المتابع للشأن التونسي الحالي يجده أبعد ما يكون عن الاستقرار رغم مرور نحو عشر سنوات على اندلاع الثورة التونسية أواخر عام 2010، والتي دشنت بداية عملية الانتقال الديمقراطي، وافتتحت موجة التحولات الإقليمية التي عُرفت بثورات الربيع العربي، ومرور سبع سنوات منذ الأحداث العاصفة التي كادت أن تودي بالتجربة الديمقراطية التونسية عام 2013، والتي انتهت بوساطة اللجنة الرباعية التي أدارت حواراً ماراثونياً بين الفرقاء السياسيين نجحت من خلاله في احتواء الصراع الأيديولوجي والوصول إلى التوافق الوطني. ورغم حالة النجاح هذه، فإن المشهد التونسي الآن يبدو أنه لم يبرح مكانه، نظام سياسي مضطرب، ومؤسسات حزبية هشة، وصراعات وانقسامات مستمرة تؤثر بالسلب على فاعلية الهيئات المنتخبة، وجمهور يبدو أنه سئم من عجز ولا مسؤولية النخب السياسية، إن لم يفقد إيمانه بجدوى النظام الديمقراطي ككل.
فما الذي جرى خطأ طوال هذه السنوات مما جعل تونس وهي على أبواب الذكرى العاشرة لثورتها بعيدة عن الصورة التي سعى لها التونسيون في ميادين الثورة؟! وما احتمالية أن يتم احتواء الصراع الدائر حالياً ليعود مسار التحول الديمقراطي إلى وجهته الصحيحة مرة أخرى؟!
أولاً: حالة التوافق التي أعقبت الحوار الوطني في عام 2013 وحالة الاستقرار المؤقت التي خلفتها لم تنجح في تحويل المنجز السياسي إلى منجز اقتصادي واجتماعي، فالشعوب لا تنحاز للديمقراطية على أسس قيمية فقط، بل ربما الأهم أنها تنحاز إليها كوسيلة للحكم الرشيد وللتنمية وللتوزيع العادل للثروة، وحين تعجز الآليات الديمقراطية عن تحقيق هذه الأهداف، وتتحول إلى تفاهمات ضيقة أقرب للمحاصصة وتوزيع المكاسب بين الأحزاب المتنافسة، وتفشل في الاستجابة لأولويات المواطنين واحتياجاتهم، حينها يتطلع المواطنون إلى أي نظام فعال ولو كان سلطوياً، ولا يرون في النظام الديمقراطي إلا الاستقطابات وغياب الفاعلية.
ثانياً: لم تنجح الأحزاب السياسية التونسية كذلك في استغلال فترة الهدوء النسبي ما بين 2014 إلى 2019 في ترتيب البيت الداخلي وتعزيز مؤسسيتها وشعبيتها الجماهيرية، وتصعيد صف جديد من القيادات عوضاً عن الصف الأول الذين "استهلكهم الانتقال الديمقراطي"، وهو ما ارتد بالسلب على استقرار هذه الأحزاب بل وعلى البنية الحزبية التونسية بالكامل، والتي أصبحت مصابة بالانقسام والتشظي، وبالتآكل المتسارع في شعبيتها، كما ظهر في نتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة، ولا أدل على ذلك من أنه – باستثناء حركة النهضة – فإن الأحزاب التي كانت تفوز في دورة انتخابية ما لا تلبث أن تتفكك وتخرج من المعادلة الحزبية تماماً في الدورة التي تليها، كما حدث مع حزب الدكتور المنصف المرزوقي "الاتحاد من أجل الجمهورية" الذي حل ثانياً في المجلس التأسيسي بانتخابات 2011 أو حزب الرئيس السابق الباجي قايد السبسي الذي حل أولاً في انتخابات 2014. حتى حركة النهضة التي أظهرت تماسكاً نسبياً حتى اللحظة باتت تعاني مؤخراً من موجة استقالات وانسحابات للعديد من قيادييها.
ثالثاً: كثير من النخب السياسية اعتبرت أن توافقات 2013 بمثابة هدنة لالتقاط الأنفاس وإعادة التموضع، ولم تعتبرها فرصة لبناء الثقة واتخاذ الخطوات قدماً على مسار تعزيز العقد الاجتماعي. كما أن بعض النخب التي برزت على الساحة مؤخراً لم تكن بذات الثقل ولم تتمتع بذات المسؤولية التي تمتعت بها نخب السنوات الأولى للتحول الديمقراطي بتونس، وحتى الأخيرة فقدت كثيراً من رصيدها كذلك، وبالتالي أصبحت الطبقة السياسية أكثر هشاشة وتفتيتاً بمرور الوقت وأصبحت القدرة على خلق توافقات جديدة أكثر صعوبة وتعقيداً.
أخيراً، لم تستطع الديمقراطية الهشة في تونس طوال السنوات الماضية أن تجد سنداً إقليمياً أو دولياً لها، فالدول في مراحل الانتقال الديمقراطي تكون في حاجة لبيئة دولية داعمة لكي تعبر هذه المرحلة بسلام كما تخبرنا تجارب التحول في أوروبا الشرقية، لكن مع إقليم مضطرب تتنازعه محاور متصارعة، بل ونظام دولي يمر بتحولات عميقة، وتتراجع فيه قيم الديمقراطية تحت وطأة صعود نظم يمينية شعبوية، فشلت تونس في أن تجد الدعم الكافي، بل وأصبحت عرضة لاختراقات تقوم بها قوى الثورة المضادة بإسناد من بقايا النظام السابق، بما يزيد من إرباك وتعقد المشهد السياسي. ورغم سياسة الانكفاء على الذات التي تتبعها الدولة التونسية، ومحاولاتها الفكاك من سياسات المحاور، فإن ذلك لم يحقق لها الاستقرار أو لم يحمها من الاستهداف الإقليمي.
ربما لم يفُت الوقت بالكلية لتدارك بعض أوجه الخلل هذه، كما أن هناك عدة مكتسبات هامة يمكن التعويل عليها، من أهمها الخبرة المتراكمة لدى الفواعل السياسية في التفاوض والوصول إلى توافقات، ووجود رئيس ينتمي لمعسكر الثورة، ويتمتع بشعبية مستقرة. لكن سيكون من غير المتوقع أن يستمر المسار السياسي لعملية الانتقال الديمقراطي دون ترميم النظام الحزبي، والذي هو أساس أي نظام تعددي حقيقي، ودون انعكاس النظام الديمقراطي إيجابياً على الاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية، ودون القدرة على تحييد اختراقات القوى المضادة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.