ظلَّت الصين بعيدةً عن التدخل العسكري في المعارك الدائرة في الشرق الأوسط، خاصة الحرب الأهلية في سوريا، لكن حينما وضعت الحرب أوزارها بدأت بكين تبحث لها عن موطئ قدم في البلاد، عبر عملية الإعمار التي باتت مرتهنة بإيجاد حل سياسي أولاً.
وقال موقع Al-Monitor الأمريكي إنه مع اقتراب الحرب في سوريا من نهايتها، جاء المستثمرون الدوليون يطرقون الأبواب، مُتطلِّعين إلى ضمان حصةٍ في إعادة إعمار البلد الذي مزَّقته الحرب. قال أحمد تامر، مدير مرفأ طرابلس اللبناني، في مقابلةٍ مع موقع Al-Monitor: "الحرب تجارةٌ مربحة، أولاً تُباع الأسلحة لتدمير البلد، ثُمَّ تُباع المواد لبنائه مجدداً".
رست في ديسمبر/كانون الأول الماضي سفينة حاويات تابعة لشركة الشحن الصينية المملوكة للدولة COSCO في مرفأ طرابلس، مُدشِّنةً خطاً بحرياً يربط الصين بالبحر المتوسط. وتستفيد طرابلس، الواقعة على بُعد أقل من 30 كيلومتراً عن الحدود السورية، من موقعٍ استراتيجي رئيسي في أعين المستثمرين الراغبين في الحصول على طريقٍ سريع للوصول إلى مدن سوريا التي دمَّرتها الحرب.
وأضاف تامر: "تختبر الصين طرابلس باعتبارها موقعاً محتملاً للاستثمار". وبعدما نجح البنك في توفير قرض بقيمة 86 مليون دولار من البنك الإسلامي للتنمية، يستعد الآن لاستثمارٍ كبير النطاق. فصرَّح تامر للموقع: "لن يتطلَّع الصينيون إلى أي استثمار أقل من نصف مليار (دولار). وإذا استثمروا في المرفأ، فسيكون ذلك بسب اهتمامهم بالمنطقة برُمَّتها"، بحسب الموقع الأمريكي.
الفيتو الصيني أنقذ الأسد عدة مرات
وتوفر الصين، التي أبقت سفارتها في دمشق مفتوحة طوال فترة الصراع، دعماً دبلوماسياً مطرداً لنظام بشار الأسد، مُستخدِمةً حق النقض (الفيتو) ضد معظم القرارات التي تستهدف دمشق في مجلس الأمن الدولي.
لكنَّ الدبلوماسية ليست الميزة الوحيدة التي تملكها الصين في سباق إعادة إعمار سوريا. إذ أُثقِلَت روسيا وإيران، اللتان تحاربان في صفِّ النظام، بسنواتٍ من العقوبات الاقتصادية والحرب. وفي ظلِّ إمساك أوروبا والولايات المتحدة ودول الخليج عن تقديم أي دعمٍ مالي إلى حين التوصل إلى تسوية سياسية، تُعَد الصين هي الدولة الوحيدة التي تملك القدرة الاقتصادية والنفوذ السياسي اللازمين لمثل هذا الاستثمار الأجنبي الضخم، بحسب الموقع الأمريكي.
وإلى جانب تعهُّد الصين بالفعل بملياري دولار لإعادة بناء الصناعة السورية في عام 2017، حضرت أكثر من 200 شركة صينية في معرض دمشق الدولي الستين، في سبتمبر/أيلول 2018، ما يُظهِر أنَّ الصين تستعد لتوقيع اتفاقات شراكة بين القطاعين العام والخاص، تشرف عليها بكين مباشرةً.
وعبَّرت إليانا إبراهيم، رئيسة الجمعية العربية الصينية للتبادل الثقافي والتجاري في بيروت، عن تفاؤلها حيال الانخراط الصيني في المنطقة. وقالت للموقع: "تدرس الصين حالياً استثمارات كبيرة النطاق في كلٍّ من سوريا ولبنان، وهي بانتظار استقرار الوضع قليلاً حتى تضمن وجود عائد لاستثماراتها". وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أنَّ إعادة إعمار سوريا ستتكلَّف ما يزيد عن 250 مليار دولار، بحسب الموقع الأمريكي.
وتستعد السلطات في طرابلس، إدراكاً منها للاهتمام الصيني، لما تأمل أن يكون انخراطاً مالياً شاملاً، انخراطٌ "قد يغير المنطقة ككل" على حد وصف حسان ضناوي، رئيس المنطقة الاقتصادية الخاصة في طرابلس.
وتهدف المنطقة الاقتصادية الخاصة في طرابلس، التي أنشأتها عام 2009 وزيرة المالية ريا الحسن، التي باتت الآن وزيرةً للداخلية، لتوفير مركزٍ للبنية التحتية والخدمات اللوجستية للمستثمرين الذين سيكونون بحاجة إلى تسهيل التجارة والنقل إلى سوريا. قال ضناوي للموقع: "استُحدِثت المنطقة الاقتصادية الخاصة في البداية لتعزيز التنمية في المناطق اللبنانية الأكثر فقراً في الشمال. لكنَّ الحرب في سوريا وفَّرت مجموعة جديدة كاملة من الفرص للبنان".
لبنان يعاني هو الآخر من أزمة اقتصادية
ولدى الحكومة المُشكَّلة حديثاً في لبنان، المُثقَلة بالدين العام المتزايد، شعورٌ بالحاجة المُلِحّة لعمل شيءٍ حيال التكاليف الاقتصادية والاجتماعية لأزمة اللاجئين السوريين في لبنان. وقبل بضعة أسابيع فقط، في 18 فبراير/شباط الماضي، زار وزير الدولة اللبناني لشؤون النازحين صالح غريب، دمشق، ما يشير إلى تبدُّلٍ محتمل في السياسة البنانية تجاه سوريا، بغرض معالجة قضية اللاجئين، بحسب الموقع الأمريكي.
وعلى الرغم من الانقسامات الحادة داخل صفوف الحكومة اللبنانية فيما يتعلَّق بعلاقات مع النظام السوري، فإنَّ أزمة اللاجئين وفرص إعادة الإعمار المحتملة حاضرة بشدة في أذهان السياسيين اللبنانيين من مختلف ألوان الطيف السياسي. وفيما يتعلَّق بالصين، خلُص ضناوي إلى أنَّ "استثمارها في طرابلس ليس من أجل إعادة إعمار سوريا فقط، بل يأتي أيضاً كجزءٍ من مشروعٍ أكبر للمنطقة ككل".
وبحسب الموقع الأمريكي، تملك الصين، التي تستورد أكثر من نصف نفطها الخام من الشرق الأوسط، مصلحةً استراتيجية في المنطقة باعتبارها نقطة وصول أساسية إلى إفريقيا وأوروبا. وأطلق الرئيس الصيني شي جين بينغ عام 2013 مبادرة الحزام والطريق، وهي خطة للاستثمار في البنية التحتية للنقل، من شأنها ربط الصين بأكبر من 65 بلداً برّاً وبحراً.
وقد تصبح طرابلس، المُطِلّة على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، مركزاً لوجستياً لطرق التجارة البرية تربط البحر المتوسط بآسيا الوسطى، وهو ممرٌ تحتاجه بكين لتقليص فترات النقل وتجنُّب الاضطرار إلى العبور عبر قناة السويس.
قالت كريستينا لين، الزميلة الباحثة بمركز دراسات السلام والصراع العالمية بجامعة كاليفورنيا: "تهدف الصين لكسب نفوذ في المنطقة بقوة الاستثمار الاقتصادي بدلاً من التدخُّل العسكري"، بحسب الموقع الأمريكي.
لكن على الرغم من التكهُّنات، ينصح ضناوي بالحذر، لافتاً إلى أنَّه يجب "التعلم من الماضي، فنحن نعرف أنَّه ليس من الحكمة التفاؤل أكثر مما ينبغي. الأموال تحتاج إلى الاستقرار، ويصعب إيجاد الاستقرار في تلك المنطقة من العالم".
وبتنحية الجانب الاقتصادي جانباً، فإنَّ الصين لديها دوافعها للرغبة في استقرار سوريا. إذ أثارت التقارير بشأن وجود مقاتلين من الإيغور من إقليم شينجيانغ للالتحاق بالميليشيات الإسلامية المتطرفة في سوريا القلقَ في بكين. قالت كريستينا للموقع: "لا تريد الصين أن تصبح سوريا دولة فاشلة مثل أفغانستان تُوفِّر ملاذاً آمناً للمسلحين الانفصاليين الصينيين لمهاجمة المواطنين والمصالح الصينية"، بحسب الموقع الأمريكي.
وفي حين تشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أنَّ إعادة إعمار سوريا ستستغرق أكثر من 20 عاماً، فإنَّ استراتيجية الثروة والقوة الناعمة التي تنتهجها الصين قد تجعلها واحدة من المرشحين الأوفر حظاً في سباق التربُّح من عملية إعادة البناء من رماد الحرب.
لكن إن استثمرت الصين في إعادة الإعمار قبل التوصل إلى تسوية سياسية، فقد يصعب إيجاد الاستقرار على المدى طويل، لأنَّ المظالم التي أشعلت الحرب في البداية قد تعود قريباً لتطارد الجميع.