ذكرت صحيفة The New York Times الأميركية أن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان لم يحصل على كل ما أراده من قضية مقتل جمال خاشقجي ، إذ حاول تقويض منافسه الإقليمي، ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ، على مرِّ الأسابيع الماضية، عبر تسريب معلوماتٍ استخباراتية تورِّط الأمير السعودي في جريمة القتل المُروّعة التي طالت خاشقجي.
لكن، توضح الصحيفة الأميركية أن هذا لا يعني بالضرورة أنَّ أردوغان خسر المعركة الجيوسياسية حول تداعيات القتل، بل ربما يكون الرئيس التركي في وضع أفضل الآن ممَّا كان عليه عندما اختفى خاشقجي داخل القنصلية السعودية في إسطنبول قبل 7 أسابيع.
إذ حظي أردوغان، الذي تعرَّض لانتقادات واسعة بسبب اعتقال أكثر من 100 ألف شخص منذ محاولة الانقلاب العسكري الفاشل قبل عامين، بمكانةٍ دولية كان في أمسّ الحاجة إليها من قضية خاشقجي. فنجح في احتلال المكانة الأخلاقية العالية التي تخلَّى عنها الرئيس الأميركي،
وحافظ على مواصلة الضغط على المملكة العربية السعودية.
الناس في العالم العربي والمشرعون بأميركا يعتقدون أن أردوغان على حق
قالت أسلي أيدينتاسباس الزميلة البارزة في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية: "إنَّ أردوغان يقف في نفس جانب الأغلبية الساحقة من الناس في العالم العربي. الناس غاضبون ويعتقدون أنَّ أردوغان مُحِق".
وأضافت: "هناك تقدير حقيقي لما يُمثله أردوغان في جميع أنحاء العالم العربي. وهذا ما يحرص عليه ويهتم به".
وفضلاً عن ذلك، مكَّنت قضية مقتل جمال خاشقجي أردوغان من تلطيف صورته في الغرب، وربما بناء بعض الزخم نحو إصلاح العلاقات التركية المتوترة للغاية مع الولايات المتحدة.
إذ أوجَد أردوغان، عبر مواصلة الاحتفاظ بالتفاصيل المُروِّعة لجريمة القتل، قضيةً مشتركة مع المُشرِّعين الأميركيين الغاضبين من التكتيكات السعودية السافرة، في حين أنَّ بعض الساسة الأميركيين كانوا يُركّزون تركيزاً أكبر قبل القضية على انتقاد تركيا، التي تُزامل الولايات
المتحدة في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، لتراجع الديمقراطية وشراء نظام دفاع مضاد للصواريخ من الروس.
وقال سنان أولغن الدبلوماسي التركي السابق ورئيس مركز الدراسات الاقتصادية والسياسة الخارجية في إسطنبول: "كانت الفائدة الرئيسية هي حصول أردوغان على رأس مال سياسي في واشنطن، وهذا سيكون مفيداً".
أردوغان لن يدع قضية مقتل جمال خاشقجي تنتهي بسهولة
بيد أنَّ بيان الرئيس الأميركي دونالد ترمب، يوم الثلاثاء 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، أوضح أنَّ الولايات المتحدة ستلتزم بدعم حليفتها السعودية، ممَّا يحول دون تحقّق طموح أردوغان الأكبر، الذي يتمثَّل في تهميش خصمه محمد بن سلمان وإعادة توجيه سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
وقال نعمان قورتولموش، نائب رئيس حزب العدالة والتنمية الذي يقوده أردوغان، للصحافيين يوم الثلاثاء: "هذا غير معقول!"، رافضاً تصريحات ترامب التي ذكر فيها أنَّه لا أحد يعرف حقاً من كان مسؤولاً عن إصدار أمر قتل خاشقجي، ووصفها بأنَّها "كوميدية".
وحتى لو فشل أردوغان في إحداث تغيير بالسياسة داخل إدارة ترامب، فمن غير المرجح أن يدع قضية مقتل جمال خاشقجي تنتهي بسهولة.
إذ طالبت تركيا بإجراء تحقيق من جانب الأمم المتحدة في جريمة القتل، وتواصل المطالبة بإجابات عن الجريمة، من أجل قص أجنحة الأمير السعودي، الذي يعتبره أردوغان تهديداً.
وكان بعض المسؤولين الأتراك، في ذروة قضية مقتل جمال خاشقجي ، يدعون واشنطن إلى تحويل تحالفاتها في الشرق الأوسط، على أمل دفع الولايات المتحدة بعيداً عن الملكيات المُطلقة القوية المتمثلة في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وكذلك عن القيادة العسكرية العلمانية في مصر.
يُذكَر أنَّ تركيا تتنافس مع السعودية على عدة جبهات، من ضمن ذلك نزاع المملكة السعودية مع قطر. وتعارض حكومة أردوغان أيضاً فرض عقوبات أميركية على إيران، ما يضعها على خلافٍ مباشر مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الذي وصف تركيا بأنَّها جزءٌ من "مثلث الشر".
وقال أولغن: "كان من المستبعد تخلي ترامب عن محمد بن سلمان. سيكون هناك بعض خيبة الأمل في أنقرة، وبعض الواقعية أيضاً".
مع العلم أن تركيا كانت تتوقع موقف ترامب منذ البداية
ومن جانبها، قالت أيدينتاسباس إنَّ تركيا في الحقيقة كانت تتوقع موقف ترامب منذ البداية. وأضافت: "أردوغان سياسي ذكي مُحنَّك، ويستطيع رؤية دوافع ترامب. يبدو أنَّهما اتفقا على ألا يتفقا".
وعلى الرغم من استمرار المشاعر المعادية لأميركا التي تستخدمها الحكومة التركية في أغلب الأحيان، ثمة علاماتٌ على أنَّ كلا الجانبين يريد إصلاح العلاقات.
وفي هذا الصدد، قالت أيدينتاسباس: "تستطيع رؤية رغبة بأنقرة في تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة. وهناك أيضاً رغبة واضحة من جانب ترامب في إصلاح العلاقات مع تركيا. ولا يريد أردوغان أن يفسد ذلك".
يُذكَر أنَّ إفراج تركيا عن القس الإنجيلي الأميركي أندرو برانسون، في الشهر الماضي (أكتوبر/تشرين الأول 2018)، أدَّى إلى تهدئة علاقات أردوغان مع البيت الأبيض والكونغرس، ما سمح لهم بالمضي قدماً في نزاعات أخرى كانت قد تسبَّبت في وصول العلاقات الأميركية-التركية إلى أدنى مستوياتها على مرِّ العام الماضي (2017).
وقد أشارت واشنطن بالفعل إلى أنَّها تفعل المزيد للتحقيق مع فتح الله غولن، رجل الدين التركي المُقيم في ولاية بنسلفانيا الذي تتهمه تركيا بالتحريض على محاولة الانقلاب في عام 2016.
وبدأت الدولتان أيضاً دورياتٍ مشتركة في مدينة منبج بشمال سوريا، حيث تقف تركيا والولايات المتحدة على طرفين متناقضين، إذ تدعم واشنطن القوات الكردية في المنطقة، في حين تعتبرهم تركيا تهديداً أمنياً خطيراً.
رغم تحسن العلاقات التركية-الأميركية بتسوية القضايا الخلافية
أشار وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو، الثلاثاء 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، إلى بعض القبول تجاه قرار ترامب الوقوف إلى جانب المملكة العربية السعودية، دون أن يتراجع عن الموقف التركي بضرورة كشف المسؤول عن إصدار أمر قتل خاشقجي أياً كان.
وقال إنَّ العديد من الدول لا تريد تدهور علاقاتها مع السعودية بسبب جريمة القتل. وأضاف: "نحن أيضاً لا نريد ذلك، لكن يجب الكشف عن حقيقة قضية مقتل جمال خاشقجي "، وفقاً لما ذكرته وكالة أنباء الأناضول التركية شبه الرسمية.
جدير بالذكر أنَّ تشاووش أوغلو كان في واشنطن، الأربعاء 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، لحضور اجتماعات مُقرَّرة لمعالجة العديد من النزاعات والخلافات العالقة بين البلدين، والتي تشمل غرامة وشيكة على بنك "خلق" الحكومي التركي، لانتهاك العقوبات الأميركية
المفروضة على إيران، وكذلك احتجاز تركيا مواطنين أميركيين وثلاثة موظفين يعملون في السفارة الأميركية لدى تركيا بتهم تتعلق بالإرهاب، وهو ما يصفه مسؤولون أميركيون بأنَّه ادَّعاء لا أساس له من الصحة.
وهناك الجبهة المهمة في سوريا، إذ ينتقد أردوغان باستمرار، دعم الولايات المتحدة المقاتلين السوريين الأكراد، الذين يعتبرهم امتداداً لحزب العمال الكردستاني، الذي تُصنِّفه تركيا والولايات المتحدة وأوروبا ضمن التنظيمات الإرهابية.
وأردوغان غير مستعد للتضحية برأس المال السياسي الذي اكتسبه
وقال مراقبون سياسيون في تركيا إنَّه مع أنَّ تلك القضايا ما زالت قائمة بين تركيا والولايات المتحدة، من غير المرجح أن يُهدر أردوغان رأس المال السياسي الذي اكتسبه من قضية خاشقجي.
وما زال الرئيس التركي يستطيع التهديد بنشر التسجيلات الصوتية المُتعلّقة بجريمة القتل، والتي قال مسؤولون أتراك إنَّها تشير إلى تورط سعودي على أعلى مستوى.
لكنَّ بعض المحللين قالوا إنَّ هذا "خيار نووي" من غير المرجح أن يستخدمه، لأنَّه سينهي نفوذه وسيطرته على الموقف فعلياً.
ولم يذكر أردوغان، في خطابٍ ألقاه بالقصر الرئاسي في أنقرة الأربعاء، قضية مقتل جمال خاشقجي ولا بيان ترامب الذي دعم فيه ولي العهد السعودي.
بل كان مشغولاً تماماً بحملة حزبه الانتخابية لخوض انتخابات المحليات التركية المقررة في شهر مارس/آذار 2019، ما يبين أنَّ الشواغل السياسية الوطنية ما زالت تُمثِّل أولويةً، في حين تحدَّث عن أحدث أعداء الدولة من وجهة نظره.
إذ انتقد المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بشأن إصدارها قراراً يدعو إلى إطلاق سراح الزعيم السياسي الكردي صلاح الدين دمرداش.
وأوضح الدبلوماسي التركي السابق، سنان أولغن، إنَّه يجب النظر إلى موقف أردوغان القومي في ضوء السياسات المحلية.
خاصة أن تركيا لا تزال تعاني تبعات الأزمة الاقتصادية
وتُهدِّد الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها تركيا، وضمنها الانخفاض الحاد في قيمة الليرة ومعدل التضخم المرتفع، حزب العدالة والتنمية، الذي يتزعمه أردوغان، باحتمالية خسارة بعض البلديات الهامة في انتخابات مارس/آذار 2019.
وصاح أردوغان، في إشارة إلى مؤيدي الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في حديقة غيزي وميدان تقسيم عام 2013، قائلاً: "ما زال أعضاء المشروع، الذين يريدون تركيع تركيا واستسلام بلادنا، مُتحدين".
وأضاف في خطابه: "أولئك الذين يمدحون احتجاجات غيزي، ألم يكونوا هم الذين دمروا كل النوافذ، وأحرقوا كل شيء حولهم؟ ألم يحرقوا حافلات مملوكة للدولة؟ ألم يحرقوا محلات الحرفيين؟ فهل ينبغي أن نتسامح معهم؟".