قبل عام من الآن وتحديداً يوم الأحد 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، تحول فندق الريتز كارلتون الفخم، إلى سجن ذهبي، احتجز فيه الأمير الطموح محمد بن سلمان، أفراداً من العائلة المالكة وأثرياء السعودية، وكبار المسؤولين الحكوميين لإجبارهم على التنازل عن أموالهم مقابل إطلاق سراحهم.
ساعدت هذه الحملة التي أطلقت تحت شعار "الحرب على الفساد" ولي العهد السعودي لوضع يده على أكثر من 106 مليارات دولار أعلن فيما بعد رغبته في ضخها بمشروعه الاقتصادي الطموح والإنفاق على مزايا اجتماعية.
وفيما كانت أنظار العالم المنبهرة بالأمير الشاب تترقب السعودية الجديدة التي وعد بها والتي لا تعتمد في اقتصادها على البترول فقط، اقتحم محمد بن سلمان عدة ملفات بجرأة لا يحسد عليها كانت سبباً في استنزاف المملكة اقتصادياً وهروب رؤوس الأموال الوطنية إلى الخارج.
من الريتز كارلتون بدأ الهروب الجماعي للمال السعودي
لم تبدأ عمليات نقل الأموال الى الخارج مع مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في 2 اكتوبر/تشرين الأول 2018، فمع اعتقالات الريتز كارلتون حاول عددٌ متزايد من السعوديين الأثرياء نقل أموالهم خارج المملكة، وتُوِّجت حملة القمع، بسلسلة من الخطوات التي أضرت بثقة الشركات. إذ أُوقفت المدفوعات المستحقة للمقاولين.
ويقول مسؤولون سعوديون إن الاعتقالات كانت ضرورية لتحقيق التكافؤ بين المستثمرين والحد من الفساد المستشري، وهي حجة وجدت صدى لدى العديد من السعوديين الذين غالباً ما كانوا يشتكون من أن رجال النخبة كانوا فوق سيادة القانون.
اعتقال أشخاص مثل الملياردير الأمير الوليد بن طلال، أثار شعوراً بالقلق داخل كثيرين من أن يظهروا مُسارعين إلى الهرب.
استخدم بعض السعوديين الذين أخرجوا أموالهم لاحقاً من البلاد شبكةً من الشركات لإخفاء ملكيتهم، وتجنبوا الأماكن ذات العلاقات الوثيقة بالمملكة. وقال بعض الأشخاص إنَّ الكثيرين اتجهوا إلى سويسرا أو إلى صناديق استثمارية في أماكن أخرى في أوروبا، واستثمروا في صناديق الأسهم الخاصة ومجال العقارات
وقال رجل أعمال سعودي: "من الحماقة ألَّا تضع خططاً للطوارئ".
وقال شخص شارك في تنظيم صفقات دولية للسعوديين إنَّ بعض العملاء يتهربون من عمليات الشراء التي تجذب الانتباه. فبدلاً من شراء فندق من خمس نجوم في لندن على سبيل المثال، استثمروا نفس المبلغ في مستودعات في شمال إنكلترا، حسبما قال هذا الشخص.
ورصدت السلطات السعودية تحويلات أجراها أمراء ورجال أعمال سعوديون قد حُظِرَت، إذ طلب أحد الأمراء تحويل الملايين إلى عقار في لندن، لكنه مُنِعَ من ذلك.
وتشير تقديراتٌ إلى أنَّ إجمالي التدفقات إلى الخارج سيرتفع بنسبة 13% في العام الجاري ليبلغ 90 مليار دولار، أي نحو 10% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنةً بالعام الماضي، وفقاً لبنك JPMorgan Chase & Co الأميركي.
خاشقجي أيضاً يعصف بآمال الاستثمار الأجنبي
في اليوم التالي لقتل خاشقجي تنبأ الأمير محمد بن سلمان بحدوث انتعاشةٍ في الاستثمار الأجنبي كان من المنتظر أن تبدأ بصفقة كبيرة غير نفطية مُرتقبة في مؤتمر مستقبل الاستثمار الذي عُقِد في وقتٍ لاحق من شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
ولكن بعد ذلك بدأ الاحتجاج على مقتل خاشقجي في الازدياد، مما دفع المصرفيين والمديرين التنفيذيين إلى الانسحاب من "دافوس الصحراء" وتحويل مؤتمر العام الجاري إلى حدث متواضع. ولم يُعلن عن تلك الصفقة قط.
وقال أحد المستثمرين الإقليميين، رئيس إحدى الشركات التي تديرها أسرة عربية ثرية استثمر أموالاً في المملكة من قبل، إنه لا يعتزم فعل ذلك مرة أخرى. وقال: "السعودية خارج خريطتي الآن"، وطلب عدم الكشف عن هويته خوفاً من تعريض أعماله الحالية للخطر.
لكنَّ حُجَّته بسيطة، إذ قال: "إذ رأيتُ الناس يسحبون أموالهم خارج السعودية رغم الفرص المتاحة هناك، فلمَ أستثمر أموالي هناك؟".
وترامب يريد 450 مليار دولار من الاستثمارات ثمناً لصفقة إنقاذ ولي العهد
ومما يزيد من المعاناة الاقتصادية للمملكة الرغبة الجامحة للرئيس الأميركي دونالد ترامب في الاستفادة من دعمه لولي العهد السعودي في جريمة قتل جمال خاشقجي، إذ اعلن الاسبوع الماضي بجلاءٍ أنَّ الولايات المتحدة ستتغاضى عما فعله ولي العهد لأنَّ المملكة تساعد في احتواء إيران، وتشتري الأسلحة الأميركية، وتساعد على التحكُّم في أسعار النفط بما يتوافق مع المصالح الأميركية.
ويقول كارنيلوس، الذي عمل سفيراً لإيطاليا في عدد من الدول العربية بمقال في Middle East Eye، إنه "حين تتعارض القيم الأميركية، مثل الدفاع عن حقوق الإنسان وسيادة القانون، مع المصالح الأميركية، فإنَّ ترامب سيختار الأخيرة بكل تأكيد".
ويرى أن الغرض الرئيسي من بيان ترامب، الصادر الأربعاء الماضي 21 نوفمبر/تشرين الثاني بشأن السعودية، كان في الواقع تحديد ثمن هذا الدعم. والرسالة الضمنية التي بعث بها البيان إلى الديوان الملكي السعودي هي أنَّ إنقاذ ولي العهد السعودي من المتوقع أن يُكلِّفهم 450 مليار دولار من الاستثمارات.
أما اليمن فهي الأخرى قد أنهكت ميزانية المملكة
على الجبهة الجنوبية للمملكة هناك مشهد آخر يساهم في النزيف الاقتصادي للسعودية، بدأ مع انغماسها في الحرب الدائرة باليمن قبل 3 سنوات، إذ تشير بعض التقديرات إلى انفاق الرياض نحو 5 مليارات دولار شهرياً، في الحرب ضد الحوثيين.
حين بدأ التدخل العربي العسكري في اليمن عام 2015، مباشرةً عقب تتويج الملك سلمان عاهلاً للسعودية، كان يُتوقَع أن تكون الحرب قصيرة وخاطفة. إذ تعهَّدت السعودية بأنَّها ستتغلب بسهولة على المتمردين الحوثيين وتعيد إلى سدة الحكم في اليمن الحكومة المُعترف بها، لكن أصبح السؤال الذي يشغل بال الرياض وحلفائها الآن هو كيفية الخروج من اليمن دون أن يُنظَر إلى ذلك على أنَّه انتصارٌ لإيران.
وقبل أسبوعين من اغتياله نصح جمال خاشقجي في مقال له بصحيفة "الواشنطن بوست" الأميركية الرياض بمواجهة الأضرار الناجمة عن سنوات الحرب الثلاث الماضية في اليمن والتي أفسدت علاقات المملكة مع المجتمع الدولي، وأحدثت خللاً في ديناميات الأمن الإقليمي وأضرّت بسمعة المملكة في العالم الإسلامي.
خاشقجي تطرق أيضاً في مقاله إلى الخسائر المادية التي تتكبدها المملكة في حربها باليمن موضحاً أن كل صاروخٍ باتريوت تطلقه الرياض تقدر تكلفته بثلاثة ملايين دولار، وإن التكاليف غير المتوقعة على حد تعبيره دفعت السعودية إلى اقتراض 11 مليار دولار من البنوك الدولية دون أن يذكر بوضوح الغرض من تلك الأموال.
و إنفاق المال على تحسين الصورة فقد أنهك ميزانية البلاد أيضاً
تخصص المملكة جزءاً ليس بالقليل من ميزانيتها للإنفاق على شركات العلاقات العامة الدولية لتحسين صورتها التي بدأت تهتز مع الانتهاكات التي ترتكب في اليمن، ووصلت قمتها عقب مقتل خاشقجي.
فقد استطاعت السعودية توظيف أكثر من 24 جماعة ضغط وشركات علاقات في الولايات المتحدة.
كان من الأطراف الرئيسية في تلك المجموعة مارك لامبكين، الشريك الإداري بمكتب شركة المحاماة وجماعة الضغط Brownstein Hyatt Farber Schreck في واشنطن، وهي الشركة التي تحصل على نحو نصف مليون دولار من الحكومة السعودية في 2017.
تتعاقد الحكومة السعودية مع وكلاء الضغط بغزارة، وهم بدورهم يساعدونها عملياً على إقناع أعضاء الكونغرس والرئيس بتجاهل الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان والضحايا المدنيين في اليمن.
ووفقاً لسجلات قانون تسجيل العملاء الأجانب، أبلغ السعوديون في 2016 عن إنفاق أقل بقليل من 10 ملايين دولار على شركات الضغط؛ وتضاعف هذا الرقم ثلاث مرات تقريباً في 2017 ليصل إلى 27.3 مليون دولار. وهذا الرقم يمثل مجرد الحد الأدنى لعملية أكبر لشراء النفوذ في واشنطن، لأنَّه لا يتضمَّن المبالغ الكبيرة الممنوحة لجامعات النخبة أو مراكز الأبحاث مثل معهد دول الخليج العربية في واشنطن ومعهد الشرق الأوسط ومركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (على سبيل المثال لا الحصر).
كما وقَّعت السعودية 45 عقداً في عام 2017 مع شركات مُسجَّلة بموجب قانون تسجيل العملاء الأجانب، وأكثر من من 100 شخص مُسجَّلون كعملاء أجانب سعوديين في الولايات المتحدة. وقد أثبتوا أنَّهم نشطون للغاية.
وقالت صحيفة "فيلت أم سونتاغ" الألمانية في تقرير، الأحد 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، إن ولي العهد السعودي "يعمل منذ عام 2015 مع شركة WMP، لمنع انتشار آراء سلبية في ألمانيا عن الأسرة المالكة".
وأشارت الصحيفة، إلى أن محمد بن سلمان "كان يظهر مؤيداً للتجديد والعصرنة في بلاده؛ لكنه اليوم تحول إلى شخصية يداها ملطختان بالدماء، تُجوّع الأطفال وتمارس العنف على معارضيها وتقتلهم بوحشية".
وبيّنت، أن "الأسرة المالكة في السعودية أبرمت اتفاقية بمئات آلاف اليوروهات مع الشركة المذكورة لتلميع صورتها أمام الرأي العام".
لكن، يبدو أن الوضع ماضٍ في التغير بسبب مقتل جمال خاشقجي، فكثيرٌ من المؤسسات في الوقت الحالي، تعيد التفكير في علاقاتها بعد جريمة القتل.
وقال دانيال بنيامين، مدير مركز جون سلون ديكي للتفاهم الدولي في جامعة دارتموث، والذي عمل بمعهد بروكينغز ومركز الدراسات الاستراتيجية والدولية: "بالنسبة للمؤسسات الفكرية، وكذلك المتاحف والجامعات، سيترك الحصول على الأموال السعودية وصمةً في الأيام القادمة".