استهدف الاحتلال الإسرائيلي بشكل ممنهج العقول والكفاءات الفلسطينية طيلة 7 أشهر من العدوان الإسرائيلي على غزة، من خلال تدمير الجامعات والمؤسسات التعليمية في القطاع، فضلاً عن اعتقال مئات الطلاب والهيئات التدريسية والزج بهم في سجون الاحتلال.
ولم يكن مفاجئاً حجم الاستهداف الإسرائيلي لعشرات المدارس والجامعات والمؤسسات التعليمية خلال عدوانها على قطاع غزة، في ضوء الاستعداء التاريخي لها من قِبَل الاحتلال، وهو ما أظهرته الفيديوهات والصور التي كشفت حجم الدمار والأضرار الكبيرة التي لحقت بها.
تخريب ونسف الجامعات في قطاع غزة
بعد مرور أكثر من سبعة أشهر على العدوان الإسرائيلي على غزة، فقد تبين أن الاحتلال دمّر سبع جامعات بشكل كامل أو جزئي.
ويتعلق الأمر بالجامعة الإسلامية، وجامعات الأزهر، والقدس المفتوحة، والإسراء، والأقصى، وغزة، وفلسطين. وتقدم هذه الجامعات خدماتها لقرابة تسعين ألف طالب وطالبة، ويعمل فيها 5100 موظف.
كما دمر العدوان الإسرائيلي 97 مدرسة بشكل كلي، و295 مدرسة أخرى بشكل جزئي، تقدم خدمتها لأكثر من 278 ألف طالب، وتضررت 75% من المباني المدرسية، كما دمّر الاحتلال 215 روضة أطفال، بما يعادل نصف عددها في القطاع.
واستهدف الاحتلال المتحف الوطني بجامعة الإسراء الذي يضمّ ثلاثة آلاف قطعة أثرية نادرة، وبعد انتشار مقطع فيديو تفجيره، وجَّه صحفيون انتقادات محرجة للمتحدث باسم الخارجية الأمريكية ماثيو ميلر، لكنه بدا متلعثماً، بزعم أنه لا يملك معطيات كافية للتعليق على ما حدث، فيما زعم جيش الاحتلال أنه فتح تحقيقاً بالحادثة، دون إعلان النتائج.
وأقدمت قوات الاحتلال بتدمير أجزاء من بعض الجامعات وفجر أخرى ونسفها بالكامل بعد تحويلها لثكنات عسكرية ومراكز اعتقال مؤقتة، وذكر صندوق النقد الدولي أن خسائر قطاع التعليم في غزة تفوق 720 مليون دولار.
في كل حوادث تدمير المؤسسات التعليمية، زعم الاحتلال أن حماس تستخدم هذه المباني لأغراض عسكرية ، وأن استهدافها جاء بناءً على معلومات استخباراتية لمنع خطر تهديد أمني، دون أن يقدم دليلاً على هذه الادعاءات.
وفي مشهد يبرز جرائم قوات الاحتلال، نشر جندي إسرائيلي مقطع فيديو على حسابه على "تيك توك"، وخلفه مباني جامعة الأزهر، قائلاً: "لمن يتساءلون لماذا توقف التعليم في غزة، لقد أسقطنا صواريخ عليهم.. لذلك لن تصبحوا مهندسين!".
اغتيال رؤساء الجامعات والأساتذة
لم يتوقف العدوان الإسرائيلي على غزة عند قصف مقار الجامعات في غزة، بل وصل الأمر لاغتيال قرابة مئة من رؤسائها وأساتذتها وأكاديمييها، بينهم ثلاثة رؤساء جامعات.
من بين أبرز الأسماء التي استهدفها العدوان الإسرائيلي على غزة، البروفيسور سفيان تايه، رئيس الجامعة الإسلامية، الذي استشهد وأسرته في قصف على منزله في الفالوجا، شمالي القطاع، وهو باحث رائد في الفيزياء والرياضيات التطبيقية.
كما اغتالت قوات الاحتلال عميدي كليتي الطب عمر فروانة، والتمريض ناصر أبو النور، والدكتور عدنان البرش رئيس قسم العظام بمستشفى الشفاء، ومئات المعلمين وآلاف الطلبة، ممن قتلهم الاحتلال بهجمات محددة دون سابق إنذار.
وشملت قائمة الاغتيالات 17 شخصية يحملون درجة البروفيسور، 59 من حملة الدكتوراه، 18 بدرجة الماجستير، مع تقديرات بوجود أعداد من الأكاديميين الموزعين على مختلف المجالات العلمية.
وأعلنت وزارة التعليم استشهاد 4327 طالباً، وإصابة 7819 آخرين، بينما قُتِل 231 معلماً وإدارياً، وأصيب 756 بجروح مختلفة ، وحرمان 88 ألف طالبة وطالب من تلقي تعليمهم الجامعي، وتَعذر على 555 آخرين الالتحاق بالمنح الدراسية في الخارج.
مواقف دولية لا تتجاوز التنديد
استهداف الاحتلال الإسرائيلي للمؤسسات التعليمية والجامعات في غزة دفع شخصيات ومنظمات دولية للتنديد بهذه الجرائم والتدمير المتعمد الذي ارتكبته قوات الاحتلال الإسرائيلي.
حيث أعربت فريدة شهيد، مقرّرة الأمم المتحدة المعنية بالحق في التعليم، عن استيائها من ذلك الدمار الذي خلفه العدوان الإسرائيلي على غزة، لأنها "تعرف أشخاصاً فقدوا الأمل، ولا يعرفون أين يذهبون، كانوا يطمحون أن يكونوا مهندسين وأطباء، لا يعتقدون أن ذلك ممكن الآن، وبهذا ينتهي مستقبلهم".
فيما أكدت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) "قلقها بشدة إزاء تأثير الأعمال العدائية في قطاع غزة على الطلاب والعاملين في مجال التعليم، ودعت لحماية المؤسسات التعليمية التي غالباً ما تكون بمثابة ملاجئ للسكان، وتذكّر بأن استهدافها أو استخدامها لأغراض عسكرية يشكل انتهاكاً للقانون الدولي".
كما اتهم المرصد الأورو-متوسطي لحقوق الإنسان، جيش الاحتلال "باستهداف الجامعات بشكل منهجي واسع النطاق، ليقضي على آخر مظاهر للحياة في غزة، وتكريس جريمة الإبادة الجماعية التي ينفذها".
وكشفت هيئة إنقاذ الطفولة التابعة للأمم المتحدة أن نحو 75 في المئة من المدارس والجامعات في غزة دُمّرت أو تضرّرت، وسيمرّ وقت طويل قبل أن يتمكن الأطفال من العودة للفصول الدراسية.
وأفاد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية" (أوتشا) بأن غزة لم تعد مكاناً آمناً لمئات آلاف الطلبة بسبب العدوان الإسرائيلي على غزة، ونحو 22,500 معلم ومعلمة، جراء النزوح الداخلي من شمال القطاع إلى جنوبه، ونتيجة الأضرار الكبيرة التي لحقت بالمؤسسات التعليمية، لأن أكثر من 625 ألف طالب وطالبة باتوا محرومين من التعليم.
تاريخ حرب الاحتلال على التعليم بغزة
لا يعدّ استهداف الاحتلال للجامعات وليد اللحظة بعد حرب غزة، فقد فرض عليها حصاراً مطبقاً، ولم يعد بإمكان أكاديمييها حضور الدعوات التي يتلقونها من أقرانهم في الخارج، أو حتى في الضفة الغربية.
فيما يصعب جداً استضافة نظرائهم الأجانب للتعليم في جامعات غزة بسبب الحصار الإسرائيلي الذي يتسبب للمؤسسات الجامعية في غزة بمشكلات ناجمة عن تقادم المواد والمعدات أو غيابها، مما يؤثر بصورة كبيرة على التدريس والبحث العلمي.
وتواجه الجامعات مشكلات تشغيلية مرتبطة، بصورة أساسية، بانقطاع التيار الكهربائي، مما يتسبب بإلغاء الدورات التدريبية أو العمل المختبري، والعروض التوضيحية التي يتم التحكم فيها عبر الكمبيوتر.
وبسبب حالة الفقر العامة الناجمة عن الحصار التي تجعل 80٪ من فلسطينيي القطاع يعتمدون على المساعدات الدولية، فإن ذلك يحولُ دون قيام الجامعات بزيادة رسوم التسجيل التي تشكل، في بعض الحالات، موردها الرئيسي.
كما دأب الاحتلال على استهداف المؤسسات الجامعية في غزة خلال الحروب المتكررة منذ 2006، وشملت مبانيَ للعلوم الهندسية التي تحتوي على كثير من المعدات والمختبرات العملية، والمزارع التجريبية ومركز لعلم الفلك.
ويأتي ذلك بعد أن فرض الاحتلال هيمنته المباشرة على سير العملية التربوية والأكاديمية منذ بدئه، وأجرى تغييرات جذرية في العملية التدريسية، وشملت إجراءاته فرض مناهج لا تناسب الفلسطينيين بما يتناول تاريخهم وقضيتهم.
كما أصدر تعليمات عسكرية تتضمن إشعاراً بمنع تداول أية أطالس أجنبية وعربية، أو خرائط تشير لحدود ما قبل 1967، وتفريغ الكتب المتبقية من أيّ مضامين وطنية وقومية، فحذفت الفصول المتعلقة بالقضية الفلسطينية، واستبدلت كلمة فلسطين بإسرائيل.
هيمنة الأيديولوجية الصهيونية
يندرج المبدأ الأساسي الذي اعتمده الاحتلال في انتهاكاته للحقوق التعليمية والأكاديمية الفلسطينية داخل إطار الأيديولوجية الصهيونية، التي وضعت هدفاً محدداً يتمثل بتصفية التراث الثقافي والتاريخي للشعب الفلسطيني، والقضاء عليه، وعرقلة عملية النمو الثقافي الفلسطيني، وتطويرها: كمّاً ونوعاً، وإعاقة التعاون المتبادل بين المؤسسات الأكاديمية والتعليمية، وصولاً لتفكيك العلاقات الثقافية بين الفلسطينيين، وتهجير الكفاءات والكوادر العلمية التي ترفض التعاون معه.
ومارسَ الاحتلال شتى أنواع التضييق على الجامعات الفلسطينية، لعرقلة مسيرتها وأدائها لدورها الطبيعي، وضيّق على مصادر تمويلها.
ومما واجهته خلال السنوات والعقود الماضية إغلاقها المستمر بين الحين والآخر، وعدم السماح لها بفتح كليات وأقسام جديدة، ورفض إقامة الأبنية المناسبة، وصعوبة الحصول على الأجهزة والأدوات، واعتقال أعضاء أسرتها الأكاديمية، من المحاضرين والطلبة.
كما عمد الاحتلال إلى إغلاق الجامعات بصورة جماعية أو جزئية، وتأخير افتتاح العام الدراسي، وتقديم موعد إنهائه، وإخراج الطلبة في عطل إجبارية في المناسبات الوطنية، وإغلاقها فعلياً عبر حظر التجوال على منطقة معينة، أو بسبب اندلاع المظاهرات والتشويشات التي تحصل على الدراسة.
وتعرضت الحركة الطلابية الجامعية لانتهاكات إسرائيلية متعددة الأوجه، مثل عمليات الاعتقال والإبعاد بحق الأساتذة والطلاب، وفرض الإقامة الجبرية بحق عدد كبير منهم.
وينظر الاحتلال، منذ بدايته، للمؤسسات الأكاديمية والتعليمية بأنها "مرتع للتطرف، أو مواقع إرهاب"، كما ينظر للطلبة نظرة خوف وترقب باعتبارهم عناصر خطرة تهدد أمنه، وحين حصل على صلاحيات واسعة غير عادية للسيطرة على الحياة الجامعية، زاد من قمعه لها بزعم أنها تشكّل تهديداً ماثلاً عليه.
أوامر عسكرية للتضييق على الطلاب والأساتذة
أصدر الاحتلال سلسلة من الأوامر العسكرية القمعية ضد الجامعات الفلسطينية، أهمها رقم 854 لعام 1980، وبموجبه انتهك الحريات الأكاديمية بإلزام جميع أساتذتها بالتوقيع على بيان يستنكرون فيه أي دعم لمنظمات المقاومة.
وينطوي هذا التعهد على إرسال تقارير عما يقوله الطلبة والزملاء داخل الصفوف وخارجها، وعن وجود مواد علمية قد تعتبر دعماً لها، بما في ذلك رفع العلم الفلسطيني، أو ترديد الشعار الوطني، أو الأغنية الشعبية، وحدّد لها عقوبات مختلفة أقلها السجن ستة أشهر.
كما يخوّل هذا الأمر العسكري سلطات الاحتلال صلاحيات واسعة لإصدار أو منع الرخص للأساتذة الأجانب والمحليين، ويمنع كل من أوقف إداريّاً أو اعتقل أو حكم بتهمة أمنية من التعيين في الجامعة، بحيث يشرف ضابط التعليم في الإدارة المدنية الإسرائيلية على التوظيف وبناء المباني بدلاً من مجلس الأمناء.
وبموجب الأمر العسكري رقم 101 في 1967، بشأن حظر التحريض، ينشر الاحتلال من وقت لآخر قائمة بالكتب المحظورة، باللغتين العربية والإنجليزية، تشتمل على مئات الكتب، وتمنع تداول الكثير منها في الأراضي المحتلة.
وامتلأت قائمة الممنوعات يوماً بعد يوم، وسُجن عدد كبير من الجامعيين بسبب حيازتهم لها، ونظراً لاتساع نطاقها، فقد بات بإمكان الجيش في كل وقت أن يبرر دخول أي بيت وتفتيشه، واعتقال أهله بحجة البحث عنها، وأصبح وجودها موضوع دعاوى حكمت المحاكم فيها بسجن الكثيرين وتغريمهم.
كما دأب الاحتلال على رفض إعطاء الطلبة الفلسطينيين الأذونات اللازمة للسفر لإتمام دراساتهم في الخارج، وفي حال وافق نادراً، فإنه يحدّد هذه الأذونات لستة أشهر.
هذا الوضع شكل عبئاً اقتصادياً ونفسياً على الطلبة وعرضهم لتقييدات شاملة أثرت على مستقبلهم التعليمي والأكاديمي، تسفر في النهاية عن تطبيق سياسة تعتمد أساليب عديدة لتهجيرهم، لأنه يقوم بتحقيقات واعتقالات متواصلة لهم على المعابر في طريق عودتهم لغزة، مما يدفع الكثيرين لعدم العودة، والبقاء في المهجر.