تكشفت تفاصيل جديدة لحجم الكارثة التي لحِقت بالعاصمة اللبنانية بيروت بسبب الانفجار الهائل في مرفأ المدينة، إذ باتت الستائر تُشاهَد خارج المباني في هواء بيروت الطلق، وقد تحررت من الزجاج الذي كان يحرسها قبل أن يتناثر شظايا في شوارع مدينة، أصبح كثير من منازلها بلا شرفات، وتتدلى منها عناقيد الخراب بعد أسوأ انفجار تشهده في تاريخها.
"مدينة الألغام": ويشعر سكان العاصمة المصنفة منكوبةً، بأن مدينتهم نامت بين الألغام لتستيقظ على كابوس ترك ندوباً وشقوقاً في عمرانها.
فعلى خلاف تدمير مرفأ بيروت بشكل شبه كامل، تسبب الانفجار الذي وقع يوم الثلاثاء 2 أغسطس/آب 2020، في انهيار أحياء قريبة بأكملها وتضرر المناطق الأخرى، حيث شعر كل مواطن في العاصمة اللبنانية بأن التفجير وقع في منزله.
أودى الانفجار المروع بحياة 158 شخصاً وأصاب أكثر من ستة آلاف آخرين، وما زال 21 شخصاً في عداد المفقودين، ووعدت الحكومة بمحاسبة المسؤولين عن الحادثة التي أرجع مسؤولون سببها إلى انفجار 2750 طناً من مادة نترات الأمونيوم شديدة الانفجار، كانت مُخزنة لستِّ سنوات في مستودع بالمرفأ دون إجراءات للسلامة.
الدمار في كل مكان: وكالة رويترز ذكرت أن المتجول بين أحياء بيروت من الجميزة إلى الباشورة ومنطقة المرفأ وزقاق البلاط وبرج أبو حيدر والأشرفية والبسطة وبشارة الخوري، سيجدها قد تداعت.
بدت النوافذ أيضاً عارية من زجاجها والأسقف من قرميدها، وتدلت من بعضها أسياخ معدنية ملتوية، وتطايرت أسطح بعض الشقق السكنية فأصبحت مكشوفة للسماء.
في أحد الأبنية بشارع عكاوي في الأشرفية على مقربة من وزارة الخارجية، ما زالت الدماء تغطي الدرج، فيما غرفة المصعد فارغةٌ كأنَّ المصعد وأبوابه في الطوابق قد طاروا من أماكنهم.
لكن كلما تم الاقتراب من منطقة المرفأ اشتد هول المشهد، حيث بدت الأبنية كالهياكل العظمية، فيما الزجاج المهشم والأثاث وبقايا الدمار مكومة على جوانب الطرقات، وسط انتشار رجال الشرطة في المكان؛ لمنع الناس من الاقتراب أو المرور بجانب الأبنية الآيلة للسقوط.
إضافة إلى ذلك، فإنه منذ الكارثة لا تزال الأشجار التي اقتلعها الانفجار والسيارات التي يغطيها الركام حبيسة الطرقات، كما تعجز آليات إزالة الركام عن دخول بعض الطرقات في الجميزة وشارع مار مخايل والعكاوي التي يسدها بالكامل ركام الأبنية.
وبينما تتضح يوماً تلو الآخر، معالم الكارثة التي اخترقت المنازل البيروتية، يجوب شوارع العاصمة المكلومة متطوعون يحملون الجواريف؛ للمساعدة في إزالة الحطام، بينما يشارك آخرون في حملات لإزالة حطام الزجاج ورفع الأسقف المنهارة وهياكل الألومنيوم والحديد الملتوية والحجارة المهدمة من الشوارع.
إلى جانب هذه المشاهد، تتناثر في الطرقات كتب وأدوية وملابس وأثاث وأسقف قرميدية أثرية منهارة، وفيما يحاول المواطنون إنقاذ ما يمكن إنقاذه من محلاتهم ومنازلهم، نُصبت الخيام على الأرصفة؛ في محاولة لإيجاد مأوى للناس الذين فقدوا منازلهم بالكامل.
"إنها نهاية العالم": ويروي لبنانيون ممن عاشوا الصدمة، وهم يستعيدون هول ما حدث، شهادات تقطر مرارة، حيث يقف جوزيف الجبيلي (60 عاماً)، الذي يعمل في شركة لبيع الأدوات المنزلية، مذهولاً مما شاهده لحظة الانفجار.
يشير الجبيلي إلى منزله قائلاً: "بيتي بالطابق السادس على السطح.. عندما سمعنا الصوت الأول خرجتُ مع زوجتي إلى الشرفة المطلَّة على البحر، طلع الانفجار الثاني، عصفُ الانفجار دفع بي إلى الداخل مع الزجاج والأبواب والألومنيوم وغِبت عن الوعي".
أضاف: "عندما صحوت رحت أصرخ لزوجتي ولم أجدها، لأكتشف لاحقاً أنها سقطت من الشرفة في الطابق السادس، لتقع عند شرفة الجيران في الطابق الرابع.. إصابتها بالغة ولكن حالتها مستقرة وما زالت على قيد الحياة، وهذه معجزة فعلاً".
من جانبه، قال الشاب السوري مؤمن دركزنلي لـ"رويترز"، وهو يلملم ما تبقى من أشيائه في الشارع: "أتيت من سوريا قبل أربع سنوات هرباً من الحروب هناك واشتغلت في فرن قريب من هنا. آخر ما أذكره يوم الثلاثاء، أني شاهدت كتلة نار بحجم نحو عشرة طوابق دفعتني على مسافة أمتار.. غِبت عن الوعي وعندما صحوت وجدت أن الجدران فُتحت على بعضها بيني وبين الجيران كأننا في منزل واحد!".
وتستعيد إليسا سعادة، التي تعمل في صيدلية بشارع مار مخايل، اللحظة بكل تفاصيلها، قائلةً: "في البداية سمعنا صوتاً عميقاً ثم زمجرة كأنه تسونامي لثوانٍ قليلة؛ ومن ثم اهتز المبنى مع صوت قوي كأنَّ الكون كله اهتزَّ فوق رؤوسنا، وكنا متأكدين أنه زلزال سيهدُّ الكون بأكمله. إنها نهاية العالم فعلاً. خلص خلصنا".
"لا شباك ولا باب ولا سقف": لبنانية أخرى تروي المأساة التي عاشتها، حيث تملك لورا محلاً لبيع الملابس التراثية في الجميزة، وتحكي بأسىً ولوعة قائلةً: "أنا فقدت بيتي ومحلي وانجرحت، لكني أبكي على قِطتي التي قضت بين الزجاج والحديد".
أضافت لـ"رويترز": "المؤسف أن الناس ماتت ببيوتها.. يعني المكان اللي المفروض نشعر فيه بالأمان متنا فيه! ما عندنا درج نصعد عليه إلى بيتنا؛ لنرى ماذا حلَّ به، ولم يبقَ عندنا لا شباك ولا باب ولا سقف ولا شرفة".
وتشهد الجميزة، المعروفة بحاناتها وأماكن السهر يومياً، توافد شخصيات من المتطوعين والفنانين والإعلاميين بعد أن زارها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وتفقَّد سكانها وأوضاعهم عن كثب.
في شارع الجميزة نفسه جالت الفنانة اللبنانية ماجدة الرومي، بهدف مساعدة السكان على تنظيف وكنس شوارعهم. وخلال تجوالها كانت جموع المواطنين تتحلَّق حولها، لتردِّد على مسامعها مقطع "قومي من تحت الردم" من أغنية "ست الدنيا يا بيروت".
توجهت الرومي إلى السكان قائلةً: "جيبوا مكانسكم وتعالوا ننظف بيوتنا. هذا وطننا… كل الطوائف تساوت اليوم في الموت والألم والمصائب. نحن تعرضنا لغدر. نحن محاطون بخونة".
"البحر أمامنا والدمار وراءنا": على مقربة من الجميزة يعمل نسيب الدنا في دكان تجاري صغير بحي مار مخايل، ويتمتم وهو يحاول تنظيف ما تبقى من المحل: "هذا هو الجحيم بعينه!".
قال لـ"رويترز": "لا يكفي أننا نعيش أزمة اقتصادية واجتماعية وحالتنا بالويل.. أتت هذه المصيبة لتكفي (لتقضي) علينا. هذا لا يمكن أن يسمى إهمالاً. هذه جريمة موصوفة. نحن متنا، متنا خلاص، الله يرحمنا".
أضاف الدنا: "نحن عشنا كل فترات الحرب الأهلية وغيرها من الحروب بين الأحزاب والحروب الإسرائيلية، ولا مرَّة وصلنا إلى هذا الدرك من المأساة. كنا في كل مرة نلجأ من منطقة إلى منطقة ومن حي إلى حي في بيروت. ولكن هذه المرة خلاص، وصلنا إلى طريق مسدود. البحر أمامنا والدمار وراءنا!".
وبمرارة شديدة يُكمل: "الطبقة الحاكمة والمسؤولون سفكوا دمنا على مدى سنوات. تقاتلوا وتصالحوا؛ ومن ثم تخاصموا ومنحوا أنفسهم عفواً عاماً عن كل الجرائم. ولكن هذه الجريمة لن تمر".