اعتبرت مجلة Foreign Policy الأميركية، الخميس 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، أن بيان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عن السعودية بشأن قضية جمال خاشقجي، لا يدعم الرياض كما يزعم الرئيس الأميركي، بل سيعقّد الأمور سنوات في المملكة.
وكان ترامب قد أشار في بيانٍ غريب، أصدره يوم 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، إلى أنَّه "يقف مع المملكة العربية السعودية"، لكن يبدو أنّ ما حدث هو العكس، فربما عقَّدت إدارة ترامب العلاقات الأميركية-السعودية كثيراً لسنوات قادمة.
يدَّعي ترامب أنَّ ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، ربما كان على علم بشأن خطط قتل خاشقجي –"ربما عَلِمَ وربما لم يعلم"، على حد قوله- لكنَّ الولايات المتحدة ستقف بجانب المملكة بسبب المصلحة المشتركة في التصدي لإيران، ومبيعات الأسلحة المحتملة للسعودية، والحاجة لضمان استقرار أسواق النفط.
بدا أنَّ بيان الرئيس كان يهدف إلى وضع حدٍّ لقضية خاشقجي. لكنَّه على الأرجح، سيؤدي بالضبط إلى عكس ذلك، لعدة أسباب، كما تقول المجلة الأميركية.
أسباب تعقّد الوضع في السعودية
وبحسب المجلة الأميركية، فإنه أولاً، بات واضحاً الآن أنَّ إدارة ترامب لم يكن لديها أي اهتمام حقيقي بالسعي وراء الحقيقة. فبعد تفجُّر أنباء الجريمة أول الأمر، كان بإمكان ترامب الضغط في اتجاه إجراء تحقيقٍ ذي مصداقية، للمساعدة في تقييم ما حدث حقاً داخل القنصلية السعودية في إسطنبول يوم 2 أكتوبر/تشرين الأول 2018.
في الواقع، دعا حلفاء الولايات المتحدة الآخرون لإجراء تحقيقاتٍ كتلك في الماضي، إذ أقامت إسرائيل، التي لديها أسبابها الكثيرة للشعور بالقلق من إصدار الهيئات الخارجية أحكاماً بشأن سلوكها، لجنة من القضاة الإسرائيليين، ومراقبين دوليين يحظون باحترام، للتحقيق في وفاة 9 مواطنين أتراك على متن أسطولٍ أُرسِل لكسر الحصار عن غزة في عام 2010. فعلت الحكومة الإسرائيلية ذلك، كي تضع حداً للأسئلة العالقة بشأن العملية البحرية التي استهدفت أسطول السفن التركية.
لكن على النقيض من هذا، فإنَّ إدارة ترامب في هذه القضية راضية بالسماح للسعودية بالعمل كقاضٍ، وهيئة مُحلّفين، وكجهة إعدام، نظراً إلى أنَّ 5 على الأقل من المتهمين يواجهون الآن مطالبات من الادعاء العام بإعدامهم. وحقيقة أنَّ ترامب في مثل هذه العجلة من أمره للمضي قدماً، برغم الكثير جداً من الأسئلة العالقة، ستؤدي إلى مضاعفة مطالبات الآخرين -وضمنهم أعضاء جمهوريون قياديون بمجلس الشيوخ- بالحقيقة.
أما ثانياً، بعد عدم الضغط لبدء تحقيقٍ ذي مصداقية، يبدو أنَّ ترامب تجاهل تقييمات الاستخبارات التي أعدَّها مسؤولوه هو بشأن ما حدث ومَن كان مسؤولاً. ففي أواخر الأسبوع الماضي، خلصت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA)، بدرجة عالية من الثقة، إلى أنَّ ولي العهد أعطى الأمر بعملية القتل. قلَّل الرئيس من شأن التقرير، وأعلن مراراً أنَّ العالم قد لا يعرف أبداً كل الحقائق المحيطة بقتل خاشقجي.
لكن هذا لا يعني أنَّ العالم لا يعرف شيئاً. ويمكن أن تبقى مطالب رؤية التقييم الكامل لوكالة الاستخبارات المركزية مُخيّمة على العلاقات الأميركية-السعودية بالطريقة نفسها التي ظلَّ بها تقرير لجنة الاستخبارات المشتركة بمجلسي الشيوخ والنواب الأميركيَّين، المتألِّف من 28 صفحة، بشأن التورُّط المحتمل للسعودية في هجمات الحادث عشر من سبتمبر/أيلول، مُخيِّماً على العلاقات 13 عاماً، إلى أن رُفِعَت عنه السرية أخيراً. وبدلاً من رفض تقييم وكالة الاستخبارات المركزية، كان بإمكان ترامب استخدام استنتاجات الوكالة للضغط صوب إجراء تحقيقٍ نزيه. واستعداده لتجاهل وكالة الاستخبارات المركزية سيؤدي الآن إلى مجموعة جديدة من التساؤلات.
وثالثاً، بحسب المجلة الأميركية، فإن ترامب "سيد الصفقات" قدّم بيانه مجاناً، بدل أن يستغل نفوذه في هذا الموقف لتحقيق محاسبة كاملة على ما حدث بإسطنبول، ومعالجة القضايا الأخرى في العلاقة الأميركية-السعودية.
ولننظر إلى حرب اليمن كمثال. بعد قرابة عامين تخلَّت فيهما إدارة ترامب عن أي دور ذي أهمية في إنهاء أسوأ صراع إنساني بالعالم، غيَّرت مسارها مؤخراً، داعيةً إلى وقفٍ لإطلاق النار باليمن في غضون 30 يوماً، وعلَّقت إعادة تزويد طائرات التحالف السعودي بالوقود في الجو. يعود فعلها ذلك، جزئياً على الأقل، إلى إدراك البيت الأبيض المتزايد أنَّ استمرار الحرب ليس في مصلحة الولايات المتحدة ولا السعودية.
لكن حتى الآن، كانت استجابة السعودية على الأرض هي التصعيد قرب ميناء الحُديدة اليمني. وفي حين لا ينبغي لواشنطن أن تقايض على قلقها بشأن حقوق الإنسان، كان بإمكانها أن تستغل تلك الأزمة للترويج لسياسات، تعتقد أنَّها هي السياسات الصحيحة على أي حال. لكن بدلاً من ذلك، يستمر الصراع –الذي يُعزِّز وضعية إيران بالمنطقة- بلا نهاية بادية في الأفق، بحسب المجلة الأميركية.
أرقام وهمية
وبحسب المجلة الأميركية، كل هذا مقابل ماذا؟ تذرَّع ترامب، في بيانه، بالتزامٍ سعودي لاستثمار 450 مليار دولار في الولايات المتحدة، 110 مليارات دولار منها في صورة مبيعات أسلحة مُقترَحة. لكن كما يشير كثيرٌ من المراقبين، فإنَّ هذه الأرقام بأحسن الأحول وهمية، وفي ظل التشكُّك الظاهر حديثاً في السياسات السعودية، باتت احتمالية موافقة الكونغرس على صفقات أسلحة كبرى جديدة موضع شك.
بالنسبة للنفط، يعي السعوديون أنفسهم أنَّ السماح بارتفاع الأسعار أكثر –وهو ما يشك الكثيرون في أنَّ بإمكانهم تدبير حدوثه بالنظر إلى إنتاج النفط الصخري الأميركي- سيضُرُّ باقتصادهم هم أكثر بكثير من بقية العالم، وذلك بتشجيع اللجوء إلى موارد طاقة واستخدامات بديلة. وحين يتعلق الأمر بالسلام بالشرق الأوسط، وفي ظل مقاطعة الفلسطينيين إدارة ترامب، ومشارفة إسرائيل الدخول في موسمٍ انتخابي، وصعوبة الظروف بغزة أكثر من أي وقتٍ مضى، فإنَّ احتمالات إحراز تقدُّم بخصوص السلام –بدعمٍ سعودي أو من دونه- منخفضة بشدة.
الأهم من ذلك كله أنَّ ترامب يُبرِّر نهجه، على أساس أنَّه ضروري لاستقرار السعودية وسط المنافسة الأوسع نطاقاً مع إيران. لكنَّ هذا يحجب رؤية العواقب الأطول أجلاً لنهج الإدارة. فترامب، بظهوره في مظهر مَن يُعتِّم على قتل جمال خاشقجي، يساعد على ضمان أن تظل القضية مشكلةً مستمرة سنوات قادمة، من حيث كل من اكتشاف ما حدث بالضبط، وتحديد الرد الأميركي الملائم.
الانقسام الحزبي بسبب السعودية
وسيُفاقِم نهج البيت الأبيض كذلك الانقسام الحزبي في الولايات المتحدة بشأن السعودية، إذ يضغط الديمقراطيون صوب المزيد من الشفافية والمحاسبة، في حين يحاول بعض الجمهوريين، على الأقل، الدفاع عن سياسة ترامب، في حين يختبئ معظم الآخرين -باستثناء قِلّة من أعضاء مجلس الشيوخ- مُتجنِّبين مواجهة الأزمة. بل سيتساءل البعض حتى عما إذا كانت تجارة عائلة ترامب اضطلعت بدورٍ في رد الإدارة على القضية. وفي ظل التساؤلات التي تحوم حول عملية خلافة الحكم بالسعودية في السنوات القليلة المقبلة، فإن وجود نهجٍ منقسم حزبياً بصورة متزايدة تجاه المملكة لن يساعد على استقرار البلد أو تعزيز الجهود المشتركة للسيطرة على التهديد القادم من إيران.
وبدلاً من لجوء ترامب إلى الدبلوماسية ببيانٍ متسرع، كان عليه الاستماع لنصيحة وزير الخارجية الأميركي الأسبق، جيمس بيكر، بشأن الرد الأميركي على مذبحة ميدان تيانانمين الصيني. كي تعثر على الحقيقة، هناك حاجة إلى العقوبات وفي الوقت نفسه تأكيد أنَّ واشنطن ستُبقي قنوات الاتصال مفتوحة، بحسب المجلة الأميركية.
كان بإمكان ترامب إظهار أنَّ الولايات المتحدة ستتمسك بقيمها حول العالم، بكشفها الحقيقة، وضمان أن تكون هناك عواقب لتلك الأنواع من الأعمال، مع التأكيد في الوقت نفسه أنَّ العلاقة مع السعودية مهمة، وأنَّ واشنطن ستسعى للحفاظ عليها لمصلحة كلا البلدين. ربما كان نهجاً كهذا سيؤدي إلى خلق تحديات أكبر قصيرة المدى، لأنَّ السعوديين ربما كانوا سيقاومون إجراء تحقيق أشمل بشأن وفاة خاشقجي، لكنَّه كان سيُرسي استقرار العلاقات الأميركية-السعودية على المدى الطويل.
تحرك الكونغرس
الآن وقد فشلت الإدارة في التعامل مع هذه الأزمة بمسؤولية، ربما يقرر الكونغرس أنَّ عليه التحرُّك. ويُمثِّل التشريع الذي يحظى بدعمٍ من الحزبين وقدَّمه السيناتور الديمقراطي بوب ميندينيز والسيناتور الجمهوري ليندسي غراهام، ومن شأنه أن يُوقِف كل مبيعات الأسلحة الهجومية للسعودية وفرض عقوبات بحق كل مَن يثبت أنَّه مسؤول عن قتل خاشقجي- بداية لهذا التحرُّك. لكنَّ أشهراً من جلسات الاستماع، والاستدعاءات، والنقاشات التشريعية بانتظارنا. وطيلة كل هذا، لن يحظى العمل المهم الذي يجب أن تقوم به الولايات المتحدة والسعودية لإنهاء الصراعات الإقليمية، ومحاربة الإرهاب، والترويج لإصلاحٍ طويل الأمد، بالاهتمام أو الدعم اللذين يحتاجهما.
كان ترمب محقاً حين أشار إلى أنَّ علاقة الولايات المتحدة هي مع المملكة وليست، ضمناً، مع أشخاص القادة السعوديين. وقد تسبَّب الرئيس، ببيانه غير المسؤول، في ضرر كبير لهذه المسألة.