ادَّعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قبل أقل من شهر، أن بلاده هي الأحق بحمل لواء العولمة. ففي خطاب ألقاه أمام 60 من قادة العالم عند قوس النصر، امتدح ماكرون الأمم المتحدة، وأعلن أن القومية "خيانة" للوطنية.
السبت 1 ديسمبر/كانون الأول، كان الغاز المسيل للدموع والحجارة يتطايران في هذه المنطقة نفسها، الكائنة بالعاصمة الفرنسية باريس، عندما شوَّه المحتجون النصب التذكاري الشهير، وطالبوا حكومة ماكرون المحاصرة بإلغاء زيادة مقترحة على ضرائب الوقود. تراجع الرئيس الفرنسي عن قراره لأول مرة في حقبته الرئاسية، وكانت هذه لحظةً مهينةً لخصوم الثوار الشعبويين الذين خرج من بينهم دونالد ترمب.
حسب تقرير وكالة Bloomberg الأميركية، واجهت أوروبا العديد من المنعطفات الحرجة في الأعوام الأخيرة، بدءاً من أزمة الدين اليوناني، ومروراً بردود الفعل العنيفة المعادية للهجرة ضد اللاجئين، ووصولاً إلى التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكسيت). غير أنها نادراً ما شهدت موقفاً تحوم فيه العديدٌ من صقور السياسة حول فريسةٍ واحدةٍ ممثلةٍ في أحد القادة العالميين، وبصورةٍ تحمل هذا القدر من الخطر على النظام العالمي.
تعبث بولندا مع اليمين المتطرف، وتُدبِّر الأحزاب القومية التي يتملَّقها رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان مؤامرةً في انتخابات البرلمان الأوروبي، المنعقدة في شهر مايو/أيار. وفي غضون ذلك، اصطدمت إيطاليا بالاتحاد الأوروبي من خلال اتخاذ موقف تحدٍّ فيما يتعلَّق بنفقات الميزانية.
ميركل.. جندي الإطفاء في الاتحاد الأوروبي لن تترشح مجدداً
نظراً إلى أن أنجيلا ميركل، التي يمكن وصفها بجندي الإطفاء في الاتحاد الأوروبي تخطط لعدم الترشح مجدداً لمنصب المستشارة الألمانية، كان من المفترض تسليم عصا القيادة إلى ماكرون، من أجل الحفاظ على الديمقراطية الليبرالية. لكن قوة ميركل على الساحة العالمية كانت ترتكز على حصنٍ سياسي في البلاد، أما القائد الفرنسي فيبدو أن أقدامه قد زلّت بعد ثبوتها، مما لا يسمح له بالاضطلاع بذلك الدور.
قال نيكولاس دونغان، الباحث الكبير في مؤسسة Atlantic Council البحثية، الواقع مقرها في باريس: "لا يمكنك إلقاء الخطابات التي تتناول الدفاع عن النظام العالمي عندما تكون شعبيتك 20% والمحتجون في الشوارع. يصعب جداً استعادة مصداقيتك".
وإنه لَتناقض صارخ عما شهدته عطلة الأسبوع التي وافقت الحادي عشر من نوفمبر/تشرين الأول، عندما احتفل قادة العالم بمرور قرن على نهاية الحرب العالمية الأولى. أيَّد ماكرون الحاجة إلى التعاون العالمي، فيما بدا ترمب شخصاً معزولاً. اتضحت الانقسامات في أوروبا في ذلك اليوم الذي سار فيه مسؤولو الحكومة البولندية في العاصمة البولندية وارسو، مع الجماعات اليمينية المتطرفة، للاحتفال بعيد استقلال بولندا. بالرغم من ذلك، وقف ماكرون صامداً باعتباره رجل الدولة بالنسبة لأوروبا.
أظهرت الصور المنقولة على شاشات التلفزيون في جميع أنحاء العالم، خلال عطلة الأسبوع الماضي، سياراتٍ محروقة في العاصمة الفرنسية. وكان تراجع القائد الفرنسي ذي الأربعين عاماً محل سخرية من جانب ترمب. اعترف ماكرون، من خلال رئيس وزرائه، أنه ليس قادراً على التواصل مع الشعب الفرنسي. قال رئيس الوزراء الفرنسي إدوار فيليب في خطابٍ متلفز: "ما مِن ضرائب تستحق أن تُعرِّض وحدة أمتنا لأيِّ خطر".
قال دونغان إن المشكلة التي تواجه خصوم النزعة الحمائية الوطنية لترمب تكمن في عدم وجود أي شخص آخر قادر على الاضطلاع بالدور المنوط به.
بعد أن انتُخِبَ ماكرون، في مايو/أيار 2017، سعى إلى العمل مع ميركل ومع حكومة صديقة في روما، من أجل تعميق التكامل الأوروبي. وتواصل مع ترمب لإقناعه بالالتزام بالاتفاقيات الدولية.
تجاهل ترمب مناشداته وانسحب من الاتفاق النووي مع إيران، ومن اتفاق باريس للمناخ. غرَّد ترامب قائلاً إن تراجع ماكرون عن فرض ضريبة كانت ستؤدي إلى رفع أسعار الوقود، كان دليلاً على أنه كان محقاً طوال الوقت.
الرياح السائدة
في غضون ذلك، أُنهكت ميركل خلال الانتخابات الألمانية، التي أُقيمت في سبتمبر/أيلول 2017. وقد حلَّت أنغريت كرامب كارينباور رسمياً يوم الجمعة محل ميركل في منصب رئاسة حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي. بالرغم من أن كارينباور حليفة لميركل، فإن وجودها على رأس الحزب يعزز من احتمالية أن تكون الحقبة الحالية هي الأخيرة لها. انتخبت إيطاليا حكومةً من المتشككين في أوروبا وهويتها الجمعية، خلال شهر مارس/آذار.
قال فيليب مورو ديفارجس، وهو مستشار في معهد الشؤون الدولية في باريس: "تعرَّض طموحه من أجل أن تكون أوروبا قويةً لضربةٍ فعليةٍ من الأحداث في ألمانيا ومناطق أخرى، لكنه ظهر ضعيفاً للغاية بسبب الأحداث الأخيرة. لم يظهر على المستوى المطلوب، وتعرَّضَت صورة فرنسا لصفعةٍ رهيبة".
كانت شعبيته داخلياً في أفول، بسبب فشل تغييراته المبكرة غير المحبوبة التي أجراها على قوانين العمل والضرائب، من أجل إنعاش الاقتصاد الفرنسي. يُنظر إلى سياسات ماكرون على أنها تفضل الأثرياء، فضلاً عن أن استطلاعاً تلو الآخر أظهر أن الكتلة الانتخابية تعتقد أن ماكرون -وهو مصرفي سابق- منعزلٌ ومتغطرس. وصلت نسب قبوله بين أوساط الشعب إلى 28%، حسب متوسط نتائج استطلاعات الرأي التي أجرتها سبعة معاهد.
ثم جاءت حركة "السترات الصفراء". تعود جذور احتجاجات هذه الحركة إلى معارضة سياساته البيئية المعتمدة على رفع الضرائب على الديزل والبنزين، لتمويل مبادرات تحفز على شراء السيارات النظيفة ونظم الإسكان. لكن الأمر تطوَّرَ إلى حالةِ غضبٍ واسعة بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة وتدهور الخدمات في الريف والمدن الصغيرة في فرنسا.
توسَّعَت مطالب المحتجين نتيجة لذلك. يطلب البعض إعادة ضريبة الثروة، وزيادة المعاشات، ورفع الحد الأدنى للأجور، وخفض رواتب الساسة، بل واستقالة ماكرون وأن "مجلس شعبٍ" محل الجمعية الوطنية الفرنسية الحالية. تُظهِر الاستطلاعات دعم 75% من الشعب الفرنسي لهذه المطالب، حتى إذا كانوا يرفضون العنف الذي صاحب كثيراً من الاحتجاجات.
استُشعِرَت الآثار كذلك في سوق السندات، إذ إن العائد على الأوراق المالية الفرنسية مقارنةً بألمانيا وصل إلى أعلى مستوى له منذ انتخاب ماكرون، إذ تُشكِّل هذه الارتفاعات مقياساً للمخاطر السياسية.
لا ينتظر ماكرون انتخاباتٍ وطنية قبل 2022، ولطالما قال إنه لا يكترث بالاستطلاعات حول الشعبية. سوف تقدم أحزاب المعارضة الفرنسية طلباً لسحب الثقة من الحكومة الحالية، الإثنين 10 ديسمبر/كانون الأول. ولا يُرجَّح أن يُحدِث ذلك فارقاً كبيراً.
لكن الانتخابات الأوروبية وسلسلةً من التصويتات على مستوى الأقاليم والبلديات تُعقَد خلال العامين القادمين قد تُمهِّد الطريق أمام استفتاء على سياساته، حسبما يقول أنطونيو باروسو، وهو محلل في الشركة الاستشارية Teneo Intelligence التي تبحث في المخاطر السياسية.
قال باروسو: "لعل انتخابات البرلمان الأوروبي هي التي ستحدد ما إذا كان ماكرون سيمتلك مساحةً سياسيةً كافيةً لتطبيق مزيد من الإصلاحات، وهي ما يُرجح أن تُفسَّر على أنها "تصويت نصفي" على رئاسته".
معزول
حتى بعد أن تراجع ماكرون عن فرض ضرائب على الوقود، قالت حركة السترات الصفراء إنها لن تزيل حواجز الطرق، ولن تنهي الحصار. بالرغم من عدم امتلاكها للصورة التنظيمية الرسمية التي لدى حركة النجوم الخمس الإيطالية الشعبوية، لا يزال الزخم حليف السترات الصفراء. فقد انتشرت عدوى الاحتجاجات في بلجيكا وهولندا.
قال مارك لازار، الأستاذ في معهد الدراسات السياسية بباريس، إن أغلب أعضائها سوف يصوتون إما لصالح الجبهة الوطنية المعادية للهجرة التي ترأسها مارين لوبان، أو حركة فرنسا الأبية اليسارية المتطرفة، التي يتزعمها جان لوك ميلونشون. هزم ماكرون قائدي الحزبين في العام الماضي، وكلاهما ينتظر إلى فرصة للوصول إلى السلطة. غير أن القلق الذي ربما يجب أن يعتري الاتحاد الأوروبي أن كلا من القائدين ليس مدافعاً عن تكامل الكتلة الأوروبية.
إذ إن أي تقدم يحققه هذان الحزبان في الانتخابات الأوروبية التي تُعقَد في مايو/أيار، سوف يصعِّب الأمر على ماكرون من أجل أن يمضي قدماً بخططه: سواء المتعلقة بفرنسا أو ما وراءها. قال لازار: "يخرج ماكرون من هذا أكثر ضعفاً وعزلةً، سواء داخل فرنسا أو في أوروبا".