استأنف التونسيون خلال هذا الأسبوع نشاطهم العاديّ بتونس كأنّ شيئاً لم يكن، كأنّ كورونا لم يحل بيننا يوماً ما، كأنّ أبواب بيوتنا لم تغلق يوماً ما خوفاً من هذا الفيروس اللعين، ولكن لِسائلٍ أن يسأل: هل عدنا إلى الحياة أم ودّعناها؟
مازلت أذكر حالة الفزع التي انتابت الشعب التونسي حين أعلنت المصالح التونسيّة عن تسجيل أول حالة مرض كنّا نرغب فقط بالالتحاق بالصيدليات لشراء المطهرات والأقنعة وكل اللوازم الطبية الضروريّة، آنذاك كنّا نرغب فقط بالالتحاق بالفضاءات التجارية والمحلات الغذائية لاقتناء مؤونتنا لأننا تنتظرنا أيام عصيبة بسبب الحائحة، الذين أمضينا شهرين ونصف الشهر نتابع عبر وسائل الإعلام الأجنبية ومنّصات التواصل الاجتماعي ما يحصل بالصين وجيرانها، وبالدول الأوروبيّة. لقد كنّا مستعدين أيّما استعداد لهذه الجائحة، وتهافتنا جعل العديد من المواد الغذائية تنفد من السوق بسرعة، وجعل الصيدليات تستغلّ الفرصة لترفع ثمن المواد الطبيّة… إنّه لَمِن الخزيّ والعار على الصيادلة أن يقوموا بسلوك كهذا، ما دفع الحكومة التونسية إلى تسعير المطهر ثم الكمامة.
ثم بعد أسبوع ونصف انطلق الحجر الصحي بكامل محافظات تونس، وأصبحت الشوراع فارغة من العباد، تملأها فقط القطط والكلاب السائبة. ووجدنا أنفسنا سجناء بالبيت، حتّى إن البعض ملّ هذا السجن خلال الأسبوعين الأولين، ولكنها كانت فرصة من ذهب للكثير منّا، كانت فرصة للأمّهات اللاتي اعتدن رؤية أبنائهن بضع ساعات في اليوم، لسعيهم الدائم خلف لقمة عيشهم.
كانت فرصة للنساء الشغوفات بعملهنّ مثلي لكي يجدن وقتاً لقضائه مع الأسرة، نعم كنت أعمل ليلاً نهاراً بالبيت أثناء الحجر الصحيّ، ولكنّي كنت أستمتع بالحديث إلى والدي من حين إلى آخر، كنت أستمتع باكل ما تطبخه والدتي، كنت أستمتع بالخروج معها يوماً في الأسبوع لقضاء حاجات البيت، ونحن نخطط معاً لاقتناء الحاجيات مع اتخاذ التدابير اللازمة، وحين نعود إلى البيت تستقبلني أختي لأخذ تلك الحاجيات إلى محطة التعقيم، ما أحلى ذلك التضامن الأسري، وتلك الساعات التي قضيتها مع أهلي ونحن وكنا قبل الحجر الصحيّ نلتقي حول مائدة الطعام، يوم الأحد، كانت مشاغل الحياة تفرّقنا طيلة الأسبوع، وتجدني أحياناً أستقي أخبارهم عبر اتصال هاتفي أثناء فترة الغداء، هذا ليس باختيار، ولكنّ الحياة لا تعطيك الوقت الكافي لأنك تخطط للمستقبل وتنسى الماضي.
أعرف أن الكثير منكم قد وجد في أزمة كورونا فرصة لقضاء الوقت مع أحبائه.
ثم حتّى لو فرقنا كورونا عن شخص عزيز ألم نجد الوقت أكثر من السابق لمكالماتنا الهاتفية والفيسبوكية؟ كانت فرصة من ذهب لكي نحب بعضنا أكثر، لكي نعرف قيمة أناس كثيرين من حولنا، لكي نعرف قيمة الوقت الذي نمضيه مع أشخاص نحبّهم…
قبل أزمة كورونا كنت بالكاد أجد وقتاً للرياضة والفسحة مع الأصدقاء والأحبّة، ولا أطبخ إلا للضرورة مادامت والدتي العزيزة تطبخ بالبيت، اليوم أصبحت أطبخ الأطباق التّي أحبّها، تلك التّي لم أجد سابقاً الوقت لتعلّم كيفيّة إعدادها لأني كنت أعمل يوماً كاملاً، كنت أفضّل قضاء الوقت بقاعة الرياضة أو مع الأصدقاء أو بالاستماع إلى الموسيقى أو مشاهدة فيلم أو كتابة شيء ما… إلخ. وإن كنت لا أحبّ أكل المطاعم، فاليوم أصبحت أمقتها وأشتهي طبخ الأشياء بمفردي إن لم يعجبني ما طبخته أمي، نعم كورونا غيّر في عاداتنا وذكّرنا بقيمة الأكل بالبيت، مثلما كنت أفعل سابقاً حين كنت مقيمة بالخارج… كم هو جميل أن نحافظ على تلك العادات الجميلة.
كورونا علّمنا فعلاً أنّ الوقت من ذهب، والصحة من ذهب، والعلم من ذهب، والأهل من ذهب… يجب الموازنة بين جميع الأشياء من أجل العيش بسعادة بأتمّ معنى الكلمة.
أخطّ هذه الكلمات وقد تذكرت قصّة صيادي إحدى القرى البحريّة، الذين زارهم مهندس واقترح عليهم شراء قارب كبير لصيد كمية أكبر من السمك، فاختاروا الاكتفاء برزقهم البسيط العاديّ، والعودة إلى البيت باكراً إلى أهلهم، لأنّ في ذلك سعادتهم. وقد قاموا بالاختيار الأفضل لأنه مهما عملنا ومهما كانت كمية الأموال التي سنجمعها من أجل القيام بأشياء نحبّها فهناك وقت نحن بصدد إهداره، الوقت هو الذي يمنحنا السعادة الحقيقية إذا ما قضيناه مع أناس نحبهم، وهذا كان جوابي حين ذهبت يوماً إلى ديزني لاند بفرنسا، أبحث عن مصدر سعادتي بالحياة، فوجدت الإجابة أنّ الغربة لا داعي لها مادمت سعيدة بحياتي مع أهلي بتونس، فالناس الذين هم من حولك هم مصدر سعادتك، لأنّ أبسط الأشياء قد تسعدنا في كثير من الأحيان.
مع نهاية أزمة كورونا نحن في النهاية نغادر الحياة الحقيقية لنعود إلى حياتنا التي تغلب عليها المادّة، ولسنا أمام اختيار، لأنّه إن لن نعمل فلن نضمن المستقبل، ولكن في قرارة أنفسنا نحن ندرك أنّنا تركنا الحياة ببيوتنا لأن مكان عملنا ليس مكان السعادة الحقيقية، لأن المطاعم والمقاهي والعلب الليلية ليست حياتنا، الحياة هي البحر والطبيعة والدفء العائلي، هي عشق حبيب لحبيبته، هي حبّ أمّ لأولادها، وحنين جدة لأحفادها… تلك هي الحياة الحقيقية.
فشكراً "كورونا" لأنك أعطيتنا فرصة لنعرف مصدر السعادة الحقيقية قبل فوات الأوان، وتَذكّرنا خلال هذه الفرصة أنبل القيم: الحبّ والتسامح والتضامن والتعاون وحسن الجيرة… لا نريد للكذب أو النفاق أن يكون لهما محل بيننا. "وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.