كشف تقرير لصحيفة Bloomberg الأميركية، أنه منذ ان بدأت الإدانات الدولية للسعودية بسبب مقتل الصحافي جمال خاشقجي بقنصلية بلاده في إسطنبول بداية شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أصبح ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، يقضي وقتاً أطول بدرجة ملحوظة برفقة والده على الملأ.
وأوضح التقرير الذي نشر الأحد 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، من جهته قد أدى ما عليه لحماية الأمير؛ إذ تجنب مراراً إلقاء اللوم على محمد بن سلمان في مقتل الصحافي جمال خاشقجي يوم الثاني من أكتوبر/تشرين الأول في إسطنبول، وأثنى على السعودية للانخفاض الحاد في أسعار النفط.
ماذا لو أسقط مقتل الصحافي جمال خاشقجي الأمير محمد بن سلمان؟
ربما يكون من البديهي أنّ يذهب البعض إلى أنّ الأمير محمد يمكن أن ينجو من السقوط ثمناً لفعلته بقتل أحد معارضيه على هذا النحو الوحشيّ، نظراً لوقوف هذا الجمع من أصحاب النفوذ في صفه.
فبالفعل، توجه بن سلمان إلى الجارة الإمارات الخميس الماضي 22 نوفمبر/تشرين الثاني، لعقد محادثات مع أحد حلفائه المقربين، وتتزايد احتمالات أن يحضر قمة مجموعة العشرين في الأرجنتين.
بيد أنّه لا تزال هناك الكثير من الأمور المستترة في هذا الأمر، ومصير الزعيم الشاب حديث المدينة في الرياض.
في الأحاديث الدائرة بين الدبلوماسيين، وبين السعوديين، والأجانب العاملين في المملكة منذ سنين، لا يزال سؤالان اثنان على لسان الجميع: هل يمكن أنّ يظل الأمير محمد الفتى المنتظر لخلافة الملك سلمان؟ وإذا كان الجواب لا، فما الذي يمكن أن يصيب الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية التي كان يقودها؟
من الصعب أنَّ نقرر كيف ينظر كبار أفراد الأسرة الحاكمة وزعماء القبائل والجهاز الأمنيّ إلى الأمير بعد سلسلة من التصرفات الهوجاء خارج المملكة وقمع المعارضين في الداخل وبعد مقتل الصحافي جمال خاشقجي .
ويمكن أنّ تصيب الأمير تداعيات تهميشه الأمراء المنافسين له سعياً لتعزيز جميع السلطات في يديه. ويمكن أن تفقد الأجهزة الأمنية أيضاً ثقتها في الأمير، بعد إصدار حكم الإعدام على خمسة من المتهمين البالغ عددهم 11 في قضية مقتل خاشقجي؛ والأجهزة الأمنية بطبيعة الحالة أحد المتاريس الرئيسية التي يتحصن بها الأمير ضد المعارضة.
وربما تكون لدى تركيا أدلة على تورط الأمير بشكل مباشر في قتل خاشقجي في القنصلية السعودية بإسطنبول، وهو أمرٌ إذا ثبت فسيشعل غضب خصومه في الولايات المتحدة وأوروبا.
إذ غيرت قضية مقتل خاشقجي من "قواعد اللعبة" وقلبت حياة ولي العهد
ويقول كمران بخاري، الباحث المقيم في واشنطن والمختص في قضايا الأمن القومي والسياسة الخارجية في معهد التنمية المهنية التابع لجماعة أوتاوا الكندية، إنَّ مقتل الصحافي جمال خاشقجي -سواءً ثبت تورط الأمير بن سلمان فيه أم لا- كان مُغيّراً لقواعد اللعبة.
ويضيف بخاري: "مقتل خاشقجي قلب حياة الأمير رأساً على عقب. فتحول من مرحلة المسار الواعد بقضاء عمر طويل على العرش إلى مرحلة لا يعرف فيها ما سيكون عليه مستقبله، مرحلة من الشك في إمكانية صعوده إلى العرش أصلاً. سيظل مقتل خاشقجي وصمة على جبينه تمنعه من إنجاز الكثير".
سوَّق ولي العهد لنفسه أمام الغرب باعتباره شاباً جسوراً من الأسرة المالكة سيسعى إلى إدخال الحداثة إلى السعودية ومواجهة التطرف الإسلامي. الرجل المعروف في أوساط الغرب بالأحرف الأولى من اسمه "MBS" بات يُجسّد السعودية في ثوبها الجديد.
إلى جانب أنَّ خطته لبيع حصّة من شركة النفط السعودية "أرامكو" جعلته الرجل المفضّل لدى المصرفيين العالميين. فمن بين حفنة من أفراد الأسرة المالكة السعوديين، كان وليّ العهد الشاب المنتظر الذي سيقود أكبر مُصدِّر للنفط في العالم لعقود. أما الآن فقد بات أقل اطمئناناً على مستقبله.
خاصة وأن الدعم الذي عبر عنه ترامب لمحمد بن سلمان لم يكن مجانياً
بدأت إشارات انسداد أفق المناورة أمام الأمير تظهر بالفعل. فبعد أن أعلن ترامب يوم الثلاثاء 20 نوفمبر/تشرين الثاني، أنّ الولايات المتحدة لن تدع مقتل الصحافي جمال خاشقجي يعرض العلاقات مع المملكة للخطر، بدأت أسعار النفط تتجه ببطء صوب 50 دولاراً للبرميل.
وربما يكون انخفاض أسعار النفط جيداً لغسل سمعة الأمير، غير أنّه سيزيد من تعثر الاقتصاد السعودي الذي يعاني من بطء النمو. وشكر ترامب المملكة، مما يشير إلى أنّ مقايضة ما قد عُقِدت، وحث السعوديين على "النزول (بالسعر) أكثر!"
إذ عبّر الرئيس الأميركي بوضوح عن أنّ دعمه لولي العهد ليس مجانياً؛ مخالفاً بهذا الدعم أصواتاً قوية داخل الكونغرس وتقرير الاستخبارات المركزية الأميركية الذي يلقي باللائمة على الأمير محمد في مقتل خاشقجي.
وقال ترامب، في بيان يحمل عنوان "أميركا أولاً!" يوم الثلاثاء 20 نوفمبر/تشرين الثاني، إنَّ الأهمية الاستراتيجية للمملكة تحمل وزناً أكبر من وزن "الجريمة البشعة". وذكَّر السعودية بأنّها وافقت على "إنفاق واستثمار 450 مليار دولار في الولايات المتحدة. وهو مبلغٌ قياسيّ غير مسبوق".
وتهدئة الأجواء داخلياً كلفت الملك سلمان استثمارات بالمليارات
وفي الداخل، بدأ الملك سلمان الشهر الجاري أول جولة داخلية تشمل أرجاء المملكة منذ اعتلائه العرش في عام 2015. كان العنوان الضمني للجولة هو إصلاح شيءٍ من العطب الذي أصاب العلاقات مع المؤسسة الدينية والقبائل والأمراء الإقليميين نتيجة لسياسات ولده.
بدأ الملك، برفقة الأمير محمد، من منطقة القصيم، وهي أكثر المناطق محافظةً في المملكة، ووعد باستثمار الملايين في مشروعات تنموية في كل محطة من محطات جولته. ولم يعد مشروع مدينة نيوم الصناعية المنافس لدبي والمفضّل لمحمد بن سلمان أولوية لدى المملكة.
ودأب ملوك السعودية على استخدام المال لحشد الدعم من أرجاء البلاد في أوقات الاضطراب والشك. فمع زحف الربيع العربي في أرجاء الشرق الأوسط، أعلن الملك عبدالله إنفاق المليارات لتفادي حدوث أي اضطراب.
وربما يراهن الملك سلمان على أنّ وعود الولاء المقدمة له من كبار رجال الدولة في السعودية قادرة على حماية الأمير محمد لوقتٍ كافٍ حتى تنقضي أزمة مقتل الصحافي جمال خاشقجي دون عواقب وخيمة.
ولم يأتِ الملك على ذكر مقتل خاشقجي في خطابه السنويّ أمام مجلس الشورى السعودي، بينما كان ولده يجلس متجهم الوجه إلى جانب مفتي السعودية، أكبر سلطة دينية في البلاد.
من أجل كسب الولاء والحفاظ على القيادة الحالية للمملكة
ويقول أيهم كامل، رئيس قسم أبحاث الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لدى مجموعة أوراسيا، إنَّ الملك "يعرف جيداً كيف يُرتِب البيت الداخليّ بحيث لا ينقلب على الأمير محمد بن سلمان.
وزيارات الملك للمحافظات المختلفة، والشخصيات التي التقى بها أثناء تلك الزيارة، وما أنفقه من أموال فيها، جميعها جزءٌ من حزمة شاملة لضمان حماية القيادة على الوضع الذي هي قائمة عليه اليوم. كل ما يفعله الملك وولده يأتي لضمان الحفاظ على الترتيب الحاليّ لاعتلاء العرش".
وحين سُئل وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، في مقابلة مع قناة CNBC الأميركية، عن الرسالة التي يمكن أن يوجهها لمن يقولون بوجود حاجة إلى تغيير النظام في السعوديّة؛ قال الوزير إنَّ هذه الدعوات "سخيفة".
وقال الوزير، يوم الأربعاء 21 نوفمبر/تشرين الثاني: "قيادة المملكة ممثلة في الملك وولي عهده، خطٌ أحمر لكل سعودي؛ رجلاً كان أم امرأة. وكل سعودي يشعر أنَّ القيادة الحالية تمثله، وأنّه يمثلها".
بدوره، شكّك الأمير تركي الفيصل، الذي ترأس الاستخبارات السعودية ردحاً طويلاً من الزمن، في مقابلة عُقدت معه السبت 24 نوفمبر/تشرين الثاني، في صحة أي تقرير يصدر عن الاستخبارات المركزية الأميركية يُدين الأمير محمد بن سلمان في مقتل الصحافي جمال خاشقجي .
وقال الأمير تركي الفيصل في أبوظبي: "هناك حالات سابقة ثبت فيها خطأ تقارير الاستخبارات الأميركية"، مستشهداً بتأكيدات الوكالة من قبل على امتلاك العراق أسلحة كيماوية قبل غزوه عام 2003.
غير أنّ هذا الولاء ربما لا يكون كافياً
فالأمير البالغ من العمر 33 عاماً له أعداء ونقاد من أصحاب الكلمة المسموعة في الولايات المتحدة الأميركية، من بينهم مشرعون كبار، وفي أوروبا، حيث تزايد العداء له بسبب الحرب الدائرة في اليمن وسجلّ حقوق الإنسان في بلاده.
وعلى الصعيد الداخلي، تشيع أحاديث خافتة حول وجود حالة من التبرم داخل الأسرة الملكية، ووجود تكهنات حول إمكانية أن يحل الأمير أحمد، شقيق الملك سلمان، محل الأمير محمد بن سلمان في ولاية العهد.
تجدر الإشارة إلى أنَّ أفراداً كباراً من الأسرة الملكية أزيحوا عن الساحة بعد سيطرة الأمير محمد على الجيش وأمن الدولة ومعظم المؤسسات الاقتصادية في البلاد.
إلى جانب أنَّ الأمير أطاح بنظام الإجماع الذي كان مُتبعاً لعقود، وهي خطوة يُحتمل أن تكون قد أثارت حالة من الاستياء لدى كبار الأمراء.
وقال بخاري: "لا بد أنَّ الأمير قلقٌ باستمرار على مستقبله. فحتى إذا سجن خصومه المحتملين، واشترى ولاء آخرين بالرّشَى، وأكره أفراد الأسرة الملكية على القبول بوجوده؛ كيف له أن يطمئن لعدم وجود آخرين يخططون خلف الكواليس لإسقاطه؟"
وسيكون حضور الأمير محمد لقمة مجموعة الدول العشرين، التي ستبدأ في الثلاثين من نوفمبر/تشرين الثاني، من عدمه مؤشراً على مدى ثقته هو نفسه بمصيره. فالحكّام الذي لا يشعرون بالأمان داخل البلاد عادةً ما يتجنبون السفر إلى الخارج. وقد أفادت قناة العربية السعودية بأنّ الأمير سيحضر القمة.