاح على مستوى القاعدة أو عن آليات دستورية يمكن استخدامها لإزاحة النخبة الحاكمة عن السلطة. الوسم الأكثر انتشاراً في الدعوات لتلك الاحتجاجات هو "علِّقوا_المشانق".

لقد ارتكبت الدولة بالفعل الخطأ الفادح المتمثل في إهمال وجود مواد قابلة للاشتعال، وتركها في مكان حيوي في ظروف لا تراعي شروط السلامة العامة. وثمة انفجار محتمل ينتظر شرارة. لكن هذه المرة، عندما ينفجر في وجوههم، لا يمكنهم حينها التذرع بعدم معرفتهم.

– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Guardian البريطانية. 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

لينا منذر
كاتبة ومترجمة لبنانية
كاتبة ومترجمة لبنانية
تحميل المزيد