بعد حركة الضباط في يوليو/تموز 1952، ورغم أن العلاقات كانت تبدو ودية جداً بين الإخوان المسلمين وبين حركة الجيش، إلا أن الجماعة كانت تنطوي على خلاف صامت لم يلبث أن أعلن لاحقاً بين تيار الهضيبي الذي كان يفضل علاقة متحفظة مع حركة الضباط، وتيار الحرس القديم بقيادة صالح عشماوي، رجل الجماعة القوي، ودعم التنظيم الخاص بقيادة عبدالرحمن السندي، وهو التيار الذي أراد إقامة تحالف وثيق مع حركة يوليو. كانت الجماعة آنذاك تمر بمرحلة إعادة تنظيم بعد معركتها مع السعديين في أواخر الأربعينيات التي انتهت باغتيال الأستاذ حسن البنا. في هذا الوقت كانت القيادة الحقيقية للجماعة تقع في يد صالح عشماوي وأحمد حسن الباقوري، لكن اتفاق باقي أعضاء مكتب الإرشاد على استقدام الهضيبي للقيادة أدى إلى معركة على قيادة الجماعة، حيث كان الهضيبي أكثر من واجهة بخلاف ما أراده الحرس القديم.
أول خلاف بين الجماعة والضباط ظهر مع امتعاض حسن الهضيبي من قانون الإصلاح الزراعي سبتمبر/أيلول 1952، حيث فضل الهضيبي كغيره من المحافظين أن تكون حدود الملكية 500 فدان وليس 200 فدان كما نص القانون. مع ذلك، لم يظهر التناقض الحقيقي بين الضباط والجماعة إلا مع محاولة تشكيل الحكومة الجديدة بعد استقالة علي ماهر احتجاجاً على القانون. عرض عبدالناصر على الإخوان المسلمين ثلاثة مقاعد وزارية على أن تكون إحداها وزارة الأوقاف للباقوري، لكن الإخوان رفضوا. وهنا اختار الباقوري الالتحاق بحركة الضباط، ففصله الهضيبي من الجماعة.
كان التناقض الأول إذن هو حول العلاقة بين الإخوان والضباط؛ أراد الضباط بالتأكيد أن تتذيل الجماعة حركة الضباط، بينما أراد الإخوان علاقة ندية. ومع ذلك بقي الضباط حريصين على عدم الصدام مع الإخوان واستثنوهم من قرار حل الأحزاب في يناير/كانون الثاني 1953.
تجذّر التناقض عندما التقى الهضيبي دبلوماسياً بريطانياً في منتصف 1953 للنقاش حول مسألة الجلاء. وعلى الرغم من أن الهضيبي أبلغ الضباط باللقاء قبله، وأرسل تقريراً عنه إلى الضباط بعده، إلا أن اللقاء ظهر وكأنه يعبر عن ازدواج أو توزع السلطة في مصر، واستقبله الضباط كما استقبل الملك حسين لاحقاً إشارة دبلوماسي غربي له قبل أيلول الأسود مباشرة، حيث قال له: "لا ندري لمن نعطي المعونة المخصصة للأردن، أنت أم ياسر عرفات؟"، ففي هذه اللحظة أدرك حسين أن البلد لا يمكن أن يسير برأسين وأن المعادلة بينه وبين عرفات أضحت صفرية.
كان هذا هو التناقض الثاني الذي يعد تجذيراً للتناقض الأول، كيف يمكن تنظيم السلطة بين الضباط والإخوان خارج الديمقراطية التي لم يكن كلا الطرفين حريصاً عليها؟
معادلة صفرية
بلغ التناقض ذروته مع نجاح الهضيبي في تصفية تمرد الحرس القديم وقيادة التنظيم الخاص في نوفمبر/تشرين الثاني 1953 وطردهم من الجماعة، حيث أقال مكتب الإرشاد أربعة من قيادات التنظيم الخاص وعلى رأسهم عبدالرحمن السندي، ثم تبع ذلك إقالة صالح العشماوي وعبدالعزيز جلال ومحمد الغزالي، من احتلوا المركز العام وطالبوا الهضيبي بالاستقالة. هنا أدرك الضباط ضياع أي فرصة لتطويع الجماعة.
في يناير/كانون الثاني 1954، أصدر الضباط قرارهم بحل الجماعة وبدا واضحاً أن إمكانية التوفيق بين الطرفين خارج الديمقراطية قد استحالت. وسرعان ما أتت أزمة مارس/آذار عندما استقال اللواء محمد نجيب احتجاجاً على تفرد الضباط بقيادة جمال عبدالناصر بالسلطة. عاد نجيب إلى موقعه مدعوماً بانتفاضة شعبية حيث كان نجيب في تلك اللحظة هو بطل الشعب لا جمال عبدالناصر، لكن الضباط تخلوا خلال أيام فحسب عن وعدهم بالعودة للحياة البرلمانية تحت زعم الرضوخ للمطلب الشعبي باستكمال الثورة (التفويض).
في إطار أزمة مارس، قاد عبدالقادر عودة، وكيل الجماعة آنذاك، تظاهرة الإخوان مع مجموعة من الطلبة إلى قصر عابدين حيث استقبله اللواء نجيب، وهدّأ من روعه وطلب منه تهدئة الشباب الغاضب، فخاطبهم عودة من شرفة القصر طالباً منهم المغادرة.
توصل الهضيبي إلى تفاهم مع عبدالناصر، انسحب الإخوان على إثره من الحركة الاحتجاجية في الجامعة ضد حركة الضباط مقابل وعد بإلغاء قرار الحل والإفراج عمن اعتقل من الجماعة بعد هذا القرار. استحق الإخوان وفق تلك الصفقة لعنات شركاء المواجهة مع الضباط: الوفد والشيوعيين.
لم يلتزم عبدالناصر بوعوده للهضيبي، وسرعان ما عادت المعركة لتشتعل منتصف 1954 بعد الأنباء عن اتفاقية الجلاء التي لاقت احتجاجاً واسعاً من الحركة الوطنية المصرية نظراً لإبقائها على حق إنجلترا في تشغيل قاعدتها العسكرية في السويس حال الاعتداء على أي دولة عربية أو على تركيا؛ الأمر الذي يجعل مصر تصطف اضطراريًا مع المعسكر الغربي ضد الاتحاد السوفييتي، كما أنه يسمح لإنجلترا بالعودة العسكرية إلى مصر ما يشكل جرحاً للاستقلال التام الذي حلم به المصريون وفشلت بسبب غيابه مفاوضات سابقة.
في تلك اللحظة، بدا واضحاً أن الخرق قد اتسع على الراتق، فاختفى الهضيبي في الإسكندرية منذ أغسطس/آب حذراً من الاعتقال أو الاغتيال، وقرر الضباط أن يعاملوا الإخوان كما يعاملون غيرهم: الخضوع التام أو الضرب بيد من حديد، لكن الضباط فضلوا عدم المبادرة بخوض المعركة في ظل الأجواء المتوترة التي خلقها الخلاف حول اتفاقية الجلاء، وتحضير الضباط للإطاحة النهائية باللواء محمد نجيب، وترتيب الحكم في ظل العزم النهائي على عدم إعادة الحياة البرلمانية.
فوضى بلا حدود
شهد صيف 1954 الملتهب محاولة من سيد قطب، رئيس قسم نشر الدعوة في الجماعة ومدير صحيفتها الرسمية، الاتصال بالحزب الشيوعي المصري لتنسيق انتفاضة شعبية تطيح بحركة الضباط. كان الحزب قد أصدر منشوراً دعا فيه الإخوان إلى العودة إلى الجبهة الوطنية والكفاح المشترك في سبيل إسقاط الدكتاتورية الفاشستية المدعومة أمريكيا. رفضت قيادة الجماعة التحالف مع الشيوعيين نظراً للخلاف الأيديولوجي معهم، لكن الجماعة والحزب توصلا إلى اتفاق بأن يقوم كل منهما بتوزيع منشورات الآخر.
الحركة الشيوعية آنذاك كانت كذلك قد انقسمت بين تيارين رئيسيين، الأول تزعمته أغلبية الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو)، وعلى رأسها كمال عبدالحليم (الرفيق خليل)، وهي أحد أكبر التنظيمات الشيوعية المصرية آنذاك، واختارت دعم حركة الضباط على طول الخط مهما كانت التناقضات معهم، حتى أن قيادة حدتو أصدرت بياناً شهيراً لتأييد الضباط من داخل السجن الحربي. التيار الثاني كان على رأسه الحزب الشيوعي المصري الذي عرف آنذاك لتمييزه بين سائر التنظيمات الشيوعية باسم حزب الراية نسبة لصحيفته "راية الشعب"، وهو التيار الذي عارض الضباط جذرياً، وتحالف مع الوفديين في الجامعة ضدهم.
في هذه الأثناء، كانت الفوضى تعصف بالجماعة في ظل اختفاء مرشدها في الإسكندرية من ناحية، وعودة التنظيم الخاص العسكري للجماعة إلى نشاطه بقوة، مدعوماً من عبدالمنعم عبدالرؤوف، أحد الضباط الذين جمعوا بين الانتماء للضباط الأحرار والإخوان المسلمين قبل أن يطرده الضباط بسبب ذلك. في تلك اللحظة، كان الإخوان يستشعرون خطأهم في تأييد خطوة الهضيبي لحل التنظيم الخاص التي عارضها القيادات من الحرس القديم. في الواقع لم تكن القيادة بجناحيها ترغب في استخدام التنظيم الخاص ضد النظام بقدر ما كانا مشغولين بأثره على وزن كل من الجناحين في قيادة الجماعة. وكان الهضيبي حاسماً في رفض العنف، بينما كان عشماوي وغيره من المنشقين يؤثِرون علاقة ودية مع الضباط.
في 26 أكتوبر/تشرين الأول 1954، حاول محمود عبداللطيف اغتيال جمال عبدالناصر عبر إطلاق الرصاص عليه أثناء خطبة عبدالناصر في ميدان المنشية بالإسكندرية. كان قتل عبدالناصر كفيلاً بنسف حركة الجيش في تلك اللحظة التي لم يكن فيها الضباط يتمتعون بتأييد شعبي محسوم، وكان اللواء نجيب ما زال موجوداً اسمياً على قمة مؤسسات الحكم العسكري. وكأي مغامرة سياسية في التاريخ، كان يمكن أن تكون أعظم عمل سياسي يدل على حنكة القائمين عليه إن نجح، وأغبى قرار في التاريخ عندما تفشل.
برر محمود عبداللطيف قراره باغتيال عبد الناصر بخيانة عبدالناصر للقضية الوطنية في مفاوضات الجلاء، وقد اتهم عبداللطيف بأنه عضو في التنظيم الخاص رغم إنكار الإخوان. لكن ما حدث هو بالفعل القبض على قائد الخلية التي كان عبداللطيف تابعاً لها وهو هنداوي دوير، وبالتالي على رئيس فرع القاهرة في التنظيم إبراهيم الطيب، وهم الذين بادروا بالمغامرة دون علم قائد التنظيم يوسف طلعت، ومستشار التنظيم الشيخ محمد فرغلي، الذي كان عضواً بمكتب الإرشاد، ووكيل الجماعة ورجلها القوي في تلك اللحظة الأستاذ عبدالقادر عودة، وتم الحكم عليهم جميعاً بالإعدام رغم براءة الثلاثة الأخيرين من تلك المحاولة.
دروس ثمنها الدم
إن الدروس السياسية هنا أكثر من عدها، لكن أمراً واحداً يمكن قوله وحسمه، هو أن حسم موقف ديمقراطي هو الحل الوحيد لتناقضات مزمنة تنفجر تكراراً في إدارة العلاقة بين السلطة وبين التنظيمات السياسية والاجتماعية. لم تكن المعركة بين قديسين وشياطين كما هو واضح، ولم يكن لدى الطرفين رغبة أصيلة في الصدام، لكن غياب الحل الديمقراطي للتناقضات الموضوعية بين موقعيهما كان يحتم المعركة الدامية. والواقع أن الجماعة لم تتوفر على هذا الموقف الديمقراطي المبدئي لتدعي أنها كانت تمتلك حلاً رفضه الضباط، بل إنها تخلت عن مطالبة الحركة الاحتجاجية به في مارس/آذار 1954، جراء محاولة واقعية للتهدئة مع الضباط.
كان لدى الحزب الشيوعي المصري موقف ديمقراطي مبدئي ضد حركة الضباط، انضم إلى أسباب أخرى لمعارضته الجذرية لها، من بينها عداء الحركة للشيوعيين واتصالها الوثيق بالسفارة الأمريكية وسياساتها الاقتصادية وتساهلها في قضية الجلاء (جمع سمير أمين وثائق الحزب التي شارك بنفسه في إعدادها في كتاب صدر قبل بضع سنوات بعنوان "قضايا الشيوعية المصرية"، وتدل تلك الوثائق على رؤية شاملة كوّنها الحزب على أساس تحليلي دقيق تجاه حركة الضباط).
ولئن كان الحزب قد عانى مع غيره من التنظيمات الشيوعية التي كانت لديها مواقف شبيهة من هجوم شامل من قبل نظام يوليو منذ اللحظة الأولى، ودون استثناء التنظيمات الداعمة للنظام نفسها كحدتو، فإنه كان قادراً مع ذلك أن يضرب المثل في عداء نظام يوليو على أساس ديمقراطي.
لكن ما حدث هو أن التنظيمات الشيوعية المصرية بأسرها، وباستثناءات لا تذكر، اتجهت بعد العدوان الثلاثي وما سبقه من مواقف لنظام يوليو أظهرت عدم اصطفافه مع المعسكر الغربي واستعداده للاتصال بالبلدان الاشتراكية، إلى دعم نظام يوليو. ورغم تخلي تلك التنظيمات عن موقفها المعارض مبدئياً على أساس ديمقراطي، إلا أن ذلك لم ينقذها من ضربة قاصمة وجهها لها النظام في 1959.
كانت الديمقراطية وحدها إذن قادرة على حماية ليس فقط قوى المعارضة، وإنما السلطة أيضاً، من انحرافات سياسية وغير سياسية انتهت إلى نخر نظام يوليو نفسه من داخله، وتفريغ المجتمع المصري من التنظيمات السياسية والاجتماعية القادرة على أن تمنحه حياته.
- لمزيد من التفاصيل، يمكن الرجوع إلى كتاب "الإخوان المسلمون"، ريتشارد ميتشيل، وبعض وثائق الجماعة المنشورة على موقع موسوعة الإخوان المسلمين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.