في عام 2013 تم اختيار مدرسة "ابن رشد" واحدة من عشرات المدارس الإسلامية في فرنسا، أفضل ثانوية بالبلاد، فقد استطاعت أن تحقق نسبة نجاح وصلت إلى 100% في امتحانات الباكالوريا، لكن ذلك لم يشفع لها بأن تنجو من الحرب التي تشنها السلطات الفرنسية على ما تعتبره "إسلاماً لا يتماشى مع مبادئ الجمهورية العلمانية".
فقد قررت الحكومة الفرنسية مع بداية عام 2024 قطع التمويل الحكومي عن "ابن رشد" أكبر ثانوية إسلامية التي تأسست عام 2003 في مدينة ليل شمال فرنسا، بسبب "إخفاقات إدارية وممارسات تعليمية موضع شك"، وفق ما ذكرته السلطات في قرارها.
ثانوية "ابن رشد" هي واحدة من مجموعة من المدارس الإسلامية في فرنسا التي طالتها شظايا حرب الرئيس إيمانويل ماكرون على المسلمين في البلاد، وقالت وكالة رويترز في تقرير لها الإثنين 3 يونيو/حزيران 2024، إن 5 من المدارس الإسلامية في فرنسا أُغلقت خلال عهد ماكرون.
من خلال هذا التقرير سنسلط الضوء على تاريخ المدارس الإسلامية في فرنسا، ولماذا لجأ الكثير من المسلمون في البلاد إليها لتعليم أبنائهم؟ وكيف أثرت قرارات ماكرون التي تستهدف الإسلام على تواجدها؟
المدارس الإسلامية في فرنسا
أنشئت أول المدارس الإسلامية في فرنسا سنة 1947 في منطقة لا ريونيون "La Réunion"، وهي مقاطعة فرنسية في المحيط الهندي، وكانت في البداية تدرِّس برنامجاً دينياً مكتملاً، إضافة إلى برنامج وزارة التربية الوطنية الفرنسية.
بينما ذكرت تقارير فرنسية أن أقدم مؤسسة تم إنشاؤها في البر الرئيسي لفرنسا هي مدرسة "La plume" في مدينة غرونوبل جنوب شرق فرنسا، عام 2001.
وتشير بيانات وكالة الإحصاء الفرنسية إلى أن ما يقدر بنحو 6.8 مليون مسلم يعيشون في فرنسا، أي حوالي 10% من السكان، وهو ما يجعل من الإسلام هو ثاني أكبر دين في البلاد بعد الكاثوليكية.
وفق آخر البيانات الصادرة عن "الفيدرالية الوطنية للتعليم الخاص الإسلامي" في فرنسا، فإن عدد المدارس الإسلامية بالبلاد يبلغ 126، وأشارت الفيدرالية التي تأسست عام 2014، إلى أن المدارس الإسلامية تُدرس 12 ألف تلميذ.
لكن فقط 10 مدارس هي من تتلقى دعماً حكومياً، وفق ما كشفته وكالة رويترز، وحتى التي لا تزال تحظى بالتمويل الحكومي الفرنسي فإنها أصبحت مهددة بفقدانه في ظل القرارات الحكومية الأخيرة.
يعرف موقع "تأمينات المساجد" في فرنسا أن المدرسة الإسلامية هي قبل كل شيء "مؤسسة تعليمية ابتدائية أو ثانوية معترف بها من قبل السلطات القانونية بهذه الصفة"، وأضاف أن فتحها مشروط منذ قانون جاتيل بشأن الترخيص بالفتح.
ويشترط لفتح مؤسسة خاصة على الجمعيات الإسلامية التي تقوم بهذا النوع من المشاريع:
- اقتراح مشروع تعليمي على السلطات الجامعة.
- تعيين الموظفين المؤهلين وفقاً للقانون.
- تقديم الافتتاح للتحقق من صحته من قبل رئيس البلدية والمحافظ.
وأشار الموقع إلى أن المدارس الإسلامية في فرنسا متوافقة مع القانون، وتخضع لمراقبة منتظمة من قبل السلطات الفرنسية لضمان التزامها بالقوانين الفرنسية، وهذه الفحوصات المفاجئة ينص عليها القانون لجميع المؤسسات، سواء كانت دينية أم لا.
وتعلم المدارس الإسلامية في فرنسا من خلال عقد يربطها بوزارة التربية الوطنية، وهي لا توقع على العقد إلا بعد أن تكون قد عملت دونه لـ5 سنوات، وهو يضيف قيمة إلى سمعتها بين الجاليات المسلمة الراغبة في تعليم أبنائها بالمدارس الإسلامية.
الأفضلية للمدارس الكاثوليكية واليهودية
لدى فرنسا تقليد يسمح بإنشاء المدارس الكاثوليكية والبروتستانتية واليهودية التي تسمح بالتعبير الديني ضمن قيود المبادئ العلمانية التي تستبعد الدين على نطاق واسع من الحياة العامة، وفق ما جاء في تقرير وكالة رويترز.
بينما أشارت الوكالة إلى أن حظر الحجاب في المدارس العامة الفرنسية في عام 2004، أدى إلى تزايد الطلب على المدارس الإسلامية، حيث يستطيع الطلاب المسلمون، وخاصة الفتيات، التعبير عن هويتهم الدينية.
فيما تشير البيانات إلى أن الحكومة تمول 10 من المدارس الإسلامية في فرنسا، فإنه في المقابل، تم تمويل 7045 مدرسة كاثوليكية، بحسب التقرير، وتقول الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا إن هناك 7220 مدرسة كاثوليكية، حسب ما أوردته وكالة رويترز.
وأدخلت حكومة ماكرون قوانين تمنح السلطات المحلية صلاحيات لتجريد المؤسسات، بما في ذلك المدارس الخاصة، من التمويل بسبب فشلها في احترام "الحرية والمساواة والأخوة" من بين أمور أخرى.
وفي خطاب ألقاه عام 2020، وصف ماكرون الحاجة إلى عكس ما اعتبره تطرفاً في المجتمعات الإسلامية، بما في ذلك ممارسات مثل الفصل بين الجنسين. وقال "المشكلة هي أيديولوجية تدعي أن قوانينها يجب أن تكون متفوقة على قوانين الجمهورية".
وفي عام 2020، قال مستشارو الإليزيه للصحفيين إن مراقبة المدارس الإسلامية في فرنسا والجمعيات المعنية بالأطفال أمر أساسي لمحاربة الانفصالية، وقال المسؤولون إنهم يخشون أن يكون هناك تلقين ديني في بعضهم.
بينما حذرت منظمة العفو الدولية الحقوقية من أن النهج الذي تتبعه الحكومة قد يكون تمييزيا ويخاطر بتعزيز الصور النمطية التي تخلط بين جميع المسلمين والإرهاب أو وجهات النظر المتطرفة، لكن ذلك لم يمنع باريس من التمادي في التضييق على المدارس الإسلامية.
هجمات ضد المدارس الإسلامية في فرنسا
تتعرض كل المدارس الإسلامية في فرنسا لانتقادات وهجمات منظمة، تأتي من كل الجهات، ليس فقط من اليمين المتطرف، ولا اليمين التقليدي، بل حتى من اليسار، وفق ما ذكره موقع "euronews"، تعليقاً على قرار منع التمويل عن ثانوية "ابن رشد".
وتظهر بيانات وزارة التعليم أنه منذ عام 2017، حصلت مدرسة إسلامية واحدة فقط على تمويل حكومي، مقارنة بتسع مدارس في المجمل في عهد سَلفي ماكرون. وقالت الفيدرالية الوطنية للتعليم الإسلامي إنه قدم نحو 70 طلباً نيابة عن المدارس الإسلامية في تلك الفترة.
وتحدثت رويترز إلى أكثر من عشرة من مديري المدارس والمعلمين الحاليين والسابقين في عشر مدارس إسلامية، الذين قالوا إن المؤسسات كانت مستهدفة، بما في ذلك فرض اللوم عليها لأسباب واهية، وأن التمييز المتصور يمنعهم من الاندماج بشكل أوثق في نظام الدولة.
وقالت عالمة الأنثروبولوجيا الأمريكية، كارول فيريرا، إن المدارس الكاثوليكية واليهودية يتم التعامل معها بشكل أكثر تساهلاً: "إن هناك معايير مزدوجة حقاً بشأن من يجب عليه الالتزام بالقيم الجمهورية العلمانية بطريقة معينة ومن لا يفعل ذلك".
وذكرت وسائل إعلام فرنسية أن مدرسة ستانيسلاس الكاثوليكية الباريسية البارزة أبقت على تمويلها على الرغم من أن المفتشين اكتشفوا العام الماضي قضايا تشمل أفكاراً متحيزة جنسياً أو معادية للمثليين ودروساً دينية إلزامية.
وقالت وزارة التعليم إن الحكومة عززت إشرافها على المدارس الخاصة في عهد ماكرون، مما أدى إلى مزيد من الإغلاق، بما في ذلك بعض المدارس غير الطائفية. وأشارت إلى قيود الميزانية كسبب لانخفاض عدد المدارس الإسلامية في فرنسا التي تقدم التمويل العام.
إغلاق المدارس الإسلامية في عهد ماكرون
فقد أغلقت المكاتب المحلية للحكومة الوطنية ما لا يقل عن خمس من المدارس الإسلامية في فرنسا منذ وصول ماكرون إلى السلطة في عام 2017، وفقاً لإحصاء رويترز، ولم تعثر الوكالة إلا على مدرسة إسلامية واحدة مغلقة في عهد آخر رئيسين للجمهورية قبل ماكرون.
وفي السنة الأولى من رئاسة ماكرون، فقدت مدرسة أخرى التمويل العام الذي تعهدت به حكومة الرئيس السابق فرانسوا هولاند في مايو/أيار 2017.
وبينما قامت بعض المدارس الإسلامية الخمس المغلقة بتدريس نسخ محافظة من الإسلام، وفقًا لبيانات وزارة التعليم وأوامر الإغلاق، أكد مديرو المدارس والمعلمون الذين تحدثت إليهم رويترز على جهود مدارسهم لخلق بيئة تعليمية سائدة ومتسامحة.
وقال محمود عوض، عضو مجلس إدارة مدرسة "التعليم والمعرفة" التي فقدت تمويل الدولة بعد وقت قصير من تولي ماكرون منصبه: "لم تكن هناك رغبة في الانفصال على الإطلاق". وأضاف: "في مرحلة ما، يتعين عليهم أن يقبلوا أن المدارس الإسلامية في فرنسا تشبه المدرسة الكاثوليكية أو المدرسة اليهودية".
كما قال إيدير راب، مدير مدرسة ابن سينا المتوسطة في نيس، إنه سعى دون جدوى للحصول على تمويل عام منذ عام 2020، لأنه يريد ضم المدرسة إلى حظيرة الدولة. وتم رفض الطلب الأخير في فبراير/شباط 2024، وفقاً لوثيقة اطلعت عليها رويترز.
وفي فبراير/شباط، قالت وزيرة التعليم نيكول بيلوبيه إنها تريد إغلاق مدرسة ابن سينا، مشيرة إلى "التمويل غير الشفاف" الذي وجده ممثل محلي للحكومة.
وفي أبريل/نيسان، قضت محكمة إدارية مؤقتاً بأن أي مخالفات كانت طفيفة، وعلقت أمر الإغلاق. ومن المقرر أن تعقد الجلسة القادمة في 25 يونيو/حزيران الجاري.
وفي رد على رويترز، أكدت الوزارة مجدداً أن الغموض المالي منتشر على نطاق واسع في مدرسة "ابن سينا"، قائلة إنها تنتظر الحكم النهائي للمحكمة. وقالت إن المدرسة يمكنها استئناف رفض التمويل.
منع تمويل أفضل ثانوية في فرنسا
مدرسة "ابن رشد" هي أول مدرسة ثانوية إسلامية أقيمت في فرنسا عام 2003، في ذروة الخلاف حول الحجاب الذي أدى إلى منع الرموز الدينية في المدارس الحكومية.
ورغم أنها تعمل بترخيص من طرف وزارة التعليم الفرنسية، إلا أن السلطات الفرنسية أوقفت عنها الدعم بسبب "انعدام الثقة".
لكن الواقع أن مدرسة "ابن رشد" تصدرت قائمة أفضل المدارس في فرنسا، ووفق استطلاع أجرته صحيفة "لوباريزيان"، كانت نسبة النجاح فيها تصل إلى 100 في المائة في البكالوريا.
ومنذ عام 2019، رفض إقليم "أو دو فرانس" دفع الدعم المنصوص عليه في عقد الثانوية الإسلامية مع الدولة، وانتقد مدرسة "ابن رشد" على وجه الخصوص بسبب تبرع قطري بمبلغ 950 ألف يورو في عام 2014.
ووجد تفتيش وزارة التعليم للمدرسة في عام 2020 أن المنحة قانونية، لكن المسؤولين والسياسيين في منطقة ليل واصلوا حملة لتقييد دخل الدولة للمدرسة، حسب ما ذكرته وكالة رويترز.
وتُدرس المدرسة المنهج العادي في فرنسا، بالإضافة إلى مادة اختيارية لدراسة الإسلام. ومن بين الاتهامات التي وجهت للمؤسسة، ذكر أحد الكتب لعقوبة الإعدام في حالة الردة، أو الفصل بين الجنسين، وهو ما يخالف قيم الجمهورية الفرنسية.
لكن المدرسين والطلاب يؤكدون أن الكتاب المذكور غير موجود في المنهج. ويردّ إريك دوفور مدير ابن رشد، الذي كان معلماً سابقاً في القطاع الخاص الكاثوليكي:"هذه الروابط قديمة ولكنها لا تتدخل أبداً في عمل المؤسسة، أنا أضمن ذلك".