في الصحراء الجرداء المحيطة بمدينة الخور على بُعد 50 كيلومتراً شمال العاصمة الدوحة، تتراكض بضعة جِمال في الأفق مبددة صمت الكثبان الرملية المطبق.
هنا الحرارة قد ترتفع إلى 50 درجة مئوية، فتجفّ التربة وتتصحر.
مع ذلك، وعلى هذه الأرض القاسية، تلتمع تحت نور الشمس الحارق عدة هياكل لمبانٍ زجاجية ضخمة، لتشهد على نجاح الزراعة الباهر وتوسعه الكبير على يد القطريين.
يقول ناصر الخلف، المدير العام لـ Agrico: "لقد ذاب الهيكل المعدني لهذا البيت البلاستيكي بسبب الحر" .
برغم طقس قطر الصحراوي فقد أطلق آل الخلف مشروع Agrico للزراعة عام 2012 بعد عقود من تأسيس الشركة في الخمسينيات، حيث كانت الشركة تختص باستيراد الغذاء في الأساس.
تعمل المزرعة طوال العام، وهي واحد من أكبر المشاريع الزراعية طويلة الأمد والمستدامة في قطر، إذ تنتج متوسطاً قدره 5 أطنان من الفاكهة والخضار العضوية الخالية من المبيدات الحشرية كل يوم، وفق ما قاله الخلف.
يقول الخلف بابتسامة عريضة: "ليس الزوار الأوروبيون وحدهم من يتفاجأ، بل القطريون أنفسهم يصعب عليهم تصديق أن أي شيء قد ينمو ويزرع هنا" .
صنع في قطر : تقنيات متطورة حديثة
في 5 من يونيو/حزيران من عام 2017 فرضت كل من السعودية والإمارات حظراً بحرياً وجوياً وبرياً على قطر، متهمتين إياها بدعم مجموعات مسلحة بعضها مدعوم إيرانياً، وسرعان ما تلتهما مصر والبحرين وغيرهما من الحلفاء في فرض ذات الحظر.
من جهتها تنفي قطر تلك المزاعم وتقول إن الحصار يهدف إلى إضعاف سياسة خارجية مستقلة ترمي إلى تعزيز الإصلاح السلمي في المنطقة.
يقول الخلف إن Agrico ضاعفت إنتاجها منذ فرض الحصار، ويرى أن هذا التوسع غدا ممكناً بفضل سنوات من تجريب التقنيات المتطورة والحديثة التي تناسب التحديات البيئية.
والبيوت البلاستيكية مصممة لتعمل في ظل حد أدنى من الموارد.
تعتمد الزراعة فوق المائية Hydroponic Farming على استعمال محلول غني بالمغذيات مع جذور النبات عوضاً عن التربة، وبمساعدة نظام تحسس متطور للرطوبة والحرارة وضوء الشمس يتضاعف المحصول بضمان أن تنمو النباتات في ظل ظروف مثلى محصنة ضد الحرارة العالية خارج الهيكل الزجاجي.
يقول الخلف: "لقد بدأنا ببيع هذه التقنية إلى مزارعين قطريين آخرين" بغية تشجيع تطوير قطاع زراعة "صُنع في قطر".
قبل وبعد الحصار.. فرق شاسع
بعد مرور 16 شهراً على الحصار المفروض على قطر بقيادة السعودية، أعادت البلاد هيكلة طرق استيرادها وقطاعها الزراعي.
فقبل الحصار كانت قطر تستورد 80% من متطلباتها الغذائية من جيرانها العرب، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.
يقول فالح بين ناصر آل ثاني، مساعد وكيل شؤون الزراعة والثروة السمكية في وزارة البلدية والبيئة: "لقد كانت أسعار المنتجات المستوردة منخفضة لدرجة لا يمكن للمزارعين القطريين منافستها".
لكن منذ إغلاق الحدود البرية الوحيدة التي لدى قطر عام 2017، تم فتح طرق تجارة جوية وبحرية جديدة، خاصة مع إيران وتركيا وباكستان.
وعلى الصعيد المحلي، يقول آل ثاني إن الإنتاج المحلي كان يغطي 15% فقط من الطلب المحلي على الخضار قبل الحصار. من المزارع الـ1400 العاملة في قطر، الثلثان غير تجاري وتعود ملكيتها لعائلات تزرع محصولها لاستهلاكها الخاص.
ووفق معلومات أرسلتها غرفة تجارة قطر إلى موقع ميدل إيست آي الإخباري، فقد سجلت زيادة مقدارها 300% في منتوج المزارع القطرية بين عامَي 2017 و2018، وهو مقدار كفى هذه المملكة الخليجية الغنية بالغاز والمستضيفة لكأس العالم 2022 لكرة القدم، وأكثر من 90% من احتياجها من الدجاج ومنتجات الألبان، بحسب ما قاله آل ثاني.
ويقول آل ثاني إنه مع نهاية 2018 سوف تمنح الوزارة مليون متر مربع من الأراضي الزراعية للمزارعين القطريين، ويضيف: "الهدف هو إنتاج ما بين 20 ألفاً و30 ألف طن من الخضار بشكل سنوي".
أكثر من 1000 قفير نحل لإنتاج العسل
في حارة ضيقة بسوق واجف الذي هو بازار تقليدي شعبي في الدوحة، التقت "ميدل إيست آي" بخالد سيف السويدي، صاحب مقهى مناحل بوسيف وأكبر منتج قطري للنحل مع أكثر من 1000 قفير نحل موزعة في أنحاء البلاد.
يتخصص مقهاه ومتجره في منتجات كالكعك والمشروبات المصنوعة كلها باستخدام العسل. يقول السويدي: "في تقاليدنا العسل هدية ثمينة تقدم عربوناً للصداقة".
شغف السويدي بالنحل في طفولته قبل 43 عاماً، لكنه يعترف أن أباه لم يرد له أن يغدو نحالاً، بل شجعه على التوظيف الحكومي وعلى مهنة تقليدية أكثر، لكن السويدي قرر أن يتبع شغفه. يقول "من حسن الحظ أنني لم أستمع له".
باشرت مناحل بوسيف العمل عام 2010، والعام الماضي أنتجت 10 أطنان من العسل.
وفي حين أن حجم الإنتاج كان كافياً لتغطية حجم الطلب قبل الحصار، إلا أن الأمر لم يعد كذلك، فلعدة أشهر أوائل عام 2018 نفدت كميات العسل "المصنوع في قطر" التي لدى الشركة، والسبب في رأي السويدي هو ارتفاع موجة الشعور الوطني والطلب المحلي على المنتجات القطرية. يقول: "الكل يريد عسلاً مصنوعاً في قطر".
وقد تحدث مدير في سلسلة متاجر سوبرماركت محلية إلى "ميدل إيست آي" شريطة التحفظ على اسمه؛ لأنه غير مخوّل بالتحدث إلى وسائل الإعلام، فقال إنه قبل الحصار كان هناك طلب على عسل السدر اليمني الذي كان يستورد عبر السعودية.
وللمحافظة على حجم كافٍ من الإنتاج طوال العام عمد السويدي إلى نشر قفران نحل إضافية في عمان، فعمان لم تحذُ حذو جيرانها الخليجيين وحافظت على علاقة تعاون مع الدوحة عبر الحصار.
ومع أن الغالبية العظمى من عسل بوسيف هو مصنوع في قطر، إلا أن الإنتاج المحلي ما زال لا يكفي لتلبية الطلب المرتفع الذي أعقب الحصار.
ورغبة منه في تشجيع القطريين على مشاركته حماسته لإنتاج النحل يقدم السويدي للمواطنين إمكانية تملك قفران نحل خاصة بهم لقاء سعر محدد، حيث تثبت القفران خارجاً فيما الصيانة على مناحل بوسيف. يقول السويدي: "يحب الناس الآن تقديم عسل بيتي".
الاعتزاز الوطني.. هوس اسمه "صنع في قطر"
بعد موجة عاطفية كبيرة من التسوق لشراء المنتجات "المصنوعة في قطر" أول أيام الحصار، ظهر أسلوب جديد في مقاربة الثقافة الاستهلاكية.
يقول نبيل الناصري، مدير مؤسسة L'observatoire du Qatar للدراسات الاستراتيجية القطرية في باريس، في حديث له مع ميدل إيست آي: "لقد أصبحت ماركة (صنع في قطر) هوساً؛ لأن البلاد ما عادت تريد أن تكون في مرمى النيران" مشيراً إلى أن الزراعة القطرية نهضت أيضاً بفضل الاعتزاز الوطني بعد فرض الحصار مباشرة.
وفي "الميرة" التي هي سلسلة متاجر سوبرماركت رائدة في قطر تضم 43 متجر سوبرماركت في أنحاء البلاد، يتحدث مديرٌ طلب عدم ذكر اسمه؛ لأنه غير مخول بالتعليق "هناك واقع قبل الحصار وآخر بعده" فالكثيرون باتوا يبحثون بشكل فاعل عن المنتجات المصنوعة محلياً والتي عليها لصق "صنع في قطر" بغية دعم الاقتصاد المحلي، وحسب ما قاله المدير فإن استعمال هذه اللصاقات لم يكن أمراً شائعاً قبل الحصار، إلا أنها الآن صارت تطبق على كافة المواد الغذائية المنتجة محلياً، فباتت ترى بكل سهولة في كل متجر سوبرماركت بغية تشجيع مبيعاتها.
كريستيان هندرسون، بروفيسور مساعد في دراسات الشرق الأوسط بجامعة ليدن، يقول: "أرادت النخبة الحاكمة في قطر أن تعزز الشعور الوطني، فكان تطوير قطاع غذائيات صنع في قطر إحدى الطرق في سبيل ذلك".
جدير بالذكر أن هندرسون يقود أبحاثاً أكاديمية حول الإنتاج الغذائي في منطقة دول مجلس التعاون الخليجي.
إضافة إلى ذلك انطلق معرض "صنع في قطر" السنوي منذ عام 2009 من تنظيم غرفة تجارة قطر، الذي يوفر منصة لقطاع الأغذية الزراعية لتشجيع المنتوجات المحلية. وسوف تقام دورة المعرض لهذا العام 2018 في العاصمة العمانية مسقط في شهر نوفمبر/تشرين الثاني.
ثمن الشراء المحلي
إلا أن تعزيز المنتوج المحلي له ثمن، ألا وهو أن المنتجات الغذائية أغلى سعراً. التقديرات التي قدمتها وزارة الشؤون البلدية والزراعة القطرية لموقع "ميدل إيست آي" تذكر أن كيلوغراماً من البندورة (الطماطم) المبيعة في أسواق المدينة هي أغلى بـ60% عام 2017 منها عام 2016، وهو ما تأثرت به العائلات قليلة الدخل.
وبحسب آل ثاني فسوف تستقل قطر أكثر فأكثر خلال الأعوام المقبلة في ما يخص موضوع متطلبات الخضار "ففي غضون 3 سنوات تأمل قطر أن تتمكن من إنتاج 60% من احتياجاتها من الخضار" بيد أن هندرسون يرى أن السكان القطريين يستلذون الأغذية المستوردة ولا يمكنهم العيش من دونها، "فالشعب القطري ذو ذوق عالمي في مجال الطعام، ولذا ينبغي استيراد معظمه".
لكنَّ هناك حدوداً للنمو
قد تحد العوامل البيئية من خطة قطر الطموحة، فنظراً للمناخ الصحراوي القاحل ولشح موارد المياه، ليس في قطر سوى 6% من الأراضي القابلة للزراعة.
وحسب تقرير لمنظمة الفاو الأممية، فإن تطوير قطاع الزراعة محدود بعوامل "مثل شح موارد المياه، وتدني جودة الماء، وفقر التربة وقلة خصوبتها، والظروف المناخية القاسية، وسوء إدارة المياه".
لكن آل ثاني واقعيٌ إزاء ضرورة تحديث قطاع الزراعة باستخدام تقنيات حديثة متطورة في مواجهة شح المياه وملوحتها.
يقول: "انخفضت جودة المياه الجوفية منذ السبعينيات فهي تزداد ملوحة". وحسب أقوال آل ثاني، فالمزارعون القطريون يسقون 93% من حقولهم باستخراج المياه الجوفية، بينما يزرعون تربة تكوينها الرئيسي هو الصحراء الصخرية.
وللتغلب على شح المياه تستخدم Agrico نظام سقاية بالتنقيط يأتي بإمداد ماء بطيء من موارد المياه الجوفية ويوصله مباشرة إلى التربة بغية تقليص استهلاك الماء بمقدار 60%، وحسب الخلف، فإن هذه التقنية توفر مئات آلاف من الأمتار المكعبة من الماء كل عام.
رغم المصاعب الاقتصادية التي جرَّها الحصار على قطر، ومع الخطوات التي تتخذها البلاد بغية الحصول على مزيد من الاستقلالية، يختم السويدي قائلاً: "إن الحصار هو فرصة".