أثار قرار الإدارة الأميركية بإقرار المساعدات العسكرية إلى مصر دون اشتراط تحقيق تقدم في ملف حقوق الإنسان لأول مرة منذ أربع سنوات وهي الفترة التي وصل فيها الرئيس جو بايدن إلى سدة الحكم، تساؤلات عديدة حول أبعاد القرار.
وبدا القرار مرتبطاً بتطورات الأوضاع في قطاع غزة وتعامل القاهرة بحالة من الهدوء في وجه الاستفزازات الإسرائيلية المستمرة على الحدود مع إصرارها على البقاء في محور فيلادلفيا بالمخالفة لاتفاقية السلام والملحق الأمني للحدود الموقع في العام 2005.
ولكن هناك رؤية مختلفة كشفت عنها مصادر تحدث إليها "عربي بوست" والتي كشفت أن الخطوة الأميركية يمكن النظر إليها وفق تطور علاقات النظام المصري بالديمقراطيين منذ العام 2020 وحتى الآن، إذ بدأت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن بخلاف حاد مع الرئيس عبدالفتاح السيسي ونظامه وقررت وضع ملف حقوق الإنسان في مقدمة أولوياتها لتحديد شكل العلاقة مع مصر.
وأضافت المصادر نفسها أن أمريكا بدأت بحجب جزء من المساعدات السنوية المقدمة ضمن بنود اتفاقية السلام "كامب ديفيد" بين مصر وإسرائيل، وأخذت العلاقة في التطور كلما تمكنت القاهرة من تهدئة الموقف بشأن الحروب التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة خلال فترة وجيزة.
دور القاهرة
وقال دبلوماسي مصري مطلع على محادثات بين الجانبين، إن حالة البرود في العلاقات التي استمرت خلال الأشهر الأولى من فترة حكم الرئيس جو بايدن أخذت منحى مغايراً مع الحرب الإسرائيلية التي شنتها على القطاع في مايو/ أيار من العام 2021.
وساهمت جهود القاهرة في أن تقف في فترة وجيزة، ودفع ذلك الرئيس جو بايدن للتواصل مع السيسي مرتين خلال أربعة أيام وأرسل وزير خارجيته بلينكن إلى القاهرة لضمان تهدئة الأوضاع، وهو ما تكرر أيضاً في العدوان القصير على القطاع في العام 2022.
وأضاف المصدر ذاته، إن تفاهمات الإدارة الأميركية مع القاهرة في ذلك الحين ركزت على أن ترمي القاهرة باتخاذ بعض الإجراءات التي تشير إلى تحسن في مجال حقوق الإنسان، دون ممارسة ضغوط قوية لإحداث تغيير شامل في هذا الملف.
وفي المقابل أن تلعب القاهرة أدواراً تساعد في تهدئة الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتواصل ،وبدا ذلك محدداً لشكل العلاقة في ظل مساعي الإدارة الأميركية التأكيد على حفظ أمن إسرائيل، التي عانت مشكلات وأزمات داخلية ولم يكن لديها حكومات مستقرة في أغلب هذه الفترات.
ويلفت المصدر ذاته إلى أن الإدارة الأميركية تعاملت مع ملف حقوق الإنسان من منظور داخلي أكثر من كونه مؤثراً في العلاقة مع مصر لأن ما حجبته خلال السنوات الأربع الماضية ليس مؤثراً بالنظر إلى إجمالي المساعدات، كما أنها فتحت الباب أمام تزويد القاهرة بالمزيد من صفقات السلاح التي كانت بمثابة تعويض عما يتم حجبه استجابة لضغوط تيارات داخل الحزب الديمقراطي أولت أهمية للملف الحقوقي.
وأن القاهرة قبلت التعاون على هذا الأساس، لتأخذ الفتور شيئاً فشيئاً نحو التطور، وأضحى هناك قناعة لدى الديمقراطيين الأكثر تحفظاً ضد مصر مقارنة بالجمهوريين بأن ورقة القاهرة يجب الاحتفاظ بها وتوظيفها بشكل إيجابي بدلاً من تركها مجاناً لخصومهم.
وقررت الخارجية الأمريكية الأربعاء إعفاء مصر من الشروط المتعلقة بحقوق الإنسان المرتبطة بالمساعدات العسكرية، ومنح القاهرة المساعدات العسكرية كاملة بقيمة 1.3 مليار دولار لهذا العام دون أي استقطاعات، وذلك من أجل "مصلحة الأمن القومي الأمريكي،" حسب بيان لمتحدث الخارجية الأمريكية.
وتمنح الولايات المتحدة مصر سنوياً مساعدات عسكرية بقيمة 1.3 مليار دولار، ويربط الكونغرس نحو 300 مليون دولار منها بأوضاع حقوق الإنسان، لكن إدارة بايدن أعلنت سبتمبر أيلول من العام الماضي أنها قررت التنازل عن قيود حقوق الإنسان في مصر مقابل 235 مليون دولار من المساعدات، معللة ذلك بالمزايا الأمنية التي ستحصل عليها الولايات المتحدة في المقابل.
وفي عام 2022، حجبت واشنطن ما قيمته 130 مليون دولار، وسمحت بالإفراج عن 75 مليون دولار من المساعدات العسكرية، كما تلقت القاهرة 95 مليون دولار أخرى بموجب استثناء قانوني يتعلق بتمويل مكافحة الإرهاب وأمن الحدود، وفي عام 2021 حجبت الولايات المتحدة أيضاً ما قيمته 130 مليون دولار بسبب ملف حقوق الإنسان في مصر، ومنحتها 200 مليون دولار من المساعدات العسكرية.
ما الدور الذي تلعبه مصر؟
وأشار مصدر دبلوماسي آخر بالخارجية المصرية لـ"عربي بوست"، إلى أن الأوضاع الإقليمية وتوقيت إقرار المساعدات قبل الانتخابات الأميركية وفي ظل تصعيد متوقع بالمنطقة دفع لإقرار المساعدات العسكرية كاملة ووضع ملف حقوق الإنسان جانباً ولو بشكل مؤقت.
مشيراً إلى أن إدارة بايدن تقع في مأزق انتخابي مع اشتعال النيران من حولها في بؤر جغرافية عديدة حول العالم دون أن تكون متأكدة بأن أيّاً منها قد لا يتحول إلى صراع موسع يُربك المشهد الانتخابي ويجعلها مضطرة لتدخلات عسكرية أوسع، وبالتالي هناك توافق على الأدوار التي ارتضتها الإدارة الأميركية الحالية لمصر في هذا التوقيت للحفاظ على البقاء في حالة التهدئة وعدم الوصول إلى الحرب الشاملة.
وأوضح المصدر ذاته أن التنافس الديمقراطي الجمهوري على توفير عناصر الحماية لإسرائيل يتطلب استجداء مواقف القاهرة لعدم قلب الطاولة على حكومة نتنياهو في ظل استفزازاتها الأخيرة بشأن البقاء في محور فيلادلفيا، ويستهدف الديمقراطيين إرسال إشارات لإسرائيل بأن مصر وغيرها من دول الجوار الجغرافي وفي (الأردن والسلطة الفلسطينية) ستحافظ على معاهدات السلام التي جرى توقيعها معها وأن كامب ديفيد واتفاقية وادي عربة مع الأردن واتفاق أوسلو مع السلطة الفلسطينية ستظل كما هي دون تأثير.
وشدد المصدر ذاته على أن الولايات المتحدة تمنح إشارات لإسرائيل بالتفرغ للجبهات الأخرى تحديداً جبهة الشمال مع حزب الله وقطاع غزة ومواجهة محور إيران في حال حدث تصعيد خلال الفترة المقبلة، وأن الديمقراطيين يستهدفون بالأساس نفي مقولة ترامب التي يؤكد عليها مراراً وتكراراً بأنه في حال وصول الديمقراطيين فإن إسرائيل سوف تسقط في غضون عام أو عامين ويبذلون كافة جهودهم للتأكيد على أن المرشحة كامالا هاريس ستقدم كل ما في وسعها للحفاظ على أمن دولة الاحتلال، وهو ما تطلب تقديم مزيد من التنازلات قد لا تكون لمصر فقط ولكن لكافة الأطراف التي يمكن أن تشكل تهديداً لإسرائيل
والمعونة الأمريكية لمصر هي مبلغ ثابت سنوياً تتلقاه مصر من الولايات المتحدة الأمريكية في أعقاب توقيع اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979، حيث أعلن الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت جيمي كارتر، تقديم معونة اقتصادية وأخرى عسكرية سنوية لكل من مصر وإسرائيل، تحولت منذ عام 1982 إلى منح لا ترد بواقع 3 مليارات دولار لإسرائيل، و2.1 مليار دولار لمصر، منها 815 مليون دولار معونة اقتصادية، و1.3 مليار دولار معونة عسكرية، ويبلغ إجمالي ما حصلت عليه مصر خلال هذه العقود الماضية منذ توقيع اتفاق السلام نحو 80 مليار دولار.
وتمثل المعونات الأمريكية لمصر 57% من إجمالي ما تحصل عليه من معونات ومنح دولية، من الاتحاد الأوروبي واليابان وغيرهما من الدول، كما أن مبلغ المعونة لا يتجاوز 2% من إجمالي الدخل القومي المصري.
وكشف مصدر عسكري مصري، أن المساعدات العسكرية لديها أهداف أبعد من المواقف السياسية لأنها تضمن استمرار التدريب والتأهيل الفني والخدمات العسكرية التي تقدمها الولايات المتحدة للجيش المصري ما يعني مزيداً من التعاون العسكري مع انفتاح القاهرة على أنظمة عسكرية أخرى خلال السنوات الماضية، وهناك قناعة داخل وزارة الدفاع الأميركية بأن ذلك يشكل خطراً أيضاً على أمن إسرائيل وعلى مجمل التنسيق العسكري القائم منذ التوقيع على اتفاقية السلام وحتى الآن.
ولفت إلى تنامي الصراعات الدولية حول بيع الأسلحة وتسويقها وتقديم الولايات المتحدة مساعدات بمئات المليارات من الدولارات إلى إسرائيل يتطلب أن تنشط مبيعاتها، وأن تضمن السيطرة الأكبر على أسواق السلاح حول العالم، وبالتالي فإن تقديم كامل المعونة العسكرية إلى مصر يضمن أن تكون قبلة القاهرة الأولى نحو الولايات المتحدة وهو ما بدأ في التحقق بالفعل خلال السنوات الأخيرة مع عودة المناورات المشتركة بين البلدين واستقرار العلاقات العسكرية بعد فترات من الفتور قبل عشر سنوات تقريباً.
وكشف المصدر أيضاً عن أن مصر سيكون لديها مطالب بضرورة تحديث أنواع الأسلحة التي تحصل عليها، لإحداث التوازن العسكري في المنطقة، وأن ضمان استقرار معاهدة السلام يتطلب أن تنفتح الولايات المتحدة بشكل أكبر على إحداث تعاون عسكري فعال وليس مجرد تقديم معونة تقدم بمقتضاها أنوع الأسلحة التي تقدمها، مشيراً إلى أن الرغبة الأميركية في التعاون مع مصر بمجالات الطاقة وتأمين منطقة شرق المتوسط التي تقبع على آبار من الغاز الطبيعي المسال يدفع أيضاً نحو تقديم الدعم العسكري كاملاً دون النظر لأي اعتبارات أخرى.
وأشار إلى أن مصر كذلك تلعب دوراً مهماً في تأمين منطقة البحر الأحمر وتبقى مواقفها المعارضة لوجود قاعدة عسكرية روسية على سواحل البحر الأحمر في بورتسودان السودانية أمراً مُقدراً من جانب الولايات المتحدة، وتدرك مصر بأن وجود قوى عظمى متعارضة في الأهداف ولديها صراعات موسعة قابلاً لأن يقود لتفجر الأوضاع في منطقة البحر الأحمر ومن ثم تبقى تأثيرات ذلك أكثر سلبية على قناة السويس التي تأثرت بالفعل جراء الهجمات الحوثية على إسرائيل.
وقبل أيام استقبل المهندس كريم بدوي وزير البترول والثروة المعدنية، هيرو مصطفى غارغ سفيرة الولايات المتحدة الأمريكية في مصر، لبحث سبل تعزيز التعاون بين الجانبين من خلال شركات البترول الأمريكية العاملة بمصر في أنشطة البترول والغاز ومشروعات كفاءة الطاقة وخفض الانبعاثات.
وأكدت السفيرة الأمريكية أن العلاقة بين مصر وأمريكا علاقة إستراتيجية، وهناك العديد من الشركات الأمريكية تعمل في مصر في مختلف المجالات وتسعى دائماً لزيادة استثماراتها، وأن قطاع الطاقة من القطاعات المهمة، وهناك شراكات ناجحة في هذا القطاع، لافتة إلى أن بلادها تدعم مصر كمركز إقليمي هام للطاقة في المنطقة ولديها من البنية الأساسية والتسهيلات التي تؤهلها لذلك الدور.
تشمل المساعدات العسكرية الأمريكية لمصر عدة أنواع من الدعم، منها: المعدات العسكرية والتدريب والدعم اللوجيستي والتعاون الاستخباراتي، ويتطلب 225 مليون دولار من هذا التمويل العسكري الأجنبي من مصر تلبية شروط حقوق الإنسان، كما أن 95 مليون دولار منها مشروطة بأن تحرز القاهرة "تقدمًا واضحًا وثابتًا في إطلاق سراح السجناء السياسيين، وتوفير الإجراءات القانونية الواجبة للمحتجزين، ومنع مضايقة وترهيب المواطنين الأميركيين".
وقال محلل سياسي مصري، إن الديمقراطيين على وجه التحديد يستخدمون ملف حقوق الإنسان على رأس أدوات الضغط ضد الدول التي لديها خلافات أو مطالب منها، لكن حينما يتعارض ذلك مع المصالح الأميركية يتم تنحيه الملف جانباً، وأن ذلك يحدث مع غالبية الأنظمة العربية والإفريقية التي ترى الولايات المتحدة أنها تحقق مصالحها وتتعاون معها في مجالات مختلفة بعيداً عن الملف الحقوقي.
وأوضح أن ملف حقوق الإنسان في حد ذاته شهد تراجعاً ضمن أولويات الإدارة الأميركية الحالية لأن إسرائيل ارتكبت كافة أنواع المجازر ووصلت إلى حد الإبادة الجماعية دون أن تتحرك لانتقادها ولم تعد هذه الورقة يمكن أن تُحدث تأثيراً على الأنظمة التي تتأثر على نحو كبير بمواقف الداخل وتدرك بأن عدم استجابتها لن يكون لديه مردود خارجي كبير.
وذكر أن الولايات المتحدة تهدف لتصويب صورتها لدى الشعوب العربية بعد أن ظهرت كداعمة لجرائم الاحتلال الإسرائيلي ودائما ما يجري تسويق قراراتها الخاصة بشأن حجب جزء من المعونة لأوضاع حقوق الإنسان على أنه تدخلاً في الشأن الداخلي المصري، كما أنها تدرك بأن القاهرة حافظت على انضباط استراتيجي طيلة العام الماضي منذ اندلاع حرب غزة ولم تشكل تهديداً على مصالحها على العكس لعبت أدوار مهمة خدمت الحضور الأميركي في الأزمة الحالية، ولن يكون من المنطقي أن تكون النتيجة هو الدخول في مناكفات مع النظام المصري بشأن المساعدات.