لم تتجلَّ الفوضى والمصيبة التي عمَّت البلاد بعد الاضطرابات السياسية عام 2011 مثلما تجسَّدَت في الموقف عند سياحة الأهرامات ، أيقونة التاريخ المصري الزاخر، والتي شُوِّهَت سمعتها باعتبارها مزاراً سياحياً مزعجاً.
وبعدما شكَّل الانتهازيون من السكان المحليين، الذين يؤجِّرون الجمال ويبيعون الهدايا التذكارية، جزءاً من مغامرة زيارة الأهرامات، أصبح الزوَّار يطوفون داخل سيارات الأجرة ويُنصَحون بإغلاق النوافذ والأبواب لمنع الباعة الجائلين من القفز والركوب في المقعد الخلفي.
أما أولئك الذين تجرَّأوا على خوض التجربة، فقد وجدوا أنفسهم ضحيةً للمضايقات باستمرار حتى أن البعض اكتفى بمشاهدة المزار الوحيد المتبقي من عجائب الدنيا السبع من العالم القديم من الطابق الثاني في مطعم بيتزا هت بالجوار، كما ذكر تقرير لصحيفة Los Angeles Times الأميركية الخميس 27 سبتمبر/أيلول 2018.
وبعدما تراجعت السياحة لعدة سنوات، بدأت تشهد أخيراً رواجاً من جديد، والفضل يعزو إلى تحسين الوضع الأمني والتنافس في الأسعار. إذ ارتفعت أعداد الزوَّار بنسبة 50% عن العام الماضي.
وتبذل مصر جهوداً للدفع بعملية ترميم كبرى لهضبة الجيزة التي تضم أبو الهول والأهرامات الفرعونية الثلاثة، بما فيها الهرم الأكبر خوفو، الذي يُمثِّل الأعجوبة الهندسية البشرية. علماً أنه بُني حوالي عام 2560 قبل الميلاد.
شركة مملوكة للجيش تعيد إحياء مشروع بمليار دولار لتطوير تجربة زيارة الأهرام
وتشير الصحيفة إلى أن شركةً يملكها الجيش تضطلع بالإشراف على مشروعٍ بقيمة 23 مليون دولار ينطوي على إنشاء مركز جديد للزوار، ونظام أمني على أحدث طراز، وأسطول من الحافلات الكهربائية لنقل الزوار من الأماكن المحيطة بالمتحف المصري الكبير وإليها.
وهو مشروعٌ هائل بحدِّ ذاته تكلَّف مليار دولار (أسهمت فيه القروض المصرفية من اليابان بحصةٍ كبيرة) ولا يزال قيد الإنشاء منذ ما يقرب من 20 عاماً.
لكن الجهود التي استغرقت عقداً من الزمان لتجديد موقع الأهرامات توقَّفَت فجأةً بعد الثورة عام 2011، إذ شهدت العائدات من السياحة انخفاضاً حاداً في جميع أنحاء مصر.
وأعلن أعضاء الحكومة عام 2016 أن العمل قد استؤنِفَ من جديد بإشرافٍ من شركة Queen، وهي شركةٌ مسؤولة عن الخدمات الأمنية وخدمات الضيافة تحظى بصلاتٍ بالقوات المسلحة.
وقال المسؤولون إنهم سيتعاقدون مع شركاتٍ خاصة من أجل الحفاظ على الموقع وتأمينه وتنظيفه، وهي فكرةٌ لاقت استحساناً من قبل علماء الآثار ومُتعهِّدي السياحة، الذين فقد الكثير منهم الإيمان بقدرة الدولة على إدارة الموقع.
وزير السياحة السابق: هضبة الأهرامات "حديقة حيوان مفتوحة"
قال زاهي حواس، وزير الآثار الأسبق: "ستقوم الدولة بعملٍ أفضل، إذ لا يمكنك الاستمتاع بسحر الأهرامات بينما يزعجك أحدهم لتشتري منه وشاحاً".
دأب زاهي حواس منذ فترةٍ طويلة على انتقاد هضبة الجيزة واصفاً إياها بأنها "حديقة حيوان مفتوحة" مُعبَّأة بالقمامة، ويتجوَّل فيها الجميع دون قيود، وتعجُّ بالباعة غير المُرخَّص لهم وحيواناتٍ للركوب على ظهورها.
لم يُفصَح عن تفاصيل بخصوص الشركات، ولطالما أُرجِئ المشروع مراراً، شأنه في ذلك شأن مشروع المتحف.
وفي مقالٍ نُشِرَ في شهر يناير/كانون الثاني، لاحظ موقع Egyptian Streets أنه على الرغم من تعهُّد المسؤولين بدفع ملايين الدولارات من أجل إجراء تحسينات بنهاية عام 2016، فإن الموقع ظلَّ "غير آمن، وغير نظيف، وتسوده الفوضى" ويفتقر حتى للتحسينات الأساسية التي طال انتظارها مثل ماكينات الصرف الآلية وسلال القمامة.
فالزحف العمراني يتعدى على جلالة الآثار
جادل حواس، في مقالٍ نُشِرَ في مجلةٍ أكاديمية عام 2000، بأن الزحف العمراني في القاهرة الحديثة بدأ في العقود الأخيرة يتعدَّى على جلالة الأهرامات العريقة، التي لطالما وقفت قائمةً معزولةً في الصحراء.
أدرجتها هيئة اليونسكو ضمن قائمة مواقع التراث العالمي عام 1979، لكن في الأعوام اللاحقة تعرَّضت لتهديدٍ من عملية البناء غير القانوني والتوسُّع السريع للأحياء المجاورة التي تُعرَف الآن باسم حي الهرم (الأهرام)، الذي يعاني من تلوث عوادم السيارات والسياحة غير الخاضعة لضوابط.
تمكنت البعثة الاثرية المصرية العاملة بمنطقة صان الحجر بالشرقية، من الانتهاء من أعمال ترميم وتجميع و اعادة رفع أحد تماثيل الملك رمسيس الثاني الموجودة بالمنطقة، وذلك ضمن أعمال مشروع تطوير منطقة صان الحجر الذي بدأته الوزارة في 2017، لتحويلها إلى متحف مفتوح للاثار المصرية. pic.twitter.com/m98VQwCYqn
— Ministry of Antiquities (@AntiquitiesOf) July 28, 2018
والبعض يلعبون كرة قدم قرب الأهرام ويتسلقون حجارتها
كتب حواس أنه أثناء العطلات الوطنية يمكن رؤية الآلاف يلعبون كرة القدم عند الأهرامات ويتسلَّقونها وبالتالي أفضى ذلك إلى بناء سياج يحيط بالموقع عام 2008.
وأضاف: "يجب أن تكون الأهرامات من أجل الناس، ولكنها مثل طبقٍ من ذهب وبدلاً من تنظيفه والاعتناء به فإنهم يلوثونه".
وقدَّم عدة حلقات تلفزيونية واقعية عرضتها قناة History التلفزيونية الأميركية قبل اندلاع ثورات الربيع العربي، ثم طُرِدَ على خلفية اتهامات بالفساد والسعي وراء الشهرة.
يُعد نظام الأمن في أهرامات الجيزة متساهلاً مقارنةً بذلك المُطبَّق عند الكولوسيوم في روما أو حائط المبكى في القدس، حيث تخضع حركة الزوَّار لقيودٍ صارمة، وحيث لا يوجد سورٌ مرتفعٌ لإبعاد الباعة الفقراء الساعين وراء الدولارات.
بعدما كان هناك نقص في الباعة ووفرة في السياح، انقلب الأمر
Doesn't my face say it all? This is Ipet Isut now called Karnak. One of the grandest Neter Het's (Devine houses) in all the world!! It is said the concept of the golden ratio or PI is represented here and as you can see I'm Literally STUNNED at the massiveness of everything💥 pic.twitter.com/K4d8Sz6YCS
— Alicia Keys (@aliciakeys) September 3, 2018
المغنية العالية أليشا كيز في زيارة للاهرامات قبل عدة أسابيع
أغدقت السياحة على الاقتصاد المصري بمبلغ يكافئ 12 مليار دولار عام 2010، أي أكثر من عُشر الناتج المحلي الإجمالي للدولة.
ويتذكَّر بعض متعهِّدي السياحة الراقين بأسى تلك الأيام حينما كانوا يحجزون مُسبَّقاً رحلات الركوب على الجمال للأفواج.
قال كريم المِنباوي، مدير شركة "إمكو ترافيل" الواقعة بالقاهرة: "كنَّا نعاني من نقصٍ في الباعة آنذاك، ثم انقلب الوضع".
"كانت فوضى".. واستهداف السيّاح لم يحسّن الوضع
عزف السيَّاح الغربيون عن المواقع الثقافية في جميع أنحاء مصر خلال عامين من الاضطرابات السياسية التي تبعتها سلسلةٌ من العناوين المخيفة: عام 2015، قتلت قوات الأمن بالخطأ عشرات من السياح المكسيك الذين يجوبون الصحراء، وبعد مرور بضعة أشهر قصف إرهابيون طائرةً تحمل سيَّاحاً روساً بعد وقتٍ قصير من إقلاعها من منتجعٍ بالبحر الأحمر.
اكتظت منتديات المناقشة عبر الإنترنت المُتعلِّقة بأهرامات الجيزة بأوصافٍ مزعجة عن الحيوانات الهزيلة المُعرَّضة للأذى والباعة العدوانيين الذين يتحرَّشون جسدياً بالزوَّار إن لم يتجاوبوا معهم.
قالت مونيكا حنا: "كانت فوضى". ومونيكا هي عالمة آثار مصرية أصبحت ناشطةً بعد الثورة، ثم أسَّسَت مجموعةً إعلامية لمكافحة انتشار عمليات نهب الآثار التي لا تُقدَّر بثمنٍ، تلك العمليات التي لم تخضع لمراقبةٍ فعلية منذ عام 2011.
لماذا لا تُعامل سياحة الأهرامات كبقية المواقع التاريخية مثل روما؟
تستشهد مونيكا بالجهود المبذولة في إيطاليا، كما في أماكن أخرى، للحفاظ على المواقع التاريخية، تلك الجهود التي تُموَّل من خلال الشراكة بين القطاعين العام والخاص والتي من الممكن أن تكون قدوةً لمصر.
تُعَد مثل تلك الترتيبات أمراً شائعاً بصورةٍ متزايدة في ما بين الحكومات من سان فرانسيسكو حتى كمبوديا.
في مقابلةٍ أُجرِيَت مؤخراً في مكتب المدير العام لهضبة الجيزة، أشرف محيي، الذي يقع بالقرب من الهرم الأكبر، قال محيي إنه على الرغم من تباطؤ التقدُّم الملموس، فقد أُنجِزَ "95% بالفعل".
حاولت الدولة تنظيم الباعة وهددت المخالفين بالسجن
تحسَّنَت الأوضاع في الموقع منذ العام الماضي مع الانتعاش السياحي الذي طال انتظاره، بالرغم من عدم تحقيق معظم المرافق الموعودة في الغالب بما فيها بازار لبيع الهدايا التذكارية و"حديقة لركوب الخيل والجمال".
وذات صباح، أضحى الباعة في الأهرامات يحملون شارات الهوية الجديدة اللامعة بينما يسعون للالتفاف حول السيَّاح. فرضت السلطات في الآونة الأخيرة غراماتٍ جديدة قاسية على الباعة اللحوحين للغاية. وقال محيي: "في حال وجود أيِّ شكوى، سنزُج بالمتعدِّي مباشرةً في السجن".
لكن المشكلة أن مصر تقدم الأهرام للأجانب ولا تثقّف أو تحتضن السياحة الداخلية
لكن مونيكا قالت إن تلك الإجراءات لن تحل مشكلةً أكبر مُتمَثِّلةً في أن المصريين العاديين يخالون أن الآثار والمتاحف هي ملك للدولة لا علاقة لهم بها.
وقالت: "لسوء الحظ ركَّزَت الحكومة أولويتها على مدار الثلاثين عاماً الماضية تجاه تقديم الخدمات لاستيعاب السياح بدلاً من المجتمع المحلي"، مشيرةً إلى وجود مئات من الكتب باللغة الإنكليزية عن تاريخ الأهرامات في حين لا يوجد عنها بالعربية إلا القليل فقط.
وأضافت: "كيف لنا أن نتوقَّع من الناس تقدير تراثهم الثقافي في حين أننا لم نفعل شيئاً حيال تثقيفهم عنه؟".