يُعرف رمضان بكونه شهراً للكرمِ، ولكنه في هذا العام اختصّ بسخائه اثنين من القتلة ذوي السمعة الأسوأ في العالم العربي؛ مُحسن السكَّري، وقَتلة الصحفي جمال خاشقجي.
مُحسن السكَّري هو ضابط مصري سابق بجهاز مباحث أمن الدولة، استأجره الملياردير المصري وقطب قطاع العقارات هشام طلعت مصطفى لقتل عشيقة الثاني السابقة، المغنّية اللبنانية سوزان تميم، في دبيّ، خلال عام 2008. وحُكِم على كلٍّ من السكَّري وهشام طلعت مصطفى بالإعدام، ولكن خلال إجراءات الاستئناف وإعادة المحاكمة خُفِّفَت عقوبتهما إلى السجن المؤبّد للسكَّري، والسجن 15 عاماً لهشام.
خفَّفَ الرئيس عبدالفتاح السيسي -مُمارِساً سُلطاته الرئاسية- عقوبة السكَّري لتنقضي بحلول عيد الفطر الماضي. أما هشام طلعت، الذي كان جزءاً من الدائرة المقرَّبة داخل الحزب الوطني الديمقراطي في وقت جريمة القتل، فقد أسدى إليه السيسي ذاك المعروف قبل ثلاث سنوات.
امتياز مرير
في حين أن العديد من القرّاء ربما نسوا أمر مقتل سوزان تميم، تلقَّت واقعة القتل الوحشي والمتبجِّح لجمال خاشقجي داخل القنصلية السعودية في إسطنبول خلال العام 2018 تغطيةً واسعة النطاق، وكانت لها عواقب بعيدة المدى.
إذ ربطت العديد من وكالات الاستخبارات والمنظّمات الدولية، لاسيَّما الأمم المتحدة، واقعة قتل خاشقجي بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان شخصياً، حتى إن تحقيقاتها قد خلصت إلى أنه قد أمر بتنفيذ القتل. ومع ذلك، أعلن أبناء خاشقجي خلال شهر رمضان العفو عن قاتلي أبيهم، وهو أمرٌ حاسم لإنقاذ حياة القَتلة.
في عام 2010، بعدما ألغت محكمة النقض المصرية أحكام الإعدام التي نالها هشام طلعت والسكري في بادئ الأمر، وأمرت بإعادة المحاكمة، قرَّرَت عائلة سوزان تميم إسقاط دعوتهم المدنية ضد هشام طلعت في لبنان. وذكرت تقارير أنه دفع للعائلة 750 مليون دولار أمريكي نظير ذلك. وعند إعادة المُحاكمة، خُفِّضَت عُقوبتهما إلى السجن المؤبَّد لمحسن السكَّري والسجن 15 عاماً لهشام طلعت مصطفى، ومن ثم نال السكَّري وهشام طلعت عفواً مزدوجاً من أهل الضحيّة أولاً، ومن السيسي لاحقاً.
لا شك في أن المغفرةَ فضيلةٌ في ظروف معينة، ولكن لأن القويّ يمكنه بطبيعة الحال استخدام قوته لابتزاز الأضعف كي ينال العفو منه، فإن "العفو" قد لا يُعد أكثر من تنازل مرير يقضي بإفلات الجاني من العقاب.
وفي المجتمعات الاستبدادية التي عادة ما تُنتَهَك فيها الحقوق، علينا أن نتشكَّك خصوصاً عندما يمتد نطاق العفو ليشمل القوي الذي انتهك حق الأضعف منه. فمن دون نظامٍ قانوني قوي وفعال يُدافع عن حق الجميع لا يتعيَّن علينا الاندهاش إذا ما رأينا الضعيف يعلن عفوه عن مُضطهِده.
قيم ثقيلة
يخفف القانون الامتياز الممنوح بطبيعة الحال للأقوياء من خلال منح الضحايا الحق في مقاضاة الذين ينتهكون حقوقهم، وتسعى الشريعة الإسلامية إلى التوفيق بين قيم العدالة، والرحمة، والمغفرة من خلال السماح لأقرب أقرباء القتلى بعدم القصاص من حياة القاتل، حتى إنها تُشجِّع على ذلك، ولكنه لا يحدث إلا بعد منح أولئك الأقربين السلطة الجلية لالتماس العدالة الكاملة.
ومع ذلك، حتى في الشريعة الإسلامية، تُعتبر قيمة العدالة أحياناً أثقل في الميزان من سيادة فضائل الرحمة والغفران. وحسب العديد من الفقهاء المسلمين، ليس بإمكان أقرب أقرباء القتلى الذين لقوا حتفهم بدمٍ باردٍ إعفاء المتهم من العقوبة من خلال مُسامحته على ما اقترف، مثلما يتسنَّى لهم العفو في حالات القتل العادية.
وليس مُستغرباً أن العديد من الفقهاء المسلمين يميّزون هذا التمييز بين الحالتين؛ فثمة فارق بين حادثة يخرج فيها الشجار عن السيطرة، ما يدفع بموت الضحية، وفساد قاتل يخطط مع سبق الإصرار لارتكاب جريمة قتل وحشية، ويُضلِّل ضحيته، ويخطط لهروبه. وقد توافرت تلك العناصر جميعاً في مقتل سوزان وخاشقجي.
إنه سيئ بما يكفي أن تفلت تلك الأطراف المذنبة من العقوبة بسبب مناصبها، أما الأسوأ من ذلك بكثير فيتجلَّى حينما يُستخدَم القانون لتحقيق تلك الغايات غير القانونية.
في حالة هشام طلعت والسكَّري، يُرجَّح توقيت التسوية مع أسرة القتيلة والقتيل وجود صلة محتملة بتخفيف العقوبات التي نالها القتلة عند إعادة محاكماتهم، حتى لو لم تلعب التسوية الخاصّة بين الأطراف دوراً رسمياً. وحقيقة أن السيسي وهب هؤلاء ميزة إضافية بتقليص العقوبة تؤكِّد على فكرة أن الأقوياء في مصر فوق القانون.
الانتقاء والاختيار
بالتزامن، يُعد إبراء قتلة خاشقجي تحت ستار "العفو" أكثر تدميراً لسيادة القانون في المملكة العربية السعودية.
إذ ذكرت وزارة العدل السعودية والمحكمة السعودية العليا في مناسبات سابقة أنه في وقائع القتل بدمٍ بارد، لا يشفع عفو أقرب أقرباء عن القتلى من الناحية القانونية. ولكن في هذه الحالة، ها هي الحكومة تعارض فهمها طويل الأمد لقانونها من أجل إعفاء وليّ العهد ورفاقه من المسؤولية الجنائية عن قتل جمال خاشقجي.
وهذا ما يجعل "عفو" الأقرباء يبدو أكثر قليلاً من مجرد زيفٍ، فحتى إذا كان بوسع السلطات السعودية الإشارة بحقٍّ إلى الآراء الموثوقة في فقه ابن حنبل، وهو أمر يُطبَّق في المملكة، التي تتيح لأقرباء ضحايا القتل بدمٍ بارد العفو عن القاتل.
الانتقاء والاختيار من بين آراء قانونية شتى يخدمان المصالح الذاتية، لاسيَّما بما يصب في صالح القويّ وقمع الضعيف، ولطالما أُدينَت تلك الممارسة بوصفها حيلةً يستخدمها الظالم.
إذ كتب الفقيه المصري على مذهب المالكية، شهاب الدين القرافي، في القرن 13 ميلادياً:
"لا ينبغي للمفتي إذا كان في المسألة قولان؛ أحدهما فيه تشديد والآخر فيه تخفيف، أن يُفتي العامة بالتشديد، والخواصّ من ولاة الأمور بالتخفيف. وذلك قريب من الفسوق والخيانة في الدين، والتلاعب بالمسلمين، ودليل فراغ القلب من تعظيم الله تعالى، وإجلاله، وتقواه".
إن العفو التعسُّفي في مصر والمملكة العربية السعودية يفضح الإفلاس الأخلاقي لهذين النظامين، ويسخر من ادعاءاتهما عن الحداثة و"الاعتدال". وفوق ذلك، تسهم إساءة استخدامهما لهذا العفو والرأفة في تدمير الموارد المعنوية اللازمة للحفاظ على أي مجتمع لائق، وهو أمر لا يمكن غفرانه.
– هذا الموضوع مترجم عن موقع Middle East Eye البريطاني.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.