إلى رئيس مصر المدني القادم .. التاريخ لا يرحم المثاليين

عدد القراءات
13,205
عربي بوست
تم النشر: 2020/06/17 الساعة 15:04 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/06/18 الساعة 02:33 بتوقيت غرينتش

في تدريس التاريخ أحاول التركيز دوماً على تتبع الأنماط التي تجري عليها أحداث التاريخ، ودائماً ما أُحذر طلابي من النظرة المثالية في التحليل لأنها أسرع طريق للفشل. فالتاريخ يتحرك غالباً من خلال ما أسميه "الخداع المسلح"!، وربما أقول هذا لأنني ممن يقولون إن الإنسان قد يكون شريراً بطبعه، ولذا جاءته الأديان والفلسفات الأخلاقية لحثّه على فعل الخير، ولو كان يفعله بسليقته ومن تلقاء نفسه لَمَا وُجد داعٍ للأديان، ولَمَا خرج من الجنة أصلاً!

فمن الطبيعي إذا كان هذا الإنسان في حالة نزاع أن يلجأ للخداع، ولكنه في الغالب لا ينتصر إلا إذا استعد جيداً قبل أن يلجأ للخداع. ومن هنا يرينا التاريخ مراراً أن الناس المثاليين يتم الفتك بهم في الغالب وبطرق دموية بشعة. وتأمل ما حدث للمثاليين في تاريخنا الطويل من أول الحسين وأتباعه حتى محمد نجيب ومحمد مصدق وعدنان مندريس ومحمد مرسي. فالمثالية وحدها لا تكفي، خاصة المثالية الدينية. هذه بالذات سم قاتل، لأنها تُفشل أعتى الأذكياء أمام أي مسلح.

ولأننا الآن بصدد الذكرى الأولى لوفاة الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي، أقول إن المشكلة ليست في أنه كان بطلاً أم لا، وإنما تعرضه لشدة غير مسبوقة، أصبحت مثلاً يُستعاذ منه: "شدة ولا شدة مرسي".

الرجل منذ البداية لم يكن شخصية عادية، فحتى لو لم يُعجِب البعض سياسياً، فإنه كان أستاذاً ناجحاً وعالماً في تخصصه. ورغم ذلك ترك النجاح في الخارج وعاد إلى مصر، فدرّس في الجامعة، ودخل البرلمان، ودخل السجن قبل البرلمان وبعده، ثم أصبح أول رئيس منتخب ديمقراطياً لمصر، وكنت ممن انتخبوه لهذا المنصب.

وأذكر أنني في البداية كنت مؤيداً لانتخاب البرادعي، فلما انسحب علمت أنه إنسان رخو الإرادة وغير قادر على المناطحة. ومن ثم عزمت على انتخاب عبدالمنعم أبوالفتوح، وسافرت إلى مصر خصيصاً لانتخابه ومتابعة الحدث بين أهلي ومعارفي، فلما خرج أبوالفتوح سافرت مرة أخرى لانتخاب محمد مرسي، رغم أنه لم يكن يعجبني منذ البداية، لكنه كان أخف الضررين.

ولأنني انتخبته كنت ضد الخروج عليه بأي شكل ولا حتى بثورة، لأنه ما دام وصل لسدة الحكم بانتخابات حرة فعلينا أن نعارضه سلمياً، ومثل كل الشعوب المحترمة ننتظر حتى الانتخابات التالية لكي نبدله بمن نراه أفضل منه.

ولكن هذا لم يحدث كما نعلم، حيث تعرَّض الرجل لشِدة لم يسبق لها مثيل، وقام الداخل والخارج بالانقلاب عليه، وتكاتفوا في عدم إعطائه الفرصة لعمل أي شيء، وطاردوه بالهزل والجد، وحاصروه في القصر وخارجه، حتى النساء تقافزن على سيارة الرئاسة وهو بداخلها دون أن يتدخل حرسه الذي سمح بهذا.

ثم عمّت الشدة فحُرقت مقرات حزبه، وقُتل اتباعه في الشوارع، ثم في السجون، وتم إخفاؤه وعزله، ثم محاكمته، ورُفض علاجه حتى على نفقته الخاصة، ومُنع عنه الدواء حتى كف بصره كما قيل، ورغم تكاثر إغماءاته أهمل عمداً حتى لقي ربه بطريقة مدهشة لم تخطر على بال أحد ممن انتخبوه.

أما من عارضوه فسكتوا، ولم ينعه أحد منهم، لا في الداخل ولا في الخارج، رغم أن الرجل لم يرتكتب جرماً فعلياً ولم يسفك دماً. وحتى تهمة قتل الصحفي "الحسيني أبو ضيف" التي حاولوا إلصاقها به نال البراءة منها بحكم قضائي! فإن لم تكن في كل هذا عبرة "تاريخية" فأين تكون إذن؟!

وحتى لا يُظن أنني أقصد بالعبرة "التاريخية" مصمصة الشفاة أقول إن هذا ليس قصدي، فمن دراسة التاريخ ومآسيه يمكن أن نستنتج عبرة تاريخية تقول: إن عواقب الاستسلام دائماً ما تكون أوخم وأفدح وأشد ألماً من عواقب المقاومة، وهذا ذنب مرسي الوحيد في ظني.

ومما استغربت له في أمر هذا الرئيس أنه لم يكن مستعداً للمقاومة والدفاع عن منصبه، ولتتذكر هنا مقاومة أردوغان لمحاولة الانقلاب عليه. فالرجل استعدّ بداية ثم امتص الصدمة الأولى، ثم قام بتحييد الانقلابيين حتى لا يزعموا أنهم هم الذين يمثلون تركيا، ثم هزمهم، والآن يحاكمهم.

وربما كان مرسي يظن أن المنطق مفيد وأنه سينقذه، ولهذا ظل يستخدمه حتى وهو داخل القفص الزجاجي للمحكمة! ولكن ما جدوى المنطق دون قوة؟!

ومما يجب تأمّله هنا أيضاً أن مرسي في خطاباته، خاصة الأخيرة منها، كان معجباً بخطبة مؤمن آل فرعون، التي وردت في سورة "غافر"، ويرى صاحبها قدوة له.

وكما يبدو من الجو العام لهذه الخطبة القرآنية أن صاحبها كان من علية القوم الذين يجالسون الفرعون، ومن هنا كانت براعته الخطابية وقدراته العقلانية ومعرفته بموسى ودعوته ودعوة من سبقوه. وعندما احتدم الجدل بين فرعون وموسى لم يستطع الرجل إخفاء إيمانه، وألقى عليهم وعلينا هذه الخطبة العصماء التي ختمها بقوله: "فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ" (غافر: 44).

هذه الآية تحديداً كانت فقرة شبه ثابتة في خطب الرئيس مرسي، كأن شيئاً ما كان يلقي في روعه أن حاله في مصر المعاصرة يشبه حال هذا الرجل المؤمن في مصر القديمة. وكان كلما كرّر هذه الآية في خطبه وأحاديثه يعاودني الشعور بأن هناك لوناً من التوحد الوجداني بينه وبين قصة هذا الرجل المؤمن.

وكنت أجد أن هذا التوحد الوجداني إن وجد كان يعد أمراً طبيعياً قبل وصول مرسي لمنصب الرئاسة، ولكنه أصبح غير طبيعي بعدما وصل إليها وأصبح هو نفسه الفرعون الجديد! وكلمة فرعون بالمناسبة لا تعني (طاغية) كما قد يظن البعض، وإنما تعني "الحاكم" فقط ودون أي ظلال أخرى.

وكنت أتوقع بعد وصول مرسي للرئاسة أن ينتقل لاستخدام آية أخرى في ختام خطبه من قبيل: "رَبِّ قَد آتَيتَني مِنَ المُلكِ وَعَلَّمتَني مِن تَأويلِ الأَحاديثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالأَرضِ أَنتَ وَلِيّي فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ تَوَفَّني مُسلِمًا وَأَلحِقني بِالصّالِحينَ" (يوسف: 101). وكانت ستناسب خطبه ولا ريب، خاصة أنه أصبح رئيساً لمصر نفسها.

وكنت كلما كرر آية مؤمن آل فرعون أتساءل متعجباً: إن كان في هذا دليل على أن منصبه الجديد لم يترسخ في أعماقه بعد. إذ كيف وهو يمتلك كل هذه القوة التي يعطيها المنصب الأكبر ما زال يعيش في هذه الحالة النفسية المتوحدة مع حالة مؤمن آل فرعون ذي الخطاب الاستشهادي. وربما هذا تحديداً هو ما زاد في تردده ومنعه من اتخاذ القرارات اللازمة في الوقت المناسب للحفاظ على رئاسته، ومنع الانقلابيين وأتباعهم من الجرأة عليه ثم الفتك به وبأتباعه، ومن ثم تشابه مصيره ومصير مثله الأعلى.

وأعود لبداية هذه المقالة فأقول إن النمط التاريخي لما حدث مع مرسي جعلني أتفهم ما قام به الرئيس السادات مع منافسيه المحتملين، وما قام به مبارك ويقوم به السيسي أيضاً. فكل منهم عسكريّ -بعكس مرسي- ويعرف تماماً ميكانيزم السلطة في بلد كمصر، وأنه إن لم يسارع بالتخلص من منافسه وإن بطريقة سلمية سيتم التخلص منه بطريقة دموية، لذا إذا دارت الأيام ووصل رئيس مدني إلى حكم مصر مرة أخرى فالعبرة التاريخية تخبره بأن عليه أن يفعل ما لم يفعله مرسي، وإلا سيحُلُّ به ما حلَّ بمرسي.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عبد السلام حيدر
أستاذ جامعي متخصص في التاريخ
أستاذ جامعي متخصص في التاريخ
تحميل المزيد