الساعة الخامسة فجراً في مكة، آلاف الحجاج ينتظرون الأذان لصلاة الفجر، بينهم داعيةٌ في الأربعين من عمره، وكان حوله نحو مائتين من أتباعه.
استغل الداعية وأتباعه ظلام الفجر، فأدخلوا إلى المسجد الحرام مجموعة من النعوش، ثم خرجوا ينتظرون النداء للصلاة.
بعد الأذان اندلع شجار..
وأبعد الداعية "جُهيمان العتيبي" وأتباعه الإمام عن مكبّر الصوت، واستولوا عليه. كانت الخطوة التالية هي الكشف عمَّا بداخل النعوش التي أدخلوها معهم، والمفاجأة كانت احتواءها على مجموعة كبيرة من الأسلحة اليدوية والبنادق الحربية.
بدأ الناس في الصلاة، وفي أثناء ذلك انشغل أتباع جُهيمان بتوزيع السلاح والانتشار به عند أبواب المسجد وفي جنباته. كان ذلك في 20 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1979.
المهدي المنتظر قد ظهر!
"المهدي المنتظر قد ظهر"، هذه هي الرسالة التي قدمها جهيمان وأتباعه للحجاج والمصلين في المسجد الحرام. المهدي المنتظر هو المخلِّص الذي سيأتي في آخر الزمان ليملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعد أن ملئت جوراً وظلماً، وهو ما بشَّرت به أحاديث نبوية.
تم الإعلان عن ظهور المهدي المنتظر عبّر مكبرات الصوت، وتمّت مبايعته بين الركن والمقام بالحرم المكي، وهي من العلامات التي ذكرت الأحاديث أنها ستميز المهدي المنتظر، بالإضافة إلى أنه لا يطلب المبايعة، إنما يأتيه الناس مبايعين.
انطلق الصوت قائلاً:
"فاعلموا -أيها المسلمون- أنه قد انطبقت هذه الصفات كلها على شخص بينكم الآن. يا إخوان، اجلسوا وانتشروا بين الرّكن والمقام، يا إخواننا انتبهوا لتسكين الأمر، يا أحمد اللهيبي اطلع السطوح، ومن رأيته يتمرد على البيبان فأطلق عليه النار".
بعدها أحكم جهيمان العتيبي الداعية السلفي، وأتباعه سيطرتهم على المسجد الحرام في مكة خلال ساعة واحدة.
صديقان التقت أفكارهما وتسببا في الفاجعة
قائدهم هو جهيمان العتيبي الذي وُلد عام 1936، ونشأ في منطقة شمال مدينة الرياض. سار جهيمان على خُطا والده، فقبل 50 عاماً من حادثة اقتحام جهيمان وأتباعه الحرم، قاتل والده إلى جانب رجال القبائل من "إخوان من أطاع الله" ضد الملك عبد العزيز بن سعود، مؤسس المملكة، في معركة السبلة.
كان جهيمان يُعرف باسم أبو محمد، وقد بدأ حياته المهنية موظفاً عادياً في الحرس الوطني السعودي مدة 18 عاماً، منذ عام 1955.
في عام 1973، ترك الجيش وانتقل إلى المدينة المنورة، حيث درس في الجامعة الإسلامية والتقى الشخصَ الذي سيمثل أساس دعوته فيما بعد: محمد بن عبد الله القحطاني.
بدأ كلٌّ من جهيمان والقحطاني في نشر أفكارهما المشتركة ببعض المساجد الصغيرة في المدينة، وكوّنا جماعة أطلقوا عليها اسم "المحتسبة" وأصبح تعدادها بالآلاف، ومن بين أعضائها المؤثرين: ناصر بن حسين وسليمان بن شتيوي وسعد تميمي وجهيمان العتيبي.
لكن القوة الداخلية التي تميّز بها جهيمان، وطموحه إلى القيادة، جعلا منه القوة المحركة للمجموعة.
مهرب مخدرات سابق
يردد بعض المقربين منه والذين استعانت بشهادتهم شبكة "BBC" في فيلمها الوثائقي عن حصار مكة، ومنهم أسامه القوصي، طالب علم ديني مصري، أن جهيمان كان في بداية حياته يهرب بعض الأشياء إلى داخل المملكة العربية السعودية ومنها المخدرات، لكنه توقف عن ذلك والتزم بمبادئ الدين، وجذبته تعاليم الأئمة السلفيين، وأصبح جهيمان واحداً من الشخصيات الهامة في الدعوة السلفية.
ضاق جهيمان وأتباعه ذرعاً بما اعتبروه بدعاً وتجاوزات دينية انتشرت داخل المجتمع السعودي في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، فلم تكن يروق لهم مساعي التطوير والتحديث التي اعتمدها الملك عبد العزيز منذ اكتشاف حقول النفط، فرأى جهيمان وأتباعه أن تلك المساعي تلهي الناس عن صحيح دينهم، ولا تجعلهم خالصين لتعاليم الإسلام.
لم يكن التطوير الذي يعترضون عليه سوى إدخال التليفون اللاسلكي والبرقي، وظهور المرأة على شاشات التلفزيون، فنبذوا كل من يؤيد من داخل المؤسسة الدينية تلك التغييرات الحديثة عليهم.
كل هذا دفع جهيمان لاعتقاد أن الحكام في السعودية لا يستحقون الطاعة، وأنه يجب استعجال ظهور المهدي المنتظر، حتى تتم العودة إلى دين الله الخالص. كان جهيمان هو صاحب فكرة أنه يجب ظهور المهدي المنتظر من أجل الخلاص مما لا يروق لهم.
المهدي لم يكن مقتنعاً بكونه المهدي!
وبالفعل، وجد الشخص الذي سيكون هو المهدي، ولم يكن هذا الشخص إلا محمد بن عبد الله القحطاني صديقه الصدوق. كان القحطاني حينها شاباً في الخامسة والعشرين من عمره تقريباً، يشبه باسمه اسم النبي محمد كما جاء في الأحاديث، وبهيئته هيئة المهدي كما وُصف في بعضها أيضاً.
لم يكن الأمر مقنعاً حتى بالنسبة للقحطاني نفسه، لكن بحسب شهادة المقربين، تواترت الرؤى المنامية التي يراها المنضمون إلى الجماعة ومَن هُم خارجها أيضاً على أن القحطاني هو المهدي المنتظر.
وعلى مدى شهرين ظل يدرّب أتباعه استعداداً لمبايعة المهدي، وبالفعل تحقق كل ما خطط له.
غياب الخبرة الأمنية السعودية أطال مدة الحصار
لم يكن الأمن السعودي بعدُ مدركاً أبعاد ما يحدث، وكانت الاستجابة السعودية بطيئة، بسبب غياب أفراد مهمين من العائلة المالكة لسفرهم إلى الخارج، كذلك مرض الملك خالد آل سعود، بالإضافة إلى انعدام أي معلومات استخباراتية تخص الواقعة.
وظن الأمن في البدء، أنه أمام حادثة تخص الإخلال بالأمن في الحرم، لكن بمجرد دخول دوريات الشرطة التي أُرسلت إلى المسجد أُمطرت بوابل من الرصاص.
هنا أدرك الأمن السعودي خطورة الوضع، لم يمنعهم هذا في اليوم الثاني من إصدار بيان رسمي بأن المسجد تعرّض لاختلال أمني بسيط تم إخماده. لكن الوضع كان مختلفاً على أرض الواقع، فقد بلغت المعركة أوجها ظهيرة اليوم الثاني من حدث الاقتحام، فبدأت الطائرات الحربية تنتشر في سماء الحرم، وطُوِّق الحرم بنحو 2000 جندي من الأمن السعودي، أدّى ذلك بالمسلحين إلى التجمع في القبو الأرضي بالحرم، فحرقوا السجاجيد وإطارات السيارات المطاطية، لتشكيل سحب كثيفة من الدخان ودهن بعضهم وجهه بالسواد.
قتالٌ متبادل وقنابل غاز حسمت الأمر
كان المسلحون يحتمون بالأعمدة قبل أن ينقضّوا من خلفها لمهاجمة جنود الأمن الذين بادلوهم الطلقات النارية، بعد أن حصلت الحكومة السعودية على فتوى شرعية بإطلاق النار على محتلي الحرم المكي، ثم تم الاتفاق مع قوات فرنسية لوضع مخطط لاقتحام الحرم والسيطرة على الوضع.
خلال القتال، قيل إن القحطاني قد أصيب، وقيل أيضاً إنه قد مات، ما شكك بعض المتيقنين بكونه المهدي المنتظر في يقينهم هذا. ورغم ذلك تمكن جهيمان من إقناع رجاله بالمضي قدماً في القتال، وهو ما حدث بالفعل وتحوَّل الحرم إلى ساحة قتال مدة 15 يوماً؛ ما أدّى إلى نفاد طعام المسلحين وذخيرتهم.
تدخَّل الفرنسيون مستخدمين قنابل الغاز الخانق، التي تسببت في إصابة المسلحين بعمى مؤقت، ما سمح لقوات الأمن السعودية باختراق المسجد الحرام، وقامت القوات السعودية بإلقاء قنابل يدوية بشكل عشوائي، وهو ما أسفر عن مقتل عدد من المدنيين والأفراد العسكريين والمتمردين. ثم خرجت أول مجموعة من المسلحين تائهين في نوبة سعال حادة.
وأعلن جهيمان الاستسلام وأعطى أوامره بإلقاء السلاح، بعد أن نفد الطعام والذخيرة، وخنقهم الغاز، فألقى الأمن السعودي القبض على جهيمان وأتباعه، ونُقل إلى أحد فنادق مكة، لكي تصوره الصحافة، كما نشرت السلطات السعودية صورة لقتيل قالوا إنه هو المهدي المدّعى.
الخسائر التي أسفرت عنها عملية الاقتحام كانت ما يقرب من 255 قتيلاً، وفقاً للبيان الرسمي السعودي، وهو الرقم الذي شكك فيه المراقبون، مرجحين أن الرقم يزيد على هذا، حيث أشارت بعض المصادر إلى أن عدد القتلى تجاوز 1000 قتيل.
ووفقاً للتقدير السعودي الرسمي، كان هناك نحو 127 قتيلاً من القوات السعودية، و117 من المسلحين و26 من المدنيين، بالإضافة إلى 450 جريحاً من أفراد القوات السعودية، وتلفيات واسعة في الحرم استغرقت شهوراً لإصلاحها.
بعد ما يزيد على شهر من تاريخ الهجوم، أعدمت السلطات السعودية علناً نحو 63 من المتمردين، إذ أصدر الملك خالد بن عبد العزيز الأمر رقم 4207/2، الذي ينص على إعدام على من تم اعتقالهم من أفراد عصابة جهيمان.
وشملت أوامره تنفيذ الإعدام في عدد من المحافظات المختلفة، وبالفعل نُفِّذ القرار بتقسيم المعتقلين المحكوم عليهم بين مكة والمدينة والرياض والدمام وتبوك، وكان جهيمان العتيبي هو أول من أُعدم، في يوم 9 يناير/كانون الثاني عام 1980.