بدأ حصار القسطنطينية في السادس من أبريل/نيسان 1453. وبعد مضي 53 يوماً على الحصار والقصف المستمر بالمدافع العملاقة تمكن العثمانيون في صباح يوم 29 مايو/أيار 1453 من فتح ثغرة في أسوار المدينة المنيعة ودخلوا منها. وفي المدينة اشتبكوا مع البيزنطيين وأعوانهم في قتال شوارع عنيف ذهب ضحيته الإمبراطور البيزنطي (قسطنطين الحادي عشر) بعد أن رفض الهرب وقرر الدفاع عن مدينته حتى آخر نفس. وبعد أن قضى العثمانيون على المقاومة البيزنطية في المدينة استمر القتال فيها لفترة اختُلف في مدتها. وفي منتصف هذا اليوم دخل محمد الثاني (الفاتح) المدينة، واتجه إلى كنيسة هاغيا صوفيا.
وكما نعرف من تاريخ محمد الثاني أنه تلقى تربية دينية عميقة، ورغم أنه كان في العشرين من عمره فإنه كان يعرف فقه الجهاد وأحكامه، خاصة الفرق بين ما فتح سلماً وما فتح عنوة. أن تقسيم الغنائم موكول الإمام أو الخليفة. فإن شاء خمس الغنائم بين المجاهدين وإن شاء أوقفها على المسلمين عامة. وكان ولا شك يعرف أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) لم يقسم الأراضي المفتوحة بين الفاتحين، وأنه كان يقول: "لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم النبي خيبر" (صحيح البخاري، 3/48).
وتبعاً لهذه القوانين والأحكام فإن محمد الثاني لم يكن يحتاج لشراء آيا صوفيا أو أي مباني القسطنطينية لأنه تبعاً للمعتاد آنذاك قد فتحها عنوة. ومن هنا تشككي في الزعم المنتشر بأنه اشترى الكنيسة من البطريرك الأرثوذكسي. فمن ناحية لم يكن يوجد بطريرك آنذاك؛ إذ كان مكانه شاغراً. ومن ناحية أخرى لا توجد أية وثيقة لهذا الشراء المزعوم؛ ببساطة لأنه لم يحدث.
ما أن وصل محمد الثاني إلى الكنيسة الضخمة حتى منع جنوده من نهبها وقال لهم: لكم الأسرى والغنائم، أما بنايات المدينة فهي لي (قارن فيليب مانسيل: القسطنطينية، ص 24) وبنايات المدينة لا تعني هاغيا صوفيا وحدها بل كل الكنائس والقصور. وقال: "من الآن ستكون إستنبول عاصمتي" (خليل اينالجيك: تاريخ الدولة العثمانية، ص 43). أي أنه غير اسم المدينة مباشرة وبشكل رسمي. واتخذ محمد الثاني لنفسه لقب "الفاتح"، وأمر بالبحث عن جثة الإمبراطور البيزنطي (راجع ما حدث في: نيقولا باربارو: الفتح الإسلامي للقسطنطينية، ص 178).
ولأن الفاتح سلطان مسلم ويريد أن تكون عاصمته ذات صبغة إسلامية فلم يكن له ليترك أضخم مبانيها ذا صبغة مسيحية. وفي هذا السياق أذكر أن المسلمين في مدينة فرانكفورت عندما حصلوا على تصريح ببناء مسجد كان أحد الشروط ألا يكون أضخم أو أكثر ارتفاعاً من كنيسة المنطقة. وقال الموظف "هذه دولة مسيحية. أليس كذلك؟!".
ولذا كان من المنطقي في سياق عصر محمد الفاتح أن يحرص أن تكون الصبغة الإسلامية غالبة على مدينته وأن مبانيها ومنشآتها إسلامية؛ لذا قال ما قاله للجندي ثم أعلن تحويل أضخم كنيسة لمسجد واحتفظ له باسم (آيا صوفيا). ونعرف تاريخياً أن أحد الأتراك أذَّن بعد إعلان محمد الفاتح الذي قام بأداء أول صلاة في المسجد الجديد. وفيما بعد جرى ترميم المكان وإخفاء أغلب أيقوناته الأرثوذكسية، وأضيفت له منارة خشبية ستزال فيما بعد وتشيد المآذن الأربع في أوقات متقاربة.
فتصرفات محمد الفاتح كانت منطقية في إطار عصره وإطار القوانين الإسلامية التي يخضع لها. ولذا ما أن جلس الرجل على عرش الإمبراطور البيزنطي حتى مد الخط إلى نهايته وأعلن أنه أصبح أيضاً الحاكم الشرعي لكل المناطق التي كانت تخضع للإمبراطورية البيزنطية حتى تلك التي لم يسيطر عليها بعد. وعندما علم بابا الفاتيكان (بيوس الثاني) بذلك قال: "إذا كان يريد شرعية لما يقول فيجب عليه أن يكون مسيحياً" (خليل اينالجيك: السابق). وكانت كل تحركات محمد الفاتح التالية مصدقاً لقوله لا لقول البابا.
مشكلة محمد الفاتح آنذاك أن عاصمته الجديدة كانت شبه فارغة بسبب قلة عدد سكانها ثم ما حدث فيها إبان الحصار والفتح. لذا كان على محمد الفاتح ألا يقوم فقط بأسلمة المدينة ولكن أن يقوم بتتريكها أيضاً. لذا قدم في بداية إعادة التعمير الكثير من الإغراءات الاقتصادية والدينية لسكان إمبراطوريته للمجيء والمعيشة في إسطنبول. ولكن ولأن الدعوة لم تأتِ بنتيجة مبشرة فقد لجأ للأسلوب العثماني القديم، أي النقل القسري للأتراك من أماكن أخرى إلى العاصمة. وقد ذهب بنفسه إلى بعض المدن مثل قونية وبورصة لإقناع الأغنياء فيها بالانتقال إلى العاصمة.
ولكي يغري اليونانيين المسيحيين بالبقاء في المدينة والانتقال إليها ترك لهم كنائسهم خاصة في منطقة الفنار بعد أن حرر الأسرى وأسكنهم فيها. ومن الجدير بالذكر أيضاً أن محمد الفاتح حافظ على كنيسة الرسل المقدسين، مدفن الأباطرة البيزنطيين، والتي أصبحت الآن أكبر كنيسة في إسطنبول (روبير مانتران: تاريخ الدولة العثمانية، 1/124). ثم قام بأحد أذكى أعماله السياسية بأن عين بطريركا جديداً للكنيسة الأرثوذكسية (جرجس سكولاريوس) كان من أشد المعارضين للاتحاد مع كنيسة روما. وبالتالي حافظ على الأقلية المسيحية الأرثوذكسية في المدينة والسلطنة، ووضعها تحت سيطرته، وضمن بذلك عدم تورطها أو تورط رعاياها في مساعدة أعدائه الأوروبيين. والعجيب في الأمر أنه فعل كل هذا وكان ما زال في العشرين من عمره!
وإذا كانت القسطنطينية كلها قد أصبحت من أملاك السلطان محمد الفاتح الذي غيَّرها اسماً ورسماً فمن الطبيعي أن يفعل بمبانيها ما شاء فيوقفها أو يوقف عليها. ومن هنا فوثيقة الوقف التي أظهرها الأتراك لا غبار عليها، خاصة أن الأتراك من الشعوب القليلة التي حافظت على وثائقها ويمتلكون أرشيفاً قل نظيره.
المشكلة الآن ومنذ قرن تقريباً أن إمبراطورية السلطان الفاتح زالت وزالت شرعيتها بالطبع، ويمكن للدولة التي حلت محلها أن تبطل وثائقها أو تحييها لتفعل بها ما يناسبها؛ بالضبط كما حدث مع بيزنطة على يد محمد الفاتح.
وفي الدولة التي حلت محل إمبراطورية محمد الفاتح جاء حاكم ذو توجه قومي علماني بالتأكيد كانت هناك ضغوط ملقاة على دولة تركيا الناشئة وقائدها (مصطفى كمال أتاتورك). ورغم أن توجه أتاتورك المعروف وكراهيته للبعد الإسلامي في سلطنة محمد الفاتح، فإنه لم يكن يستطيع تحويل مسجد آيا صوفيا لكنيسة مجدداً وجل ما فعله أنه جعلها متحفاً وبقرار وزاري لم يوافق عليه الشعب التركي آنذاك.
ورغم الشكوك حول توقيع أتاتورك لقرار كهذا، فإنه كان على كل حال قراراً لدولة أتاتورك. وإذا وافقنا على هذا قانونياً فيمكن لهذه الدولة أن تغيِّر رأيها وتعيد المتحف مسجداً. فالموضوع كما ترى داخلي يخضع للتوازنات الداخلية التركية، ولذا فالصراخ أو الضغوط الخارجية لن تفيد فيه كثيراً، خاصة أن تركيا المعاصرة أصبحت أكبر وأقوى من أن تخضع لهكذا ضغوط. فالتغيير في أي اتجاه لن يحدث إلا داخلياً وتبعاً للموازين الداخلية التركية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.