لم تنجح "العولمة" بعد في فرض مسارها، لاسيما على الصعيد الحقوقي والسياسي، رغم شمولها العلاقات الاقتصادية، بخاصة العمليات المالية والتبادل التجاري، وبرغم انتشار وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي في أنحاء الكرة الأرضية. وبديهي أننا نقصد في العولمة هنا طابعها الناجم عن تطور البشرية، سياسياَ واقتصادياً واجتماعياً وفي مجالات العلوم والتكنولوجيا، ولا نقصد هيمنة طرف ما، أو دولة ما، على العالم، وهو ما ينبغي تمييزه، أي التمييز بين المسار الطبيعي للعولمة، وبين وجود دولة ما تسعى إلى الهيمنة، وطبع الأمر بطابعها السياسي، أو وفق مصالحها، بحكم تمكنها، أو بحكم إنتاجها، وسائل العولمة.
بيد أن هذا الوضع، أي مسار العولمة، أدى إلى استنهاض نقيضه، وهو ما يتمثل بمقاومة العصبيات القديمة، المبنية على بنى هوياتية مغلقة، أو محاولتها استنهاض وضعها، والمشكلة أن الأمر لم يعد يقتصر على الهويات القديمة، الإثنية والدينية والطائفية والمذهبية والعشائرية، وإنما بات يشمل أصحاب التيارات الأيديولوجية، الذين باتوا يتصرفون وكأن أيديولوجياتهم (القومية واليسارية والعلمانية والليبرالية) بمثابة تابوهات مقدسة، أو بمثابة أديان أرضية، وفي الإجمال، وسواء مع الهويات القديمة أو الجديدة، فإن الأمر يضع كل طرف في مواجهة طرف آخر، تبعاً للصراعات على المكانة والموارد والنفوذ والقوة والسلطة.
هكذا، فإن الصراعات الهوياتية، الدينية أو المذهبية أو الإثنية أو الأيديولوجية، أي تلك التي لم تنبثق من الاختيارات والمصالح الفردية والجمعية، تنطوي، بشكل أو بآخر، وتبعاً للوضع المتعين، على مفارقة حادة وغريبة، بكونها أكثر الصراعات التي تشتد فيها العداوات وتسفك في سبيلها الدماء ويخرّب فيها العمران، رغم أنها تنتمي إلى صراعات الزمن الماضي، ورغم أن الأفراد المعنيين لا مصالح مباشرة لهم فيها. فمثلما لا يختار المرء والديه أو اسمه، فهو ليس له أي فضل، أيضاً، في اختيار دينه أو مذهبه أو لغته أو بلده أو قوميته. والمعنى أن أي شخص يمكن أن يكون الآخر، الذي يعاديه، أو يكرهه. هذا يصحّ، مثلاً، على الفرنسي والروسي والصيني والعربي والغيني والنيجيري والكردي والأرمني، كما على الهندوسي والبوذي والمسيحي والمسلم واليهودي، أياً كان المذهب، إذ لا أحد من هؤلاء اختار قوميته أو دينه أو مذهبه.
بيد أن الأمر في العصر الحديث لم يختلف كثيراً، إذ نشأت فيه أيضاً صراعات أيديولوجية، اتخذت شكل الصراعات الهوياتية، التي تنمّط، وتختصر الذات والآخر، وإن اكتست بصبغة عقلانية، واتسمت بنزعة الاختيار. هكذا نشأت العصبيات حول الأيديولوجيات والأفكار الكبرى، كالعلمانية والليبرالية والقومية والفاشية والشيوعية، بكل تنويعاتها، والتي باتت هي الأخرى، بمثابة "أديان" جديدة (كما قدمنا)، على ما يرى كرين برنتين، في كتابه "تشريح الثورات"، بقوله: "يرى الماركسي أن القول بوجود جوانب تشبه سلوك الخاضعين للتأثير المعترف به للدين يثير سخطه كثيراً… لقد حقّقت الماركسية بوصفها عقيدة القدر الكثير. أما الماركسية بوصفها "نظرية علمية" فلم تذهب أبعد من كتاب "رأس المال" والمجلات العلمية".
على ذلك فإن أصحاب الهويات الأيديولوجية المغلقة، هؤلاء، كيساريين وقوميين وليبراليين وعلمانيين، جعلوا من نظرياتهم حجارة صماء، لا معنى ولا دلالة لها في الواقع، فتجد اليساري الذي يفترض أن ينافح من أجل العدالة الاجتماعية، والاشتراكية، يقف مع أكثر أنظمة الاستبداد، أي أكثر الأنظمة ظلامية، وظلماً لمواطنيه، حتى لو كان ينتهج الليبرالية المتوحشة، وأكبر دلالة على ذلك دعم بعض اليساريين لنظام الأسد، بدعوى مقاومة الإمبريالية والصهيونية، رغم معرفتهم، أو رغم أن التجربة، بينت بأن ذلك مجرد ادعاء للتورية والتلاعب، وليس أكثر. هذا يشمل قوميين وعلمانيين وليبراليين، أيضاً، الذين لا يأبهون أن نظاماً كالنظام السوري هو أكثر نظام اشتغل على وأد حقوق المواطنة لشعبه، وجعل سوريا مطية للأطماع الخارجية.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل كان يمكن للأديان والأيديولوجيات الكبرى أن تزدهر وأن تصبح شمولية، على هذا النحو، لولا علاقات القوة والسلطة؟ هل كان للشـيوعية أن تكون بالسطوة التي كانت عليها لولا انتصارها في بلد في حجم روسيا ومكانتها؟ ثم كيف يمكن تصور تاريخ المسيحية لولا اعتناق الإمبراطورية الرومـانية لها؟ وكيف كان يمكن تصور تاريخ الإسلام من دون إمبراطورية إسلامية؟
طبعاً، الغرض من هذه التساؤلات فحص علاقة القوة والسلطة، كما تمثلت في الإمبراطوريات والدول، بانتشار الأديان والأيديولوجيات والأفكار الكبرى، مع التأكيد أنها كانت ستنتشر بطريقة ما، لكن على نحو آخر، ربما يخلو من التعصّب، ورفض المختلف، والميل إلى استخدام القوة بدل الإقناع.
وهذه فكرة القومية العربية، ما كان لها أن تكتسب قوتها، وأن تأخذ امتداداتها، لولا مصر عبدالناصر، بدليل أنها لم تلق استقبالاً ملائماً في البلدان الأخرى، باستثناء المشرق العربي، وبواقع عدم نشوء حركات أو أحزاب قومية، إذا استثنينا حركة القوميين العرب وحزب البعث، وأيضاً، بحكم أنها آلت إلى الأفول بعد رحيل عبدالناصر حتى في مصر ذاتها، التي تحولت إلى الساداتية. وعلى المنوال ذاته، فإن الوهابية كمذهب انتشرت في المملكة السعودية، وبقي انتشارها محدوداً في الدول العربية والإسلامية الأخرى. هكذا، أيضاً، كانت بلدان الاتحاد السوفييتي، والمنظومة الاشتراكية "تدين" بالشيوعية، وإذا بها بعد لحظة من انهيار الدولة تنقلب عليها جملة وتفصيلاً. وهذا حصل مع انتهاء اليمن الديمقراطي (1990)، الذي كان تماشى مع العقيدة الماركسية، فإذا به يتكشف عن مجتمع لم تغادره العقليات والتناحرات القبلية والمذهبية.
والحال، فإن تاريخ الأديان يفيد بأن الناس تمذهبوا، في معظم الأحوال، ككاثوليك وأرثوذكس وبروتستانت في الدول الأوروبية، وفق جغرافية السلطة، ناهيك بأن ذلك لم يتم بالاختيار الفردي وإنما بالوراثة. هذا يفسر، أيضاً، انتشار المذاهب الإسلامية المختلفة، في هذه المرحلة أو تلك، وفي هذا البلد أو ذاك، وفق مذهب الملك، أو عقيدة "المتغلّب". فهكذا، مثلاً، فرضت الخلافة الأموية روايتها، بعد تغلبها على خصومها، وما فعلته الخلافة العباسية بعدها. وفي عهد الخليفة العباسي المأمون (القرن التاسع) صعد نفوذ "المعتزلة" التي قالت بمبدأ الحرية والاختيار والعدل، لكنه انحسر في عهد المتوكل لمصلحة نقيضها (الجبرية). وهذه مصر تحولت من المذهب السنّي إلى الفاطمية، ثم إلى السنّية (من أواخر القرن العاشر إلى أواخر القرن الثاني عشر)، في حين كانت إمارة حلب شيعية في ظل حكم الدولة الحمدانية (القرن العاشر).
المشكلة تتبدى، أيضاً، في السيولة التي كان يجري فيها توليد المذاهب، رغم أن الإسلام، مثلاً، قطع مع ذلك، وفق الآيتين الكريمتين: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي" (المائدة 3) و"ولا تجعلوا مع الله إلهاً آخر" (الذاريات 51). إذ بعد هذا بات أي قول مجرد اجتهاد بشري، ولا ينطبق عليه، لا التحريم ولا التحليل، لأن ذلك يعني "التجاوز" على الذات الإلهية، وتوليد "أديان" أخرى، وفق اجتهادات المفتين أو الأئمة أو المشايخ، وهذا ما حصل عبر التاريخ، بفضل علاقات القوة والهيمنة، وخدمةً للسلاطين وأولي الأمر.
القصد من كل ذلك أن الصراعات الهوياتية تشتغل كأداة أيديولوجية ووظيفية، لخدمة علاقات القوة والسلطة، وهي تشتغل أيضا وفق معادلة حرب ضحايا ضد ضحايا، حيث الناس العاديون ليس لهم مصلحة مباشرة أو متعينة فيها. والقصد أن الصراعات الهوياتية هي بمثابة اللعبة الأثيرة للسلطات المهيمنة، في محاولتها تأبيد سلطتها، في الماضي، وفي الحاضر، على جميع المواطنين.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.