بمقتل راهب بارز داخل كنيسة مصرية تسلَّطت الأضواء على تجاوزات أصابت الرهبنة، التي انطقلت من مصر إلى العالم منذ القرن الرابع الميلادي.
وهو ما استدعى اتخاذ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية 12 قراراً، وصفها مفكِّر مصري بالتاريخية، لضبط "حياة الصحراء" (الرهبنة).
في 29 يوليو/تموز الماضي، قُتل الأسقف إبيفانيوس، رئيس دير "أبومقار" (شمال)، أحد أبرز أديرة الرهبنة بمصر.
وعُثر على جثة الأسقف أمام مسكنه بالدير غارقاً في الدماء، في واقعة نادرة أثارت غضباً ومخاوف في مصر من دخول الحياة الرهبانية "نفقاً مظلماً".
لكن، وعقب خمسة أيام من الجريمة أصدر بابا أقباط مصر تواضروس الثاني 12 قراراً لـ"ضبط الرهبنة".
كما أعلنت الكنيسة، الأحد الماضي، تجريد أحد رهبانها من صفته الدينية وطرده من الدير.
ومثَّل ذلك أول تفعيل لعملية "ضبط الرهبنة"، بعد أيام من غلق البابا صفحته على موقع فيسبوك.
ووفق قول المتحدث باسم الكنيسة المصرية، بولس حليم، فإن الكنيسة كانت بحاجة إلى مثل هذه القرارات لـ"ضبط حياة الرهبنة ومعالجة المعوقات والتحديات التي طالتها".
و"الرهبنة" في المعتقد المسيحي هي حركة اجتماعية نشأت في القرن الرابع الميلادي على يد الأنبا أنطونيوس، الملقب بـ"أبا الرهبان"، وتفرض على سالكيها الانعزال عن العالم واللجوء إلى الزهد والتعبد في أديرة بالصحراء.
ما هي الرهبنة؟
تعد حركة الرهبنة في مصر "حاكمة"، إذ يجوز للراهب، الذي يمر باختبارات وطقوس روحية لسنوات، التصعيد إلى رتبة "أسقف"، وهو بمثابة رجل دين مسؤول.
كما يمكنه أن يصبح البطريرك (رأس الكنيسة)؛ إذ يشترط لتولي هذه المناصب أن يكون الرجل راهباً، حسب التقليد الكنسي.
والدير الذي شهد مقتل الأسقف إبيفانيوس (لم تكشف التحقيقات حتى الآن عن الجناة) هو الأبرز بين الأديرة الكنسية.
ففي هذا الدير عاش الأب متى المسكين (1919 – 2006)، الذي وصف بـ"أحد أهم قادة الفكر الروحي في العالم"، وشهد صراعات داخلية بين المسكين والبطريرك الراحل شنودة الثالث (1971 – 2012)، حول التعاليم الكنسية.
قرارات ضبط الإيقاع
من رحم مقتل رئيس الدير خرج 12 قراراً من لجنة الرهبنة وشؤون الأديرة في المجمع المقدس (أعلى هيئة دينية لإدارة شؤون الكنيسة)، برئاسة البابا تواضروس، بهدف "ضبط حياة الرهبنة والأديرة".
وشملت القرارات: "وقف رهبنة أو قبول رهبان جُدد في جميع الأديرة الأرثوذكسية (لا يوجد إحصاء بعددها) لمدة عام (بداية من أغسطس/آب الجاري)، وتجريد رهبان أديرة غير معترف بها رسمياً.
وتحديد عدد الرهبان في كل دير حسب ظروفه وإمكانياته، وقف ترقية الرهبان في درجات الكهنوت (قسيس وقُمّص) لمدة ثلاث سنوات، وحظر حضور علمانيين (شعب الكنيسة) في رسامات الرهبنة"، واقتصار الرحلات والزيارات للأديرة على ثلاثة أيام فقط أسبوعياً، والالتزام بحياة الرهبنة، وتجريد الراهب حال الظهور الإعلامي أو التورُّط في معاملات مالية والتواجد خارج الدير دون إذن كنسي، حظر حضور الراهب للجنازات والأكاليل (الأفراح)، وإغلاق صفحاتهم على منصات التواصل الاجتماعي.
ودعا البابا تواضروس، من خلال القرارات، جموع الأقباط إلى عدم التعامل المالي مع الرهبان، وحث الأديرة على تفعيل دليل كنسي رسمي بشؤون الرهبنة.
وقالت الكنيسة المصرية، في بيان آنذاك، إن هذه القرارات لـ"حفظ الوقار والأصول الرهبانية الأصيلة وضبط الحياة الرهبانية وتجويد العمل الرهباني، والبعد عن السلوكيات والتصرفات التي لا تليق بالحياة الرهبانية".
وفي 3 أغسطس/آب الجاري، أعلن البابا تواضروس إغلاق صفحته الرسمية على فيسبوك؛ معتبراً أنها "مضيعة للعمر والحياة والنقاوة".
وبعدها بيومين، وفي أول تفعيل لـ"ضبط الرهبنة"، أعلنت الكنيسة تجريد أحد رهبانها من صفته الدينية وطرده من الدير، دون إعلان أسباب، ، ونفت أن يكون لذلك علاقة بمقتل رئيس الدير.
في اليوم التالي، حاول راهب يدعى فلتاؤس المقاري (باحث كنسي) من الدير الذي قُتل رئيسه، الانتحار بقطع شريان يده وإلقاء نفسه من أعلى مبنى مرتفع بالدير، في واقعة أضافت غموضاً جديداً على واقعة القتل.
تدخل جراحي حتمي
بحسب ما رآه "تدخلاً جراحياً حتمياً"، استحسن المفكر المصري جمال أسعد القرارات البابوية، قائلاً إنها "واجبة وتاريخية".
أسعد أضاف أنها "قرارات جريئة من البابا تواضروس يعلنها بكل شفافية ومصارحة تتفقان مع التقاليد المسيحية، لا سيما أنها تشير بشكل غير مباشر إلى وجود فوضى تهدد حياة الرهبان والأديرة في مصر".
وتابع أن "الرهبنة موت عن العالم وتبتل وطاعة وفقر اختياري".
واستدرك: "لكن الأديرة عادت إلى العالم وتعاملت مع الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي بشكل لا يتفق مع أصول الرهبنة".
وتساءل: "هل المناخ يجعل هذه القرارات سارية المفعول؟ أقول لا، فلا يزال يوجد مستفيدون من هذا المناخ، وبالتالي ستكون مهمة البابا قاسية وشديدة، لكن مطلوب أن يتصدى المجمع مع البابا لعملية ترسيخ القيم المسيحية".
ورأى أسعد أن تلك القرارات يجب أن تتبعها "شدة وحزم في التطبيق، وإلا ستكون قرارات كالعادة (تفتقر إلى التطبيق)".
واستدرك: "لكن الإيمان والرهبنة الحقيقية لا تحتاج إلى قرارات، فهي تنبع من القلب، لكن الحياة المادية طغت".
وشدد على أن "البابا جريء ونيته تحمل الإصلاح، لكن الصراع الداخلي والموروث سيواجهه بالطبع"، دون تفاصيل.
معالجات للنماء
الكنيسة المصرية، وعلى لسان المتحدث باسمها بولس حليم، قالت إنها كانت "في أشد الاحتياج لمثل هذه القرارات، التي عبرت عن نبض الشارع الكنسي".
وتابع حليم أن تلك القرارات "تضبط الحياة الرهبانية بقوة، وتعالج المعوقات والتحديات التي تعوق نمو الرهبنة".
ومضى قائلاً إن "هذه القرارات لاقت قبولاً وارتياحاً من الكنيسة وجميع شعبها".
واعتبر حليم أن "ضبط إيقاع الحياة في الأديرة ليس بجديد على الكنيسة، ففي عهد البابا كيرلس السادس (1959-1971) أصدر قراراً بعودة كل الرهبان إلى أديرتهم".
وزاد بأنه "في عهد البابا شنودة (1971-2012) أصدر قراراً بإنهاء خدمة الرهبان الذين يخدمون بالكنائس بعد كل سبعة أعوام ليعودوا إلى الدير لمدة عام، ومنع استخدام الرهبان للهواتف النقالة".
وأشار حليم إلى أنه "بين الحين والآخر تتم مراجعة حياة الديرية حتى تستمر وتنمو، لكن أول مرة تحدث وقف القبول أو السيامات لمدة محددة على كل الأديرة".
وشدّد المتحدث باسم الكنيسة على أهمية تلك القرارات قائلاً إن "ضبط الحياة الرهبانية ضروري من حين إلى آخر لنمو الحياة الرهبانية وازدهارها".
ولفت إلى أن "الكنيسة القبطية هي التي أسست الرهبنة ونشرتها في العالم كله، وهي منبع الرهبنة لكل كنائس العالم".
وتابع حليم: "وهي وريثة مدرسة الإسكندرية اللاهوتية، وحافظت على الإيمان والميراث الروحي والكنسي في الأزمنة الصعبة، لذلك سيتم ضبط الرهبنة باستمرار حتى تستمر منارة للعالم كله".
ويبدو أن القرارات الـ12 لن تكون الأخيرة، ففي عظته الأسبوعية بالقاهرة، يوم 8 أغسطس/آب الجاري، تحدث البابا تواضروس عن "قرارات جديدة ستصدر لضبط الحياة الرهبانية" (لم يحددها).
وشدد على أن "القرارات (الـ12) لم تصدر منه فقط، ولكن بمشاركة كبيرة من رجال الكنيسة، في إطار قانوني".
وتأسست "الرهبنة" بمصر في القرن الرابع الميلادي على أيدي آباء المسيحية الأوائل، وأبرزهم: الأنبا أنطونيوس والأنبا مكاريوس الكبير.
ويقدر عدد الأقباط في مصر بنحو 15 مليون نسمة، وفق تقديرات كنسية رسمية، من إجمالي عدد السكان البالغ قرابة 104 ملايين نسمة.
والطائفة الأرثوذكسية هي الأكبر بين طوائف مسيحية عديدة في مصر.
اقرأ أيضاً