لم يكن أمامهم إلا أن يُبقوا جثمان فقيدهم في الثلاجة لعدة أيام، إلى أن وجدوا له مساحة ضئيلة في أحد أركان قبر بسيط، تكرَّر هذا الموقف مع كثير من الأسر المغتربة، إذ إن دفن الموتى أصبح عبئاً كبيراً على اللاجئين في مصر سواء كانوا سوريين أو يمنيين أو سودانيين.
في مستطيل من 4 كتل خرسانية بمقابر السادس من أكتوبر، يكفي لاحتواء جسد هزيل، تتوارى أجساد العديد من موتى اللاجئين في مصر.
لا توجد أسماء على رخام المقبرة، مجرد عشب ذابل يُصدر صوتاً ناعماً مع نسيم الشتاء.
أما القبور الصغيرة الموجودة على الجانب فجميعها تحتضن أطفالاً، وجمعيهم لاجئون تقريباً.
والعديد من الأطفال يُدفنون في الأركان أو على الجوانب، وفي أي مساحة متاحة ولا تحمل أسماء، إلا مقبرة واحدة تحمل حروفاً غير متشابكة حُفر عليها بأداة خشنة، تعكس كتابة والد يائس حاول أن يُعلِّم قبر ابنه بأن ينقش اسمه عليه بنفسه.
تبدو هذه حالة المقابر التي يدفن فيها أبناء عدد من الجاليات العربية في مصر.
إذ إن دفن الموتى أصبح عبئاً كبيراً على اللاجئين في مصر، خاصة السوريين واليمنيين وحتى السودانيين.
دفن الموتى أصبح عبئاً كبيراً على اللاجئين في مصر والسوريون الأكثر معاناة
"أصعب ما واجهنا في الغربة هو دفن ذوينا"، بهذه الكلمات يشرح اللاجئ السوري نشوان أحمد كيف أن دفن الموتى أصبح عبئاً كبيراً على اللاجئين في مصر.
يقول: "بالإضافة إلى أننا ندفنهم بعيداً عن وطننا وأرضنا وترابنا، فإننا لا نجد من الأساس حفنة تراب في أي وطن تؤويهم بعد الموت".
لا تقلُّ صعوبة هذا التحدي الذي يواجه السوريين في مصر كثيراً عن الحياة القاسية التي عاشوها في مناطق الحرب والصراعات.
فبالرغم من استقرار السوريين في مصر منذ أن رحلوا عن بلادهم بسبب الحرب، فإن الموت ظلَّ يشكل عبئاً ثقيلاً على الأسر المغتربة، حتى بعد أن جاؤوا إلى مصر هرباً منه.
إذ أصبحت هناك صعوبة في توفير مدافن خاصة بموتى جالية كبيرة كالجالية السورية، التي يُقدَّر عددها بمئات الآلاف في العاصمة المصرية والمدن الأخرى.
كبار أعضاء الجالية السورية يجمعون تبرعات لشراء مقابر لدفن الموتى
وفي ظلِّ التكافل الاجتماعي الذي يسود مجتمع اللاجئين السوريين في مصر، فإن العائلات ميسورة الحال تساعد الأسرَ الفقيرة في تدبير شؤون حياتهم.
ولذا يقوم كبار قيادات الجالية السورية والعائلات الغنية بشراء مقابر في أماكن مختلفة.
وبالفعل تم شراء قبور في مقابر منطقة البساتين ومدينة العبور، بجانب مدينة السادس من أكتوبر بمحافظة الجيزة، لدفن موتى أبناء جاليتهم دون مقابل.
والبعض يدفن ذويه لدى في مقابر بعض المعارف
ويتحدث نشوان عن لوعتة، بعد فقدانه ثلاثة من عائلته، بينهم ابنه الرضيع ووالده، خلال السنوات الأربع الماضية، منذ أن جاؤوا إلى مصر هرباً من الحرب الدائرة في سوريا.
ويقول بحسرة في حديثه لـ "عربي بوست": "لا نعاني فقط من ألم الفقدان في حال الموت، إذ سرعان ما نواجه مشكلة إيجاد مكان لدفن مَن فقدناهم".
وأضاف: "تُجمد جثامينهم بالأيام داخل المستشفى حتى إيجاد مقبرة لتُوارى أجسادُهم بها".
ويروي تجربته الخاصة المؤلمة قائلاً: "بعد وفاة طفلي عن عمر ناهز ثلاثة أشهر لجأت إلى أحد معارفي، فقدم لنا المساعدة، وسمح لنا بدفن الطفل في مدفن العائلة الخاص بهم".
وتابع: "ومع وفاة والدي، بعد ابني ببضعة أشهر لجأنا إلى أحد المراكز السورية في مدينة 6 أكتوبر، فوفَّر لنا مقبرة يُدفن بها السوريون هناك".
ودعا نشوان أحمد "الدولة المصرية إلى أن تخصص قطعة أرض غير صالحة للزراعة لدفن موتى السوريين فيها".
حتى المصريون يعانون من أزمة المقابر
وتشهد مصر ارتفاعا كبيراً في أسعار المقابر خلال العام الأخير، بنسب متفاوتة من 40% إلى 50%، التي يتراوح سعرها بين 50 إلى 100 ألف جنيه مصري.
وتختلف كل مقبرة أو حوش عن نظيرتها، من حيث عدة اعتبارات، أهمها الموقع والتشطيبات: "تشطيب اللوكس والسوبر لوكس، وغير المشطبة، ومن دون سور".
فقد تحوَّلت المقابر لتجارةٍ رائجة واستثمار، وهو ما أدى إلى ارتفاع أسعارها بشكل جنوني.
واليمنيون يواجهون مشكلةً أكبر بسبب طريقتهم في دفن موتاهم
لم يختلف الأمر كثيراً لدى اللاجئين اليمنيين في مصر، فالأمر ذاته تواجهه العائلات اليمنية المقيمة في مصر بعد الحرب الدائرة في بلادهم منذ ثلاث سنوات.
فبالرغم من وجود كثير من المقابر التي تبرَّع بها رجال أعمال وكبار العائلات لدفن أبناء الجالية اليمنية، فإن مأزقاً أكثر حدة يواجهونه بسبب اختلاف طريقة الدفن عن السوريين والمصريين.
فطريقة الدفن اليمنية تقوم على تخصيص قبر مستقل لكل ميت داخل المقبرة، ويمنع جمع الرفات مع أموات جدد في المكان نفسه إلا بعد سنوات.
وكان ثمة اتفاق بين حكومة اليمن وخطوط الطيران اليمنية، يقضي بأن تُنقل جثامين المتوفين في مصر إلى اليمن مجاناً، حيث كان تخرج نحو 13 رحلة طيران أسبوعيا من مصر لليمن.
لكن مع تصاعد حدة الحرب وإغلاق المطارات وتوقف رحلات الطيران بدأت مشكلة البحث عن مقابر لدفن الموتى في مصر.
والسفير اليمني السابق يطلق مبادرة لحل مشكلة المقابر
وأطلق سفير اليمن السابق، في مصر، الدكتور عبدالولي الشميري، مبادرةً لتوفير مقابر لليمنيين غير القادرين في مصر، لمواجهة مشكلة عدم وجود مقابر.
وذكر الشميري لـ"عربي بوست" أن "رجال أعمال وأعياناً من اليمن وفَّروا مقبرتين بمنطقة البساتين، لكنهما امتلأتا عن آخرهما، فاشتريا 3 مقابر جديدة بمدينة السادس من أكتوبر، حتى امتلأت أيضاً.
وقال إن "محاولة إعادة الجثمان إلى مسقط رأس المتوفَّى في اليمن باتت أمراً غاية في الصعوبة؛ نظراً لأن تكاليف النقل باهظة، لا يمكن حتى للعائلات الغنية تحمُّلها، إضافة إلى أن الطرق الداخلية في اليمن وعرة جداً وخطيرة، خلال الانتقال من مدينة إلى أخرى، فضلاً عن توقف رحلات الطيران".
وأضاف الشميري: "إننا أمام كارثة كبيرة، فالتبرّعات قليلة والمقابر أسعارها مرتفعة، وتمتلئ بسرعة".
وقال: "نأمل أن نتمكن من تخفيف معاناة أبناء الجالية الفقراء، الذين يعانون من ظروف معيشية قاسية في الحياة والموت".
وأضاف"أن لدينا معضلة كبيرة في طريقة الدفن اليمنية، حيث يجب أن يخصص لكل ميت قبر مستقل، بشاهد مكتوب عليه اسمه وتاريخ وفاته، وتُحفر القبور متجاورة داخل المقبرة، ولا يمكن أن يُجمع الرفات بعد ذلك ليدفن وافد جديد، لذلك تمتلئ المقابر سريعاً ولا تقبل المزيد".
والأزمات تطارد السودانيين حتى بعد أن دفنوا موتاهم
أما السودانيون فرغم أنهم يمتلكون مقابر في مصر منذ زمن، فإنهم تواجههم مشكلة أكبر بكثير.
أبوبكر حميدة جاء إلى مصر قبل ثلاثين عاماً، حيث يعمل مهندساً، ورفض العودة مرة أخرى إلى السودان واستقرَّ في القاهرة، حتى إنه جاء بأسرته ووالديه إلى مصر.
يقول بعد أن مات والدي ودفناه بمقابر الأراضى المملوكة للجمعيات السودانية، وكنا نزور قبره بشكل دوري ودائماً، فوجئنا بأن تلك القبور تتعرض للنبش باستخدام اللوادر وآلات الحفر الثقيلة، بعد أن أعلنت عن مزاد علني لبيع تلك الأراضي الموجودة في الجبل الأصفر، وتخصيصها لمشروعات استثمارية، على الرغم من ملكيتها للجمعيات السودانية منذ عشرات السنين.
وتابع حميدة روايته لـ "عربي بوست" قائلاً: "لقد حصلت الشركات الجديدة على مساحة من القبور، والجزء المتبقي ظلَّ في حيازة بعض الجمعيات السودانية الخيرية، التي تعاني حالياً من شدة الضغط على المقابر الموجودة فيها، بعد تقليص مساحتها إلى أقل من الربع، دون أن يكون لديها بديل آخر كإمكانية بناء مقابر حديثة أو شراء قطعة أرض جديدة في نفس المنطقة المخصصة لذلك".
وأضاف أن المشكلة الرئيسية التي تقع عند حدوث الوفاة هي تأخر عملية الدفن لعدة أيام، وبقاء الجثمان في ثلاجة المستشفى لحين إيجاد مقبرة "صدقة" تواري جسد المتوفَّى، خاصة لدى السودانيين الموجودين بجوار جمعيتي العاشر من رمضان والسادس من أكتوبر.
مقابر الأجانب والمغتربين تؤرخ للعصور التي مرت بها مصر
وتنضم مقابر اللاجئين السوريين واليمنيين والسودانين إلى عشرات المقابر الخاصة بالأجانب والمغتربين في مصر، التي تؤرخ لحقبات وأحداث تاريخية محلية وعالمية.
ويعد أكثرها شهرة مقابر "الكومنولث"، التي تنتشر في عدد من المحافظات المصرية، وتضم رفات الجنود الأجانب من ضحايا الحربين العالميتين الأولى والثانية، ومقابر اليهود بمنطقة البساتين "جنوبي القاهرة".
مقابر الالمان فى العلمين pic.twitter.com/2buGt11kTY
— MO7AMED 7assan (@MHHS73) July 22, 2015
ووفقاً لأحدث تقارير المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في مصر، بلغ إجمالي عدد اللاجئين المسجلين لديها 209.393 ألفاً حتى نهاية يوليو/تموز 2017، لكن تقديرات أخرى تذهب إلى أبعد من ذلك، بسبب عدم تسجيل كثير من اللاجئين لدى المفوضية.
وقدَّر الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي العدد بنحو 5 ملايين لاجئ، وذلك خلال كلمته أمام قمة اللاجئين بالأمم المتحدة، في سبتمبر/أيلول 2016.