كان الليل قد أسدل ستاره عندما دَفن أحمد سوادي والده الذي كانت جثته مُكفَّنة في الثوب الملطخ بالدماء بعدما أزهق المقاتلون روحه قبل ساعات فقط.
وخاطَر أقرباء سوادي وأصدقاؤه بحياتهم آنذاك بذهابهم إلى المدافن في شرق سوريا. إذ بدا صوت المدفعية ورصاص المدافع بين مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) والنظام السوري قريباً بدرجة خطيرة.
وبينما كان أقرباؤه وأصدقاؤه مجتمعين عند القبر الذي احتضن جثة والده للتو، أخبرهم سوادي بأنَّه سيلتزم بالتقليد القَبَلي المتمثل في عدم إقامة جنازة إلا بعد الأخذ بالثأر. وقال: "لن تُقام جنازة إلى أن يُقتَل القاتل". هذا ما حكاه سوادي لمراسل صحيفة the Wall Street Journal رجا عبدالرحيم.
في السنوات الأربع التي مرَّت منذ أن دفن سوادي والده، فقد أخاه، وترك قريته وبلاده. وبعد أن طارده تنظيم داعش إلى خارج البلاد، وحظرت قوات التنظيم السوري والقوات الكردية المدعومة من الولايات عودته إلى البلاد، يعيش سوادي، وهو شابٌ فتيٌّ يبلغ من العمر 30 عاماً، في إسطنبول منهمكاً في مهمةٍ ما.
يعمل سوادي -مدفوعاً بالسعي وراء تحقيق العدالة والانتقام- مع عشرات من المنفيين الآخرين وأشخاص باقين في سوريا لاقتفاء آثار قادة داعش الهاربين والكشف عن أماكنهم. وقبل عام واحد، أسست المجموعة مركز الفرات لمكافحة العنف والإرهاب، وهو مركز لتبادل المعلومات من أجل أن يستخدمها مسؤولو الاستخبارات أو المساعدة في إنفاذ القانون، لا سيما في تركيا وأوروبا.
نشرت المجموعة 23 ملصقاً مرفقٌ بها صور المطلوبين المشتبه بهم، وآخر موقع معروف شوهدوا فيه، وبعض جرائمهم المزعومة. قال سوادي إنَّ سلطاتٍ مختلفة ألقت القبض على 11 شخصاً منهم، وهو ادعاء يصعب التحقق منه. تستند الادعاءات إلى سنوات انقضت في جمع أرشيف مكون من مقاطع فيديو وصور وتصريحات الشهود حول عمليات إعدام علنية، واستعباد جنسي، وجَلد، وسرقة الممتلكات.
ملاحقة المجرمين ومحاسبتهم
فرَّ الكثيرون من قادة داعش من المناطق التي أعلنتها الجماعة أراضي للخلافة امتدت عبر مناطق من سوريا والعراق. قال الكولونيل شون رايان، المتحدث باسم التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد داعش، إن العديد منهم هربوا بثروات مسروقة تاركين وراءهم مقاتلين ذوي رتب منخفضة. ويُقال إنهم يختبئون على أنهم لاجئين وسط أولئك الأشخاص الذين أرهبوهم من قبل بتفسيرهم الوحشي للإسلام.
وصحيحٌ أنَّ الحرب السورية المستمرة منذ ما يقرب من 8 أعوام أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 400 ألف شخص وتسبَّبت في نزوح الملايين. إلا أنه لم تحدث إلى الآن أي مقاضاة شاملة للنظر في جرائم الحرب أو انتهاكات حقوق الإنسان المزعومة ضد داعش أو النظام السوري لبشار الأسد أو غيرهم في الصراع السوري متعدد الأطراف.
في ظل غياب هذه المحاسبة، يسعى سوادي وفريقه من المحققين الهواة وراء تحقيق قضائهم الخاص، مع أنَّهم يبدون مترددين أحياناً حيال وجوب صدور العقوبات من المحاكم أو تنفيذها خارج نطاق القضاء.
في العام الماضي 2017، قُتل أحد المقاتلين المزعومين في شمال سوريا بعد نشر صورة الرجل ضمن الأشخاص المطلوب اعتقالهم على شبكات التواصل الاجتماعي، وفقاً لصهيب جابر، مصمم الغرافيك لكثير من ملصقات المجموعة على الإنترنت، الذي قال: "لمَ علينا أن نكترث؟"، إذا اغتِيل أحد المقاتلين الفارين.
وقد تم الإبلاغ عن عمليات قتل انتقامية أخرى في سوريا، والرقم آخذ في التصاعد. إذ قالت بلقيس جرَّاح، كبيرة مستشاري برنامج العدالة الدولية في مؤسسة هيومن رايتس ووتش: "في ظل غياب المساءلة والمحاكمات العادلة والنزيهة، تصير الرغبة في العقاب باتباع الطرق القانونية غير كافية. والتغاضي عن الإفلات من العقاب من شأنه أن يسهم في دورات عنف متجددة".
يقضي سوادي معظم وقته في مطعم في إسطنبول يقدم الطعام السوري، وعادةً ما يعمل طوال الليل في إجراء المكالمات وإرسال رسائل نصية عبر هاتفه الذي يصدر نغمة مع كل معلومة واردة جديدة.
ينظر سوادي ومساعدوه، ومعظمهم من محافظة دير الزور في سوريا، إلى كل مطاردة باعتبارها أمراً شخصياً. إذ قال إنَّ "كل فردٍ من أفراد المجموعة فقد أحد أقربائه".
ومن بين أولئك الذين لا يغفل عنهم سوادي اثنان: أحدهما الذي أطلق الرصاص على والده فقتله، والآخر هو أحد قادة داعش شاهد سوادي جرائمه الوحشية بنفسه في دير الزور.
أخيراً، تمكن في العام الجاري من تقفِّي أثر أحدهما.
القرية الضائعة
كان سوادي يعمل مديراً لفندق فور سيزونز في العاصمة السورية دمشق عندما بدأت المظاهرات المناهضة للنظام السوري عام 2011. وانضمَّ آنذاك إلى متظاهرين آخرين طالبوا في البداية بالإصلاح، ثم بإطاحة الأسد بعدما لاقت احتجاجات الشوارع رداً وحشياً من النظام.
أُلقي القبض على سوادي واعتُقل شهوراً. كان والده تاجراً للمواشي في دمشق ولطالما حثه على النأي بنفسه بعيداً عن الانتفاضة.
ومع تفاقم الصراع، عاد سوادي إلى بيته في دير الزور حيث بدأ في توثيق أعمال العنف شأنه في ذلك شأن غيره من السوريين. وسجل مقاطع فيديو تعرض كيف كان يلقى المدنيون حتفهم إثر الضربات الجوية التي كان النظام يشنها على المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضين للنظام.
ثم ظهر تنظيم داعش في سوريا عام 2013، واستغل الأزمة المتنامية التي كانت البلاد تعيشها آنذاك. وسبَّب مقاتلوه دماراً كبيراً في المناطق التي كانت خاضعة لحكم قوات المعارضة، بما في ذلك شرق سوريا. وسرعان ما ضرب جذوره في دير الزور.
طلب سوادي من والده البقاء في دمشق، بيد أنَّ والده عاد في ربيع عام 2014 إلى دير الزور لزيارة والدته المسنة.
وإبان زيارة الوالد، ضرب مقاتلو التنظيم الجانب الغربي من قرية طابية التي ينتمي إليها أسلاف عائلته. وفرَّ معظم السكان إلى النصف الشرقي، لكنَّ جدة سوادي كانت من ضمن أولئك الذين أبوا أن يتركوا منازلهم.
وفي إحدى الليالي، ذهب الوالد لتفقد أحوال الجدة ظناً منه أن المقاتلين قد انسحبوا. لكن بعد ساعات قليلة، عُثر على جثة والده وآخرون على طريق ريفي. إذ لقي أكثر من 10 من سكان القرية حتفهم آنذاك.
بدأ سوادي في التحقيق في مقتل والده. وأخبره أحد رعاة القرية بأنه شاهد حادثة إطلاق الرصاص وتمكن من التعرف على ثلاثة من المهاجمين من قرية مجاورة. أطلق الرجال النيران على الأشخاص المغدورين في الشارع من على سطح منزل بينما كان شخص رابع ينتظرهم في سيارة، بحسب ما قاله الراعي.
وفي وقتٍ لاحق، سمع المقاتلون يتفاخرون بالهجوم على آخرين من قريتهم، قائلين إنهم تخلصوا من مرتدين عن الدين.
تمكّن سوادي من تحديد هوية الرجل الذي يظن أنه قتل والده، استناداً إلى تقرير عن السلاح الذي حمله القناص. وقد تعزَّز يقينه عندما زار شيوخ قرية المقاتلين أعمام سوادي وعرضوا عليهم أموالاً لتسديد دية والده.
الدم بالدم
في التقاليد القبلية، تُدفع أموالٌ إلى عائلة الضحية لتسوية الخلاف الناجم عن قتل أحد الأشخاص. رفض أعمام السوادي المال ووجهوا الشيوخ إلى التحدث مع سوادي وإخوانه. بيد أن سوادي وعائلته لم يجنحوا إلى المسامحة.
بعد شهرين من وفاة والده، في أغسطس/آب من عام 2014، اشتبكت قبيلة الشتات، وهي إحدى أكبر قبائل مدينة دير الزور، مع داعش. ورداً على ذلك، هاجم مقاتلو التنظيم حقول النفط التي تسيطر عليها القبيلة، فأعدموا عشرات من العمال وقصفوا العديد من القرى، وفقاً للجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن الجمهورية العربية السورية وجماعات حقوق الإنسان. ولقي ما يُقدر بـ700 شخص حتفهم، من بينهم نساء وأطفال.
قال شهودٌ بعد ذلك إن أحد قيادات داعش، ويدعى كاسر الحداوي، شارك في قصف القرى وإعدام المدنيين. قال سوادي إن الحداوي كان واحداً من أوائل المواطنين السوريين الذين انضموا إلى داعش.
خلال الأيام الأولى القليلة من هجوم داعش، تسلل سوادي وآخرون ليلاً لتوثيق المذبحة والتقطوا صوراً وصوّروا مقاطعَ فيديو. ووجدوا الكثير من الجثث التي قُطعت رؤوسها ونُحرت أعناقها على أيدي الجماعة.
قال سوادي: "لقد حملنا الرؤوس بأيدينا".
وما لبث أن فر إلى تركيا بعد مدةٍ وجيزة من ذلك.
عدالة غائبة وآليات محاسبة سيئة
يظل تحقيق العدالة لضحايا لحرب السورية هدفاً بعيد المنال. ثمة حوالي 20 قضية أو تحقيقاً تنظر فيها المحاكم في البلدان الأوروبية.
وتضم لائحة المتهمين النظام السوري وداعش وبعض قوات المعارضة السابقة. لم تسفر القضايا إلا عن حفنة من الإدانات لمرتكبي الجرائم الصغرى، ولم يُدان أي أحد من الذين أمروا بارتكاب جرائم الحرب. لكنَّ تلك المحاكم الوطنية تواجه تشكيكاتٍ إزاء سلطتها القضائية، فضلاً عن صعوبة تجميع الأدلة من منطقة حرب بعيدة.
إذ غالباً ما يُحتجز مقاتلو داعش الذين يُعتقلون في سوريا لدى الأكراد المدعومين أميركياً، والذين ليس لديهم سوى سلطة محدودة لمقاضاتهم.
قالت كاثرين مارشي أويل، وهي قاضية سابقة في فرنسا: "قد يكون السيناريو المثالي هو إطار يجمع بين المحاكم الدولية والإقليمية والوطنية، كل منها يتولى دوراً في عملية المساءلة. وهذا ليس ما نشهده في الوقت الحالي". وترأس كاثرين حالياً الآلية الدولية المحايدة والمستقلة التابعة للأمم المتحدة، وهي لجنة تحقيق أُنشئت في عام 2016 للتحقيق وإعداد الدعاوى لأخطر القضايا في الصراع السوري.
وقالت كاثرين إنَّ الكثيرين لن يتعرضوا للمساءلة القضائية بالنظر إلى عدد الجرائم الهائل.
قاتل ولده تسلل إلى تركيا والمخابرات تلاحقه
بعد وفاة والد سوادي، هاجرت بقية عائلته من الدرجة الأولى إلى أوروبا، باستثناء ابنه الأصغر علي الذي عاد إلى سوريا للانتقام لوالده على طريقته الخاصة. انضم الشاب البالغ من العمر 18 عاماً إلى قوات المعارضة التي تقاتل داعش. وفي أواخر العام الماضي، كانت آخر معاركه التي قُتل فيها.
قال سوادي: "أعلم أنه ضحى بحياته من أجل والدي".
في يناير/كانون الثاني، كان سوادي على وشك الصعود على متن طائرة عندما تلقى رسالة من مصدر متأصل في أراضي تنظيم داعش مفادها أنَّ الحداوي، قائد داعش الذي شارك في قصف المدنيين في دير الزور، تسلَّل خلسةً من إحدى القرى التي يسيطر عليها المقاتلون.
وفي تلك الليلة، كانت صورة الحداوي، الذي ترقَّى ليصبح ملازماً لدى أبوبكر البغدادي قائد التنظيم، على ملصقات المطلوبين من مركز الفرات وكُتب عليها "مجرم حرب".
قال المصدر إنَّ الحداوي دفع نقوداً لمهربين من أجل نقله عبر الطرق الخلفية الريفية في صحراء سوريا للهروب من نقاط التفتيش التابعة للقوات المسلحة المدعومة من الولايات المتحدة. وفي مارس/آذار، وصلت أخبار إلى سوادي بأنَّ الحداوي موجودٌ في مدينة غازي عنتاب التركية.
وفي غضون ساعات، حدَّث سوادي موقع الحداوي على ملصق المطلوبين.
وقال مسؤول تركي إنَّ عملاء المخابرات التركية المشرفين على موقع مركز الفرات شاهدوا قائد داعش في مدينة غازي عنتاب، لكنَّ السلطات لم تتمكن من تحديد موقعه.
ثم ظهر الحداوي بعد شهر في مدينة إزمير، التي كانت في وقتٍ ما مركزاً مزدحماً بالمهاجرين واللاجئين الساعين إلى العبور بطريقة غير قانونية إلى أوروبا. وناقش سوادي أمر تحديث ملصق المطلوبين أم لا، خشية أن يأخذ المقاتلون حذرهم.
ومن ناحية أخرى، سمعت وكالة الاستخبارات التركية عن رجل يائس في إزمير، ربما يكون مقاتلاً هارباً، قدم مبالغ كبيرة للمرور على متن قارب إلى اليونان. وقال مسؤولون أتراك إن الوكالة لديها شبكة من المخبرين تضم مهربين ولاجئين للمساعدة في وقف الهجمات الإرهابية.
وفي أبريل/نيسان، داهمت المخابرات التركية وشرطة مكافحة الإرهاب منزل أحد المهربين وأخذت الحداوي إلى الحجز.
وبعد أسابيع من اعتقال الحداوي، بدأ سوادي يتلقى تهديدات من حساب مجهول على تليغرام. وتقول إحدى الرسائل: "الثأر قريب منك والبركان الثائر جاهز لإحراقك". ثم تعرَّض حسابه على تليغرام للاختراق وكُشفت جميع جهات الاتصال الكثيرة لديه، بحسب ما قال سوادي.
رغبة مستمرة في الانتقام
أحياناً ما تطلب منه زوجته أن ينسى الأمر. وتلح عليه والدته التي تعيش في ألمانيا مع 6 من إخوانه للانضمام إليهم. وقال في حديثه عنها: "لقد فقدت زوجها وأحد أبنائها ولا تريد أن تفقد آخر".
وفي العام الماضي، سمع سوادي عن العديد من العزاءات المتأخرة لضحايا داعش، التي أُقيمت بعد التيقن من قتل مهاجميهم. وقال إنه ينتظر فعل الشيء ذاته من أجل والده، معرباً عن أمله في أن يأخذ أفراد عائلته الباقين في سوريا بثأره.
وقال: "لو كنت في سوريا لكنت أطلقت عليه النار بنفسي".
ويشير سوادي إلى أنَّه من المعتقد أنَّ اثنين على الأقل من المتواطئين في قتل والده لقيا حتفيهما في معارك ضد المقاتلين الأكراد المدعومين من الولايات المتحدة.
وفي ظل استعداد التحالف المدعوم من الولايات المتحدة للاستيلاء على آخر ما تبقى من أراضي داعش في شرق سوريا، ينتاب سوادي القلق من أن الجيش قد يحول دون انتقام العائلة.
وصحيح أنَّ شهوراً قد مرَّت منذ أن تلقى سوادي خبراً عن رؤية الرجل الذي يظن أنه قتل والده، لكنَّه يعتقد أنَّه موجودٌ في مدينة هجين، التي تعد إحدى آخر المدن الواقعة تحت سيطرة المقاتلين.
وقال: "سأعثر عليه وإن كان مختبئاً، حتى لو بعد عام أو عشرة".