بعد أكثر من 70 عامًا على العمل القانون الجنائي في مصر، وافقت لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية بالبرلمان المصري، الأربعاء 13 سبتمبر/ أيلول 2020، نهائيًا على مشروع قانون جديد، بعدما انتهت اللجنة من مناقشة جميع المواد المقترحة، وسط حالة من الجدل والاعتراضات طالته خلال الأيام الماضية وما زالت.
غير أن اللجنة ذهبت باتجاه الاستجابة لبعض مطالب المحامين والصحافيين الفئوية، فيما ظلت المواد المحددة لطبيعة الحريات العامة كما هي دون تعديل بانتظار النقاش مجددًا حولها مع إحالتها للجنة العامة لمجلس النواب مع بدء دورته الخامسة والأخيرة خلال الشهر المقبل.
واعترضت نقابة المحامين المصرية بشدة على مشروع القانون واعتبرته خطرًا على العدالة، فيما أعلن نقيب الصحفيين، خالد البلشي، تضامنه مع المحامين في اعتراضهم، لا سيما أن القانون الجديد منح القضاة حق معاقبة الصحفيين أو المواطنين أو المحامين إذا قاموا بالنشر عن القضايا دون تصريح مسبق من قاضي النشر.
لكن الصحفيين فوجئوا ببيان عدائي واتهامات لنقيب الصحفيين من جانب لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية بالمجلس، وهو ما أثار حفيظة الصحفيين وانتفضوا يدافعون عن نقيبهم بسبب أوصاف وكلمات وصلت لحد التهديد.
من جهتها ذكرت نقابة المحامين، أن المشروع المطروح على الرغم مما تضمنه من مزايا واستحقاقات دستورية، لم يحظ بالدراسة الكافية حتى يعبر عن الأهداف المتوخاة من التشريع، مشيرة إلى أنه توسع في سلطات الضبط والتحقيق والمحاكمة على حساب حق الدفاع، والمساس بحقوق جوهرية للدفاع.
ضد مصلحة المتهمين
قال أحد أعضاء مجلس نقابة المحامين، شريطة عدم ذكر اسمه، إن القانون الجديد يبدو ظاهريًا في صالح المتهمين ويحفظ حقوقهم في التقاضي، لكنه في الواقع يشكل انتقاصًا من مكاسب يحققها القانون الحالي.
وأضاف المتحدث في تصريح لـ"عربي بوست" أنه وفقًا للمواد الجديدة فإنه يمكن الاستئناف على الحكم النهائي في الجنايات، بمحاكمة عادلة تكون على درجتي تقاضٍ، الأولى الحكم والثانية الاستئناف على الحكم.
وأشار إلى أنه في الوقت ذاته إذا حصل المتهم على البراءة يصبح غير نهائي، ويجوز الاستئناف عليه، وفقًا للقانون الجديد لأنه للنيابة العامة الحق المطلق في أن تستأنف على حكم البراءة للثبوت، وهو ما يحمله التعديل من سوء للمتهمين الذين يظلون تحت رحمة إمكانية توجيه التهم إليهم في أي وقت.
وأشار إلى أن المادة (419 مكررًا) في التعديلات الجديدة من القانون تشكل انتقاصًا أيضًا من أدوار المحامين، لأنها أجازت للمحكمة أن تنتدب محاميًا آخر لتفصل في القضية دون الرجوع للمحامي الأصيل.
كما أن هذه المادة تقضي بأنه إذا لم يمثل المحامي الأصيل في القضية أمام المحكمة، أو لم ينتبه بأن القضية قد نزلت في الوقت المحدد للجلسة، يكون للمحكمة الحق في التصدي للقضية بأن تنتدب محاميًا آخر لتفصل فيها، ورغم أن اللجنة التشريعية طالبت نقابة المحامين بوضع قائمة للمحامين الذين يمكن الاستعانة بهم، لكن ذلك لا يحقق العدالة الكاملة.
ولفت المصدر ذاته إلى أن اللجنة التشريعية استجابت لملاحظات نقابة المحامين على المادة 15 من مشروع القانون، والتي كانت تسمح للمحاكم بتحريك قضايا عن الأفعال التي تقع خارج جلساتها، حيث عدلتها لقصر سلطات المحكمة على الأحداث التي تقع داخل الجلسة فقط، إذ إن تمرير هذه المادة كان يسمح باستهداف المحامين وأسر المتهمين دون مراعاة لعنصر الغضب وحالتهم النفسية، على نحو يمنع مجرد الحديث عن ظروف القضية أو مناقشتها.
وذكر أن اللجنة التشريعية استجابت أيضًا لطلب النقابة تعديل المادة 72 من المشروع، التي كانت تحظر على المحامين أثناء التحقيقات "الكلام أمام أعضاء النيابة العامة إلا بإذن"، حيث تم حذف تلك العبارة، وأن النقابة كانت ترى بأن توسع من سلطات النيابة العامة على حساب دور وحق المحامي في إثبات طلباته ودفوعه في محاضر التحقيق.
وحسب المتحدث فإن الأهم أنها وافقت على تعديل المادة (242) والتي سمحت بمعاقبة المحامي على ما سماه بـ"التشويش المخل بالنظام العام أثناء جلسات المحاكم"، إذ سبق للنقابة الاعتراض على ذلك النص بوصف لفظ "التشويش" مطاطًا وواسعًا وغير منضبط على النحو الذي يسمح باستهداف المحامين والإضرار بهم.
وتمت الموافقة على المادة 242 بعد تعديلها لتصبح كالآتي: "مع عدم الإخلال بالضمانات المقررة في قانون المحاماة المُشار إليه وتعديلاته، إذا وقع من المحامي أثناء قيامه بواجبه في الجلسة وبسببه ما يجوز اعتباره إخلالًا بنظام الجلسة، أو ما يستدعي مؤاخذته جنائيًا، يحرر رئيس الجلسة مذكرة بما حدث. وللمحكمة إحالة المذكرة إلى النيابة العامة لإجراء التحقيق إذا كان ما وقع منه ما يستدعي مؤاخذته جنائيًا، وإلى رئيس المحكمة إذا كان ما وقع منه يستدعي مؤاخذته تأديبيًا، وتخطر النقابة الفرعية المختصة بذلك".
ووجهت المحامية الحقوقية نهاد أبو القمصان، رئيس المركز المصري لحقوق المرأة، انتقادات لاذعة لمشروع قانون الإجراءات الجنائية الجديد، مشيرة في فيديو نشرته عبر موقع يوتيوب: "لم أر في المشروع أي شيء يحد من التوسع المفرط في الحبس الاحتياطي كما يسوق نواب البرلمان القانون".
وأضافت: وجدت في مشروع القانون حوالي 80% من البلاغات تؤدي للحبس الاحتياطي، كما وجدت إفراطًا في استخدام التجديد في الحبس الاحتياطي، وهو ما يؤدي للضغط على الدولة وأماكن الاحتجاز.
وحذرت أبو القمصان من الفقرة الرابعة من المادة 12 لأنها شديدة الخطورة وبمثابة أوامر اعتقال مقننة، حسب وصفها، قائلة: "مبررات الحبس حسبما تعلمنا وأرستها محكمة النقض، أن يكون هناك خوف على الأدلة أو التأثير على الشهود أو سير القضية وما إلى ذلك، أما ما لا أفهمه أن تكون مبررات الحبس الاحتياطي في الفقرة هي "الإخلال الجسيم بالأمن والنظام العام الذي يترتب على جسامة الجريمة"، رغم أن الإخلال بالأمن العام جريمة موضوعية في قانون العقوبات فكيف يتم وضعها كمادة في قانون الإجراءات الجنائية".
وشددت على أن مثل هذه الفقرة التي تتيح إصدار قرارات حبس احتياطي مقننة أو قرارات اعتقال وفق نص القانون، لن يحسن مؤشر العدالة الذي تسعى مصر لتحسينه دوليًا".
انتقاص من الحريات العامة
وقال مصدر مطلع بنقابة الصحافيين المصرية، إن البرلمان استجاب لطلب النقابة بحذف المادة (267) من مشروع قانون الإجراءات الجنائية الجديد، التي تحظر "نشر أخبار أو معلومات عن وقائع الجلسات على نحو غير أمين، يؤثر على حسن سير العدالة".
وأضاف المتحدث أن هذا أمر إيجابي لكن المواد المقترحة بحاجة إلى تنقيح وتعديلات واسعة، وأن النقابة أجرت دراسة شاملة للمواد المقترحة بالتعاون مع عدد من الحقوقيين والقانونيين ووجدت أن 41 من مواد مشروع قانون الإجراءات الجنائية تخالف أحكام الدستور، بالإضافة إلى حاجة 44 مادة لتعديلات جذرية، بينها مادتان على الأقل تتعلقان بعمل الصحافة.
وأوضح أن غالبية مواد القانون لا تمنح الحرية الكاملة للصحافيين لممارسة عملهم ووُضعت العديد من القيود من خلال وضعهم تحت تهديد مباشر للحد من حرية، كما أن المشروع لا يساوي بين سلطة الاتهام وحقوقها والدفاع وحقوقه وضماناته؛ ويُغلب الأولى على الثانية.
واعتبر أن ذلك يشكل انتقاصًا من الحريات العامة التي يجب أن تتيح للمتهم بيئة العدالة التي تجعله واثقًا من حكم القضاء، كما أنه لا يتيح التظلم إلى القضاء في قرارات النيابة العامة بشأن سير التحقيق، وينتقص من حق المتهم والمدافع عنه الحق في المطالبة ببطلان الإجراءات إن تبين له بطلانها في مرحلة المحاكمة وفاته أن يتمسك بها.
وشدد على أن القانون الجديد يجعل من الحكم الغيابي التهديدي حكمًا واجب النفاذ يمنع المتهم من إدارة أمواله، والتصرف فيها، والمتهم تحت رحمة السلطة التنفيذية أثناء وقائع التحقيق والمحاكمة عن بُعد؛ ولا يجعله قادرًا على التأكد من أن ما دوّن في التسجيل، أو المحضر هو بالضبط ما صرح به أثناء التحقيق أو المحاكمة.
ووقعت عدد من المؤسسات الحقوقية وعدد من المحامين وبعض نواب البرلمان على مذكرة لرفض مشروع القانون الجديد، وذكروا في بيانهم أن "لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية بمجلس النواب خرجت على الرأي العام في ١٧ أغسطس الماضي بمشروع قانون الإجراءات الجنائية المُقدم من الحكومة منذ العام ٢٠١٧ بعد أن كان مأمولًا إدخال تعديلات إيجابية على قانون الحبس الاحتياطي، وأن الجديد أقل ما يمكن وصفه بأنه "كارثي" لا يضع السم في العسل بل يضع العسل في السم!".
وأضافوا أنه يلغي الفصل بين السلطات، ويشطب ضمانات وحقوق المتهم في الدفاع عن نفسه، وينسف بشكلٍ كامل دور المحامي في الدفاع عن المتهم ويهدد استقلال مهنة المحاماة كشريك أصيل للقضاء في تحقيق العدالة"، كما منع المحامي من الحصول على صورة من أوراق التحقيقات وجمع الاستدلالات إذا رأى السيد وكيل النيابة أن "ضرورة التحقيق" تقتضي ذلك.
وأكدوا أن مواد القانون المقترح بالغت في رفع قيمة الرسوم القضائية مما يجعل لجوء الفقراء وغير القادرين للقضاء صعبًا ومكلفًا، ويخل بمبدأ المساواة أمام القانون وكأنه خصخصة للقضاء لخدمة من يستطع إليه سبيلًا، ودعوا إلى تشكيل أكبر جبهة ممكنة من المحامين والصحفيين والبرلمانيين والأحزاب والحركات السياسية والشخصيات العامة وكافة النقابات ومن ينضم من المواطنين لسحب القانون ووقف مناقشته.
تطبيق الأسورة الإلكترونية
وفي المقابل قال مصدر مطلع باللجنة التشريعية بمجلس النواب، كان حاضرًا لجميع جلسات إعداد القانون وحتى الموافقة عليه، إن أي فعل بشري لا يمكن الإجماع عليه، بخاصة وأن قانون الإجراءات الجنائية هو الأكبر إذ يضم 540 مادة وبُذل فيه مجهود كبير من جانب اللجنة الفرعية وشاركت به جميع الهيئات ذات الصلة بمنظومة العدالة لما يمثله من أهمية باعتباره دستور مصر الثاني كما أنه يعبر عن منظومة العدالة المصرية.
مشيرًا إلى أن لجنة تشكيل القانون ضمت أعضاء بالمجلس القومي لحقوق الإنسان ووزارات العدل والداخلية ونادي القضاة إلى جانب استدعاء بعض الهيئات حينما كانت تقتضي الضرورة إلى ذلك وهو ما حدث مع نقابة المحامين، وأن ما جرى الموافقة عليه في اللجنة التشريعية هي مسودة لقانون وليس مشروع قانون
كما أن مسار مناقشات مشروع القانون لم ينته بعد، واللجنة التشريعية ستكمل جلساتها وهناك احتمال لتعديلات محدودة أو "طفيفة" على حد قوله قبل العرض على الجلسة العامة في أكتوبر/تشرين الأول المقبل.
وأكد أن اللجنة سوف تقوم الأيام المقبلة بصياغة المواد التي جرى التوافق حولها وتقديمها كمشروع للقانون أمام الجلسة العامة، موضحًا أن المسودة الحالية بها العديد من الحقوق المكتسبة وتقوم فلسفة القانون على أن يتماشى مع روح دستور عام 2014 بدلاً من دستور عام 1923 الذي جرى وضع قانون الإجراءات القانونية الحالي على أساسه.
ونفى أن يكون القانون قد منع المحامين من الحديث أمام النيابة العامة أو التضييق عليهم أثناء دفاعهم عن المتهمين، لكنه في الوقت ذاته أقر بالفعل انتداب محامين آخرين في حال لم يحضر المحامي الرئيسي وأن نقابة المحامين سوف تتقدم بقائمة يمكن الاختيار من بينها، وسوف تسلمها إلى النيابة العامة ووزارة العدل لاعتمادها، لكي يكون هؤلاء جاهزين للدفاع عن المتهمين.
وفيما يتعلق بالحبس الاحتياطي، أكد المصدر ذاته أنه في حالة الجنح يحظر الحبس أكثر من أربعة أشهر وفي حالة الجنايات وحالات المؤبد يتم التجديد لمدة 45 يومًا بحد أقصى عامين، وكشف عن أن وزارة الاتصالات تقوم في الوقت الحالي بعمل دراسة متأنية لإمكانية تطبيق الأسورة الإلكترونية لإمكانية الإفراج عنهم مع تتبعهم إلى جانب حق المتهمين في الحصول على تعويض حال حصلوا على أحكام نهائية بالبراءة.
وقد تقدمت الحكومة المصرية بطلب إعادة مناقشة المادة 104 من مشروع القانون، حيث أشار وزير الشئون النيابية والقانونية إلى أن النيابة العامة تطلب تعديل المادة بما يسمح بإجراء التحقيق دون محامٍ في حالة تعذر حضوره، معللين ذلك بأن الواقع العملي في بعض الأحيان قد يحول دون حضور المحامي خاصة في الفترات المسائية والأعياد.
وبعد جدل قانوني، رفضت لجنة الشئون الدستورية والتشريعية بشكل قاطع مقترح الحكومة والنيابة العامة، مؤكدين أنه يخالف أحكام المادة 54 من الدستور، ولا يمكن المساس بحق المتهم في حضور محاميه في كافة مراحل التحقيق التي تبدأ بالاستجواب.
أشار مصدر مطلع رفض ذكر اسمه إلى أن سبب توقيت القانون والسرعة في إقراره هو تحسين مؤشر العدالة الذي تسعى مصر لتحسينه دوليًا لأنه يؤثر على مناخ الاستثمار.
وعن إقرار القانون بعد أسابيع من انطلاق الخطوات الأولى للحوار الوطني وتشكيل مجلس أمنائه، وبدء تحديد أولويات الحوار وأجندة المحور السياسي، في مقدمتها مسألة الحبس الاحتياطي التي ترتبط بنصوص وضوابط في قانون الإجراءات، يقول المصدر إن السبب هو انحراف الحوار الوطني عن المسار المرسوم ووجود مطالب كثيرة وفئوية يمكن أن تؤدي لتهديد المنظومة الأمنية، ويؤيد المصدر ضرورة قطع الطريق على مسار الحوار الوطني ومخرجاته وفرض الأمر الواقع بالنصوص القانونية التي كانت جاهزة بالفعل.
ويشير المصدر باقتضاب شديد إلى أن هناك اتهامات دائمة لرجال الشرطة والنيابة ورجال السلطة للقيام بممارسات مخالفة للقانون أو الدستور، وذلك نال من صورتهم بالخارج وأمام المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية، ودائمًا ما يستغل أعداء الوطن تلك الممارسات بوصفها أنها غير قانونية والقانون حسم ذلك.