في نحو الساعة 6 مساء يوم الثلاثاء 4 أغسطس/آب، بدأ حريق صغير في مستودع بالقرب من صوامع الحبوب في مرفأ بيروت في إطلاق شرارات حمراء. وأدت هذه الشرارات إلى انفجار هائل، وسحابة على شكل عيش الغراب من المياه والحطام، وعمود من الدخان البرتقالي والأحمر والأسود يتصاعد من المستودع.
ودمرت الهزة الأرضية الناجمة عن الانفجار المستودعات والمجمعات السكنية القريبة، وتطايرت الأبواب وتحطمت النوافذ على بعد عدة أميال. وحتى وقت كتابة هذا التقرير، سجلت الحكومة مقتل 154 شخصاً وجرح أكثر من 5000 وتشريد 300 ألف شخص. وما يزال عشرات الأشخاص في عداد المفقودين.
وفي حين تركز الاهتمام والغضب على انعدام كفاءة وإخفاق الحكومة والسلطات اللبنانية، تمتد جذور هذه الكارثة إلى ما هو أعمق وأبعد من ذلك، وتحديداً إلى شبكة من رأس المال البحري والخداع القانوني الذي يهدف لحماية الأعمال التجارية بأي ثمن.
وبغض النظر عن سبب اندلاع هذا الحريق الأولي، كان الانفجار الذي ترتب عليه وأدى إلى تدمير الميناء وجزء كبير من المدينة ناتجاً عن 2750 طناً من نترات الأمونيوم المخزنة في مستودع بالميناء. ونترات الأمونيوم عبارة عن مادة كيميائية تستخدم في الزراعة والبناء، وتسببت في تفجير بيشوبس غيت عام 1993 في لندن وتفجير أوكلاهوما سيتي عام 1995. كما كانت أيضاً سبب الانفجارات الضخمة في جالفستون، بولاية تكساس عام 1947 وميناء تيانجين في الصين عام 2015، وكلاهما تسبب في مقتل العشرات من الناس. فكيف انتهى المطاف بمثل هذه المواد الخطيرة في مستودع قريب جداً من المناطق السكنية في بيروت؟
في سبتمبر/أيلول عام 2013، أبحرت سفينة الشحن MV Rhosus- المملوكة لشخص روسي، ومسجلة في شركة في بلغاريا وترفع علم مولدوفا- من باتومي في جورجيا في طريقها إلى موزمبيق. وكانت تحمل شحنة من نترات الأمونيوم اشترتها شركة Fábrica de Explosivos de Moçambique، وهي شركة تصنع المتفجرات التجارية. وكان يتولى تشغيل السفينة طاقم مكون من ثمانية أوكرانيين واثنين من الروس عملوا على متنها دون أن يعلموا أن الطاقم السابق ترك السفينة احتجاجاً على عدم دفع أجورهم.
وعندما أوقف صاحب السفينة Rhosus سفينته في بيروت لنقل المزيد من البضائع، صادر مسؤولون لبنانيون السفينة لخرقها معايير المنظمة البحرية الدولية وعدم دفعها الرسوم التي من بينها رسوم الميناء. ويُشار إلى أنه يمكن "حجز" السفن إذا لم تكن تملك الأوراق اللازمة، أو إذا اعتبرت غير آمنة أو خطرة بيئياً، أو ضماناً على دين مستحق، إلى جانب أسباب أخرى.
وكان مالك السفينة إيغور غريتشوشكين قد سجل سفينته في مولدوفا، حيث يكون تسجيل السفن أكثر تساهلاً من غيره في تطبيق لوائح العمل والصحة والسلامة والبيئة. وتعتبر هذه التسجيلات المفتوحة "أعلام مواءمة" أو منفعة "Flags of Convenience"، حيث ترفع السفينة علم بلد مختلف عن علم مالكها.
ويُشار إلى أن محامين أمريكيين ابتكروا أعلام المواءمة لأول مرة في الدول من عملائها مثل بنما وليبيريا وهندوراس. وحتى اليوم، يجري تحويل الكثير من أرباح بعض أكبر التسجيلات المفتوحة إلى شركات خاصة في الولايات المتحدة. و"المواءمة" أو المنفعة في "أعلام المواءمة"، وفقاً لكاتب المقالات الأمريكي جون ماكفي، هي "أنه يمكن تجنب الضرائب، ويمكن تجاهل التأمين إلى حد كبير، ويمكن دفع الأجور المغرية لأصحاب السفن إلى البحارة التجار الذين يقع عليهم الاختيار من أي جزء من العالم".
عندما أدرك غريتشوشكين ما يمكن أن تكلفه مصادرة السفينة Rhosus، بدأ إجراءات الإفلاس وتخلى فعلياً عن السفينة وطاقمها. كما تخلى متلقو الشحنة في موزمبيق عن شحنة نترات الأمونيوم.
ويُشار إلى أن أصحاب السفن يتخلون عن سفنهم من حين لآخر بدرجة تنذر بالخطر لتجنب دفع أجور الطاقم المستحقة عليهم، لدرجة أن منظمة العمل الدولية تحتفظ بقاعدة بيانات لهؤلاء البحارة. وفي بعض الأحيان، تُباع شحنة السفينة المهجورة بالمزاد العلني لتسديد أجور الدائنين، أو أجور الطاقم غير المدفوعة، أو تكاليف التنظيف والتخلص من النفايات.
في لبنان، لم تتم إعادة بيع الشحنة، ورفضت السلطات السماح لأربعة من البحارة بالخروج من السفينة دون طاقم بديل. وظل القبطان وبقية أعضاء الطاقم على متن السفينة التي ما تزال تحمل شحنتها المتفجرة، لمدة عام تقريباً، دون أجور، ولا وصول إلى الاتصالات الإلكترونية، وتناقص في إمدادات الطعام والوقود.
وعلى ذلك، كان طاقم السفينة Rhosus رهائن في المفاوضات بين سلطات الموانئ اللبنانية -التي لم ترغب في تحمل مسؤولية حمولة السفينة الخطرة- وصاحب السفينة. وفي أغسطس/آب عام 2014، أمر قاضٍ لبناني بالإفراج عن البحارة، وتم بعد ذلك نقل حمولة نترات الأمونيوم البالغة 2750 طناً من السفينة إلى مستودع في ميناء بيروت.
ورغم أن معظم اللبنانيين محقون في غضبهم من انعدام كفاءة السلطات اللبنانية، لكن التعاملات الخطرة لأصحاب السفن الدولية تتحمل المسؤولية أيضاً.
فلم توقع كل دول العالم على المعاهدات البحرية الدولية التي تنظم ظروف العمل والبضائع الخطرة. وحتى لو كانت موقِّعة، لا تملك العديد من الدول الموارد اللازمة لرفع دعاوى ضد شركات الشحن عديمة الضمير. وعلاوةً على ذلك، نادراً ما يُبّت في النزاعات الدولية بين الحكومات والمستثمرين الأجانب لصالح الحكومات.
إذ تسمح أعلام المواءمة، وهي في الأساس أداة تهدف إلى حماية الشركات، والسماح للسفن غير الآمنة بالإبحار مع أطقمها المعرضة لنهب أصحاب العمل عديمي الضمير. وحتى أغنى شركات الشحن في العالم، التي توجد مقارها في أوروبا وشرق آسيا، ترفع أعلاماً لسفنها بالتسجيل المفتوح لتوفير الأجور والضرائب والتأمين.
والتخلص من هذه الأحكام المتعلقة بالنقل إلى الخارج، ونبذ أعلام المواءمة، وإصلاح آليات التحكيم التي غالباً ما تضر بالبحارة والدول الضعيفة ليست سوى الخطوات الأولى نحو معالجة المخالفات التي أدت إلى مأساة يوم الثلاثاء. وبعد أن تستقر الأمور وينقشع الغبار في بيروت، يوجد الكثير من العمل الذي يتعين القيام به.
– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Guardian البريطانية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.