كشفت مجلة The American Conservative، الأربعاء 5 ديسمبر/كانون الأول 2018، عن تفاصيل مثيرة متعلقة بالأوضاع في اليمن بين الجنود السودانيين وقادتهم السعوديين والإماراتيين، بعدما توقفت أبوظبي والرياض عن صرف الرواتب.
وبحسب المجلة الأميركية، فإن هناك حالة انقسام كبيرة في قوات التحالف السعودي-الإماراتي، وصلت لإطلاق الجنود السودانيين النار على القادة الإماراتيين والسعوديين، بسبب الحالة التي وصلوا إليها.
وأشارت المجلة إلى أن المستفيد الأول من هذه الحرب هو الرئيس السوداني عمر البشير، الذي تمكن من إنعاش اقتصاد بلاده، وأيضاً التخلص من بعض الميليشيات التي كانت عصيَّة على السيطرة الحكومية مثل قبائل الجنجويد.
انقسام التحالف
وتؤكد تقييمات الاستخبارات الأميركية الصادرة مؤخراً، ما نشره موقع "الركوبة" السوداني، نقلاً عن صاحبه عبد الرحمن الأمين الذي يحظى بمصداقية كبيرة بين السودانيين: "تبدأ حالة من التفسخ في الحرب السعودية-الإماراتية في اليمن. فلا يقتصر الأمر على تورط الإماراتيين والسعوديين في صراع لا تلوح له نهاية في الأفق، بل إن أكثر من 8 آلاف من المرتزقة السودانيين بدأوا في الانقلاب على قادتهم من الضباط الإماراتيين والسعوديين".
وبحسب المجلة الأميركية التي نقلت عن الموقع السوداني، يأتي هذا نتيجة مماطلة السعودية في دفع الأموال (إذ إن عدداً كبيراً من الجنود السودانيين لم يحصلوا على رواتبهم منذ أشهر)، فضلاً عن أنّ القادة السعوديين والإماراتيين يأمرون الوحدات السودانية، علناً وباستمرار، بتنفيذ عمليات شبه انتحارية ضد المتمردين الحوثيين. أشار موقع Middle East Eye إلى أن عدد الجنود السودانيين الذين لقوا حتفهم في الصراع تجاوز 500 قتيل، اعتباراً من شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2017.
ويقول مايكل هورتون، وهو خبير في الشأن اليمني: "هؤلاء الجنود هم وقودُ مَدافع بالنسبة للسعوديين، وهم يعلمون ذلك". كانت النتيجة التي أسفر عنها هذا الموقف عدداً من الحوادث التي شهدت اغتيال الجنود السودانيين قادتهم من الإماراتيين أو السعوديين، وهو ما وصفه هورتون بأنه "شيء فظيع".
انطلاق "عاصفة الحزم"
بدأ هذا "العمل الفظيع" في 25 مارس/آذار 2015، عندما أطلقت السعودية والإمارات وتحالف يتكون من الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي، ما يُعرف بـ "عملية عاصفة الحزم"، ليرسل هؤلاء طائرات تابعة لمجلس التعاون الخليجي في عمليات قصف لمواقع يمنية، دعماً للرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، الذي فرَّ إلى السعودية بعد أن أطاحت به الميليشيات الحوثية في اليمن. لم يكن التدخل السعودي-الإماراتي في اليمن مفاجئاً بالنسبة للولايات المتحدة وحسب، بل إنه أغضب ضباطاً عسكريين بارزين في القيادة المركزية الأميركية، التي كانت تدعم سراً قبيلة الحوثي في قتالها ضد تنظيم القاعدة.
وعلى الرغم من هذا، تحولت أشرعة الولايات المتحدة بسرعة تماشياً مع الرياح الجديدة. ففي غضون أيام من بدء التدخل، وبضغطٍ من حلفاء السعودية في الكونغرس، أمرت إدارة أوباما القيادة المركزية الأميركية بتقديم الدعم العسكري إلى العملية التي تقودها السعودية والإمارات؛ أملاً في أن ذلك التدخل سيكون حاسماً وقصير الأمد، وهو ما لم يحدث. يقول ضابط بارز في القيادة المركزية: "من المفترض لهذا أن يكون صادماً ومرعباً. لذلك كان مجرد قصف، وراء قصف، وراء قصف. لم يستطع السعوديون تحقيق أي شيء على الأرض. وحاصرهم الحوثيون". بحلول شهر مايو/أيار 2015، كانت القوات السعودية والإماراتية في مأزق ممتد.
وبحسب المجلة الأميركية، فإن السعوديين حصلوا آنذاك على مساعدة غير متوقعة. خلال زيارة للرياض في أبريل/نيسان 2015، اقترح الفريق طه عثمان الحسين، مدير مكتب الرئيس السوداني وصاحب الكلمة المسموعة، أن يستخدم السعوديون الجيش السوداني للمساعدة في القتال الدائر باليمن مقابل الحصول على دعم اقتصادي إماراتي وسعودي. كان السعوديون مترددين في البداية: فقد تشككوا بسبب علاقات السودان مع إيران ودعمها الجماعات الإسلامية السُّنية، وضمنها جماعة الإخوان المسلمين.
انتاب الخوفُ السعوديين أيضاً من أن المجتمع الدولي كان من الممكن أن يدينهم بسبب التحالف مع الرئيس السوداني عمر البشير، الذي اتهمته المحكمة الجنائية الدولية بارتكاب أعمال إبادة جماعية، وجرائم ضد الإنسانية، وجرائم حرب في إقليم دارفور غرب السودان، حيث أطلق البشير ميليشيات عربية دموية تُعرف بـ "الجنجويد" ضد الفصائل المتمردة المنشقة. اتهمت وزارة الخارجية الأميركية ميليشيات الجنجويد بقتل 400 ألف مدني في دارفور بين عامي 2004 و2007.
السعودية وافقت بعد قلقها
بيد أن الملك سلمان بارك، في نهاية المطاف، هذه الترتيبات، لأن الحرب باليمن لم تكن تسير على ما يرام، ولأن السودان اتخذ خطوات للنأي بنفسه عن إيران. عُقدت الصفقة في مايو/أيار 2015، خلال اجتماع رفيع المستوى تضمن البشير، وطه الحسين، والملك سلمان، ووزير الدفاع آنذاك الأمير محمد بن سلمان، الذي تورط لاحقاً في اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي، وذلك بعد أن صار ولي العهد السعودي.
في واقع الأمر، قرر البشير بهذه الخطوة أن يضع اقتصاد بلاده في أيدي السعوديين، وبالوقت ذاته قرر السعوديون من جانبهم، أن عقد صفقة مع الشيطان أفضل من الخسارة في اليمن. "كان كلا الجانبين يائساً. كان السعوديون آنذاك في مأزق داخل اليمن، فيما كان الاقتصاد السوداني غير مستقر. وقد صار الموقف الآن أسوأ في الحقيقة: يخسر جيش سلمان وينهار اقتصاد البشير"، بحسب المجلة الأميركية.
غير أنه حتى بعد عقد الاتفاق مع السودان، خشي الإماراتيون والسعوديون من أن يكون البشير قد أرسل إليهم حثالة الجيش السوداني. فعندما رسا أول قارب يحمل مقاتلين سودانيين في عدن خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول 2015، رفض الضباط الإماراتيون إنزالهم قبل فحصهم. يقول صاحب موقع "الركوبة": "لقد مكثوا في السفن أسابيع. لذا كان هناك عدم ثقة منذ البداية". لكن السعوديين التزموا بالوفاء بجانبهم من الصفقة. أشار تقرير منشور في موقع Al-Monitor الأميركي إلى أن السعوديين أودعوا، في أغسطس/آب 2015، أكثر من ملياري دولار في البنك المركزي السوداني، لدعم احتياطيات النقد الأجنبي السودانية.
البشير يقبض الثمن!
ولكن حسبما يقول الأمين، تبينت أهمية هذه العلاقة الاقتصادية السعودية-السودانية "غير الرسمية". في أعقاب الاتفاق السعودي-السوداني، تخلت الإمارات عن رقابتها الدقيقة على شحنات الذهب السوداني القادمة إلى أسواق الذهب الخاصة بها في دبي وأبوظبي. كانت الإمارات دائماً الوجهة الأكثر تحقيقاً لأرباح "الذهب الدموي" السوداني المستخرج من دارفور، وقد أُغرقت أسواقها في غضون ذلك بالذهب السوداني بعد تفاهمات 2015. نتيجة لهذا، زادت قدرة السودان -الذي يعتبر أحد أكبر منتجي الذهب في إفريقيا- على الالتفاف حول العقوبات الاقتصادية التي فرضتها عليه الولايات المتحدة (والتي رُفعت بعد ذلك).
يقول الضابط السابق بوكالة الاستخبارات المركزية: "يعتبر تهريب الذهب برعاية الحكومة السودانية من خلال دبي سوقاً يُتداول فيها سنوياً عدة مليارات. يكترث العديد من مشتري الذهب فقط بما إذا كان هناك تصريح جمركي بسيط، ومن السهل الحصول عليه. يجري تسهيل مرور الشحنات الكبيرة من السبائك عن طريق كبار مسؤولي الجمارك المتواطئين وأبناء العائلات الحاكمة في الإمارات، وجميعهم يحصلون على نسبتهم"، بحسب المجلة الأميركية.
وتبدو التداعيات المترتبة على ذلك ذات أثر بالغ، إذ إن اعتزام الإمارات غض الطرف عن صراع الذهب في السودان (ولا سيما من مناجمه الغزيرة في دارفور)، منح نظام البشير شريان حياة اقتصادياً كانت هناك حاجة ماسة إليه، وفي المقابل رفع الإماراتيون والسعوديون من استثماراتهم في السودان، إضافة إلى السماح لهم مؤخراً بإرسال ضباط تجنيد بحثاً عن مجندين سودانيين جدد دون أي رقابة من الخرطوم. وفضلاً عن هذا، تضمن التدخل السعودي
-الإماراتي في اليمن نشر مرتزقة سودانيين لمواجهة الجماعات الإرهابية في منطقة حضر موت اليمنية الغنية بالذهب، حيث كانت قطر تتمتع بامتيازات التعدين الرئيسية، وذلك قبل أن تفرض الإمارات والسعودية حصاراً على الدوحة. وبكل بساطة، كانت حرب اليمن وسيلة لتقوية حكومة البشير، وفي الوقت ذاته يستخدم الإماراتيون والسعوديون القتال في اليمن لوضع أيديهم على الذهب القطري، بحسب المجلة الأميركية.
وبحسب المجلة الأميركية، يشكل الأثر النهائي مصدر قلق أكبر. فنتيجة لتواطؤ الإمارات والسعودية في تجارة "الذهب الدموي" غير المشروعة، ترسل حكومة البشير ميليشياتها لإخماد حالات التمرد المشهودة في المحافظات الغنية بالذهب؛ وافتتاح مناجم ذهب جديدة لم يجر التنقيب فيها بعد. يقول مايكل هورتون: "إنها (مسألة) بعيدة عن الرقابة نوعاً ما، لكن قتال السودان في اليمن حفَّز في واقع الأمر القتال بإفريقيا".
المأزق السعودي في اليمن
وعلى الرغم من قرار السودان في 2015 دعم التدخل في اليمن، لا تزال جهود الحرب السعودية-الإماراتية تواجه مأزقاً؛ وقد زاد الضغط على البشير لتقديم مزيد من المساعدات. في مارس/آذار 2016، استجاب البشير من خلال إصدار أوامر بإرسال 6000 من قوات الدعم السريع السودانية، وأغلبهم من مقاتلي الجنجويد، للمساعدة في القتال.
وبحسب المجلة الأميركية، فإن "الجنجويد أقوياء، لكنهم مستقلون بدرجة ما، لذا فإن البشير يعمل على تصفية صفوفهم باليمن، وفي الوقت ذاته يهدئ جيرانه في تشاد وليبيا، الذين يعتبرون الجنجويد ميليشيا مستقلة وغير خاضعة للسيطرة؛ أي إنهم تهديد شرس عابر للحدود وغير خاضع للسيطرة".
وهو ما يعني أنه مع بدايات عام 2017، بدا أن الرابح الأكبر من حرب اليمن هو الرئيس السوداني عمر البشير. ولكن، لم تكن تلك هي القضية في واقع الأمر. على الرغم من أن إرسال ميليشيا الجنجويد إلى اليمن قلَّل الشكاوى من خطط البشير التي يصوغها للتعامل مع الجيران، فإن ارتفاع عدد القتلى وشكاوى القوات السودانية المستمرة بأنَّ الإماراتيين والسعوديين يُحجمون عن دفع رواتبهم أديا إلى استياء واسع بين نخبة الخرطوم. فقد قلقوا من أن يكون البشير قد باع نفسه وبلاده إلى مجموعة من أمراء الخليج المدللين.
أزمة طه عثمان والبشير!
وبحسب المجلة الأميركية، رُفع الستار عن البيان الختامي لتلك التشابكات والتعقيدات في يونيو/حزيران 2018، عندما أبلغت أجهزة الاستخبارات في حكومة البشير أن طه عثمان الحسين، مدير مكتب الرئيس (وأقرب مؤتمن لديه)، كان يحصل سراً على أموال من السعوديين للتأثير على البشير. تضمَّن هذا توصية من طه بقطع البشير علاقة السودان بقطر، وهي نصيحة رفضها البشير. لم يكن ثمن شراء طه زهيداً. أخبرني عبد الرحمن الأمين، بأن "التقارير حول هذا الأمر تقدّر المبلغ تقديراً موثوقاً، بما بين 20 و25 مليون دولار، وهو ما لا يتضمن القصر الذي منحه الإماراتيون لطه في جزر النخيل". الأسوأ من هذا أن البشير علِم أن طه مُنح سراً الجنسية السعودية، وهو ما يجعله تحت حماية الأمير محمد بن سلمان.
كان الرابع عشر من يونيو/حزيران 2017 موعد حصاد كل هذا، عندما انقلب البشير على طه، ففَرَّ الأخير إلى مطار الخرطوم، ولم يستطع الرئيس السوداني أن يمسه بسوء. جرت تسوية النزاع عن طريق مسؤولين سعوديين بارزين، حثوا البشير على السماح لطه (الذي حوصرت طائرته بجنود من الحرس الشخصي للبشير) بالسفر إلى الرياض.
وقد نتج الصراع بين البشير وطه كذلك بعد أن عجز الأخير عن الوفاء بوعده الذي قطعه في 2015، عندما أخبر البشير بأن تحالف السودان مع السعودية كان سينتج عنه تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة. كان من المفترض أن يتضمن ذلك إخراج السودان من قائمة وزارة الخارجية الأميركية للبلاد التي ترعى الإرهاب.
لم يقتصر الأمر على عدم خروج السودان من القائمة، بل إن البشير لاقى حالة من التجاهل على هامش القمة العربية الأخيرة في الرياض، حينما كان يأمل عقد اجتماع مع ترامب. غير أن البيت الأبيض أعلن صراحة وبوضوح، أن ذلك لن يحدث، ما دفع البشير لإرسال طه بدلاً منه. ونتيجة لهذا، كان طه -وليس البشير- هو من قُدِّم إلى الرئيس الأميركي. كان الوسيط الذي قدَّم طه إلى الرئيس الأميركي مسؤولاً سعودياً بارزاً. قال المسؤول السعودي: "هذا طه، صديقنا الطيب من السودان". فابتسم ترمب وصافحه، قائلاً: "سررت بلقائك".