تقرَّر استمرار المسلسل الدائر بين الرئيسين دونالد ترامب وكيم جونغ-أون لموسمٍ ثانٍ سينطلق ببث حي من فيتنام بقمة ستعقَد في نهاية فبراير/شباط الجاري.
أثار الموسم الأوَّل في سنغافورة عام 2018 حماساً شديداً لدى مُنتجي البرامج والشبكات التليفزيونية، لدرجةٍ جعلت إنتاج جزءٍ ثانٍ نتيجةً حتمية. استوجبت الإثارة التي خلفها أوَّل لقاءٍ في التاريخ بين زعيمي الولايات المتحدة وكوريا الشمالية -وهذان الزعيمان تحديداً- تغطيةً إعلامية لحظةً بلحظة. امتلأت وسائل الإعلام بتحليلاتٍ مطوَّلة غير منقطعة لأسابيعٍ متواصلة، ويوم الحدث الرئيسي سهر المحلِّلون من شتى عواصم العالم طوال الليل ليشاهدوا البثَّ الحي للقاء. فمن يمكنه مقاومة حدثٍ كهذا؟
تتساءل صحيفة The Guardian البريطانية في التقرير، ماذا قد يحدث إذن في الموسم الثاني؟ هل يقنع ترامب كيم بالتخلي عن الأسلحة النووية؟ هل يستمر كيم بصدِّ محاولات ترامب؟ هل يُبرم الاثنان اتفاقاً جيداً يكسر أزمة الجمود المستمرة لعشرات الأعوام إلى الآن؟ من يدري! هذا ما يجعل منه نجاحاً مضموناً، أنَّ العالم سيشاهد في كل الحالات!
ترامب يستخفُّ بالحقائق، والمشورة، والمصالح
يعرف ترامب جمهوره. سواءً أُحرِز تقدُّم أم لا، يظن ترامب أنَّه هوَ من يتحكَّم بسير الأحداث. على الأقل لن تُعقَد هذه المحادثات سراً، مثل المحادثات التي أجرتها إدارة الرئيس أوباما مع إيران وضمنت بالفعل لأمريكا صفقةً تمنع إيران من صُنع الأسلحة النووية.. كانت تلك محادثاتٍ مملة للغاية.
بعيداً عن السخرية، يصعُب أخذ محاولة ترامب في الحوار الدبلوماسي مع كوريا الشمالية (أو مع أي كان) على محمل الجد، إذ أنَّ ترامب يستخفُّ بالحقائق، والمشورة، والمصالح، والأعراف التي تحفَظ أمن أمريكا. لكنَّ المخاطر مرفعة هذه المرة، وشديدة الخطورة. وفيما يخصُّ كوريا الشمالية، فإنَّ البديل المعقول الوحيد للوضع الحالي هو مسارٌ دبلوماسي يخوضه رئيسٌ أكثر أهلية. ولكن لسوء الحظ، هذا اختيارٌ غير متاحٍ حالياً.
إذن نحن أمام هذا الواقع. وعليه فأنت تقصد طاولة المفاوضات بالفريق المتاح بين يديك. وبهذا، فيما يجتمع ترامب وكيم من جديد للتحدُّث عن مستقبل الأسلحة النووية في كوريا الشمالية وعن مصير شبه الجزيرة الكورية، يبقى السؤال: هل يمكن تحقيق أي تقدُّم؟
هل يحاول ترامب قبول صفقة "مجنونة"؟
ربما تريد كوريا الشمالية حقاً التغيير والانفتاح على العالم. ربما يتسنَّى للرئيس الكوري الجنوبي البارع في أمور الدبلوماسية، مون جاي إن، أن يُيسِّر حدوث انطلاقةٍ في مسار المحادثات. أو ربما يكون نهج ترامب غير المسبوق بالتحاور زعيماً لآخر هوَ مفتاح التقدُّم.
ربما لا كذلك، ربما كوريا الشمالية تكسب الوقت فحسب لترفع عنها العقوبات وتوسِّع ترسانتها. ربما ترامب غير مهتم سوى بأن يبدو تحاوره مع كوريا الشمالية ناجحاً. ربما يوافق ترامب على عقد اتفاقيةٍ سيئة تبدو معقولةً عبر البث التليفزيوني: يسحب ترامب القوَّات الأمريكية المرتكزة في كوريا الجنوبية عائداً بها إلى البلاد (وهو أمرٌ أشار ترامب مراراً بأنَّه يرغب في فعله) مقابل وعودٍ مبهمة من جانب كوريا الشمالية بنزع الأسلحة النووية. في هذه الجولة، لن يكون وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس ولا كبير موظفي البيت الأبيض جون كيلي موجودين كي يحاولا منع ترامب من قبول صفقةٍ مجنونة.
حتى الآن، لا أدلة تُذكَر على احتمال نجاح هذه العملية. تستمر كوريا الشمالية في المضي قدماً في برامجها للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية. وحتى منذ عقد قمة سنغافورة، قاومت كوريا الشمالية المشاركة في المحادثات العملية التي يتحتم عَقدها للتوصُّل لأي اتفاقية، إذ لم يجتمع المبعوث الأمريكي الخاص إلى كوريا الشمالية ستيف بيغون بنظيره الكوري الشمالي سوى منذ بضعة أيامٍ فقط، بعد أن تأكَّد عقد القمة الثانية.
ترامب هوَ مُضرم النار والإطفائي في الوقت ذاته
على الأقل هذا أفضل من "النار والغضب" الذي توعَّد بهما ترامب لكوريا الشمالية قبلاً، أليس كذلك؟ على الأقل نحن لسنا في حالة حرب. بالطبع. مقارنةً بالحرب، يبدو كل شيءٍ جيداً وعلى ما يُرام.
لكنَّ شبح دخول حربٍ مع كوريا الشمالية كان من صُنع ترامب نفسه. عندما غادر أوباما منصبه، كان مُستَبعداً نشوب نزاعٍ مع كوريا الشمالية، على خطورته، لم يكن لدى كوريا الشمالية أي مصلحةٍ في دخول حربٍ وكانت الولايات المتحدة وحلفاؤها قد نجحوا طويلاً في احتواء وردع كوريا الشمالية.
أتى ترامب وغيَّر ذلك، مهدداً بشن حربٍ لا ضرورة لها. ولهؤلاء ممَّن ظنُّوا أنَّ هذا لم يكن سوى وعيدٍ لا نية حقيقية فيه، فقد وضح القائد الأسبق للقوات الأمريكية في كوريا الشمالية فنسنت بروكس مؤخراً على أي مقربةٍ كنا من دخول الحرب. ومع أنَّه هو من صعَّد شخصياً خطر نشوب نزاعٍ مع كوريا الشمالية، فترامب يريد أن يصدِّق الجميع أنَّه مَن أنقذ أمريكا من الحرب، إذ غرَّد بعد قمة سنغافورة قائلاً: "لم يعُد هناك خطرٌ نووي من جانب كوريا الشمالية". والحقيقة أنَّ ترامب هوَ مُضرم النار والإطفائي في الوقت ذاته.
وفيما تُرَى فرص النجاح ضئيلة، فإنَّه من الضروري ممارسة الحل الدبلوماسي مع كوريا الشمالية، إذ أنَّه السبيل الوحيد أمام الولايات المتحدة وحلفائها للتصدِّي للخطر القابع في كوريا الشمالية. الآن تمضي حكومة كوريا الجنوبية في محادثاتٍ مع كوريا الشمالية، ويجب على الولايات المتحدة أن تساند حليفتها في سول. كرّرتُ هذا البيان مراتٍ أكثر ممَّا يمكنني الحصر على مدار العام الفائت، ويبقى هو الحقيقة.
ما احتمالات الحل الدبلوماسي؟
لكن علينا كذلك أن ندرك أنَّ نهج ترامب، حتى الآن، لا يخاطب المشكلة الفعلية. أوقَف كيم التجارب النووية والصاروخية حتى قبل أن يوافق ترامب على الحل الدبلوماسي. ومنذ بداية المسار الدبلوماسي، عطَّلت كوريا الشمالية موقع اختبارٍ واحد فحسب فيما استمرت بالتوسُّع في برامجها النووية والصاروخية.
حتى وإن لم يُحرَز أي تقدمٍ بارز، سيكون جيداً أن نرى الحل الدبلوماسي يستمر إلى أجلٍ غير مسمى ويُبقي على أمل التقدُّم. سيكون كذلك عظيماً إذا ما تحقَّق تقدمٌ تدريجي حقيقي، وهو السيناريو الأفضل في هذه الحالة. بينما أنَّ النتيجة المُرجَّحة من القمة الثانية تتلخَّص في المزيد من الوعود التي تُبقي على العملية الدبلوماسية سائرة، لكن في ظل وجود شكٍ تجاه حدوث أي تقدمٍ ملموس أو تطبيقٍ محتمل.
ومع ذلك، فإنَّ غياب أي تقدُّمٍ يمكن التصديق عليه يقلِّل من دعم الحل الدبلوماسي لدى جميع الأطراف. تواجه العملية الدبلوماسية بين الكوريتين الشمالية والجنوبية المزيد من العقبات، إذ يعارض محافظو كوريا الشمالية خطوات مون. ومن جهته، كلما استمر ترامب في ذاك الدرب لوقتٍ أطول دون نتيجةٍ تبرُّره، سقط كذلك دعم الحل الدبلوماسي في الولايات المتحدة.
طالما أبقَى كيم على قرار وقف نشاط تجارب الأسلحة، وطالما لا تُعرَض بشكلٍ اعتيادي تسجيلات لإطلاق صواريخ بإمكانها الوصول للولايات المتحدة، يمكن لترامب أن يروج لدبلوماسيته باعتبارها نهجاً ناجحاً. لكن دون تقدُّمٍ مُثبَت وقريب، قد يتجه المشاهدون لتغيير القناة.