تأرجحت سياسة فرنسا مع المغرب والجزائر منذ عقود بين التقارب مع الرباط في فترات وتفضيل تدعيم علاقاتها مع الجزائر في فترات أخرى، وكان سؤال لمن تميل فرنسا أفضل؟ يطرح بشكل كبير خاصة عندما تكون العلاقة بين البلدين المغاربيين متوترة.
وتزامن انتخاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لولاية ثانية في شهر أبريل/نيسان 2022، مع أزمة "غير مسبوقة" من التوتر بين الرباط والجزائر، وصلت إلى حد قطع العلاقات الدبلوماسية ومنع الجزائر للطائرات المغربية من المرور عبر أجوائها.
في ظل هذا الوضع تجدد الحديث عن دور فرنسا وموقفها من هذا الصراع بين الشقيقين العدوين، فمع من يقف الإليزيه؟ هل يمكن القول إن باريس تدعم طرفاً على حساب الآخر، أم أنها تحاول توازن علاقتها؟ أم يبقى همها الوحيد هو مصلحتها مثلها مثل بقية دول العالم؟
كيف تبدو علاقة فرنسا مع المغرب؟
بعد انتخابه لأول مرة رئيساً لفرنسا عام 2017، اختار إيمانويل ماكرون المغرب ليكون أول بلد عربي يزوره، وبينما كان يسعى لجعل الجزائر محطته الثانية مباشرة بعد زيارة الرباط، إلا أنه فشل في إقناع المسؤولين الجزائريين باستقباله وفضلوا أن يزورهم في وقت لاحق وهو ما تم فعلاً في أواخر 2017.
بعد مرور 5 سنوات، أعيد انتخاب ماكرون لولاية ثانية في شهر أبريل/نيسان 2022، وعلى عكس الولاية الأولى، فإن ماكرون زار الجزائر بعد أشهر من فوزه بالرئاسة، فيما لا تزال زيارته إلى الرباط معلقة في ظل أزمة بين البلدين بدأت تخف حدتها مؤخراً.
في الأيام الأولى من شهر أبريل/نيسان 2024 قام وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة بزيارة إلى باريس حيث التقى بنظيره الفرنسي، وقال متحدث باسم الخارجية الفرنسية، إن فرنسا والمغرب يحرزان تقدماً في تنفيذ خارطة الطريق المشتركة "الطموحة".
بعد ذلك بأيام، توافد على المغرب 3 وزراء فرنسيين، ويتعلق الأمر بكل من وزير التجارة فرانك ريستر، ثم وزير الداخلية جيرالد دارمانان، ثم وزير الفلاحة مارك فينسو، الذي شارك في المعرض الدولي للفلاحة بمدينة مكناس وسط المغرب.
كما قال وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورنيه بعد لقائه بوريطة إن "هناك رابطاً استثنائياً بين فرنسا والمغرب". وأضاف أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون "يريد لهذا الرابط أن يظل فريداً من نوعه ويتعمق أكثر خلال الأشهر المقبلة".
ورغم هذه الزيارات المتبادلة التي وضعت حداً لجمود في العلاقات الفرنسية المغربية دام سنوات، فإن ما سيعطي دفعة أكبر وأقوى للعلاقات بين البلدين هو زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى المغرب ولقاء العاهل المغربي الملك محمد السادس.
لكن تقارير مغربية كشفت أن هناك "جملة من الأسباب الخلافية بين الرباط وباريس"، أعاقت تحديد موعد زيارة الرئيس الفرنسي إلى المغرب، التي كانت موضوع لقاء بين وزير الخارجية المغربي ونظيره الفرنسي في باريس.
ماذا عن العلاقات بين باريس والجزائر؟
بالنظر إلى التعليقات التي أعقبت زيارة الرئيس الفرنسي إلى الجزائر في أغسطس/آب 2022، فإن خطاب المسؤولين في باريس لم يختلف عن ذلك الذي رددوه حول المغرب، وأجمعوا على أن هناك اتفاقاً من أجل بداية جديدة وطي صفحة الخلافات.
وبينما لا تزال ترتيبات زيارة الرئيس الجزائري إلى فرنسا مستمرة، أكد عبد المجيد تبون، في مقابلة مع وسائل إعلام محلية، أن زيارته إلى فرنسا "لا تزال قائمة"، معتبراً أن العلاقات بين البلدين "وصلت إلى النضج وينبغي أن يعاد التأسيس لها من جديد دون التراجع عن أي جزئية في ملف الذاكرة".
لكن بالنسبة للخبير الجزائري في الشؤون السياسية والاستراتيجية، أحمد ميزاب، فإن العلاقات الجزائرية-الفرنسية تتسم بنوع من البرود في الوقت الحالي، رغم وجود محاولات عديدة من أجل إنعاش هذه العلاقة بين البلدين وإعادة بعث نفس جديد فيها.
ويؤكد ميزاب، لـ"عربي بوست"، أن هذه المحاولات سريعاً ما تصطدم بواقع يتمثل في النوايا غير الواضحة للجانب الفرنسي وكذلك بعض الممارسات التي لا تقدم ولو مؤشر أن هناك رغبة لبناء علاقات قوية مع الجزائر مبنية على مبدأ المصالح المشتركة.
كما أضاف: "صحيح هنالك إبداء نوايا من أجل بحث هذه العلاقات وكذلك إعطاؤها نفساً جديدأً على مستوى قيادة البلدين، لكن أعتقد أنه ما زال هناك مسار طويل لأن الجانب الفرنسي لم يتخلص من كتلة العقد التي يعيش فيها، لهذا فإن العلاقات بين باريس والجزائر تتصف بالركود".
وظهرت بوادر أزمة جديدة تلوح في الأفق بين الجزائر وفرنسا، خاصة بعد حديث الإعلام الفرنسي عن رغبة باريس في المشاركة في استثمارات بالصحراء، التي تبقى من أكبر الملفات الحساسة بالنسبة للمغرب والجزائر.
توازن سياسة فرنسا مع المغرب والجزائر
في تقرير لمركز "GIS" المتخصص في الأبحاث الجيوسياسية، عنون تقريراً أصدر في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2023، بـ"فرنسا ممزقة بين المغرب والجزائر"، وهو ما يؤكد الصعوبة التي تجدها باريس في الحفاظ على توازن سياسة فرنسا مع المغرب والجزائر.
بينما كان وزراء فرنسيون يزورون المغرب للتأكيد على أن باريس والرباط تجاوزا فترة التوترات والجمود بينهما، قالت وسائل إعلام جزائرية إن وزير الخارجية الفرنسي في طريقه لزيارة الجزائر، وأكدت أن زيارة تبون إلى فرنسا لا تزال قائمة، فباريس لا تريد إغضاب أحد.
وهو ما أكده الخبير الجزائري ميزاب، حيث نفى وجود تقارب بين الجزائر وفرنسا على حساب المملكة المغربية، مشدداً في هذا السياق على أن الجزائر "لا تبني علاقاتها الثنائية على حساب الٱخرين بل تقوم بذلك وفق ما تقتضيه الضرورة والمصالح المشتركة التي تجمع الجزائر بأي بلد كان".
ويرى ميزاب أن فرنسا تحاول اللعب على الحبلين، ويشرح هذه النقطة بقوله : "فرنسا لا تفضل طرفاً على طرف لكونها تبحث عن مصالحها، والجزائر أكثر وعياً من مثل هكذا ممارسات باعتبار أن بعدها الدبلوماسي في إطار بناء العلاقات الثنائية مبني على أسس الاحترام المتبادل، والسيادة الوطنية، وعلاقة رابح-رابح".
من جهته، اعتبر الخبير في العلاقات الدولية، المغربي أحمد نور الدين، أن المملكة تبني علاقاتها مع فرنسا وغير فرنسا انطلاقاً من محددات مرجعية ومبادئ موجهة، تصب في تحقيق مصالحه الاستراتيجية، "ولا يهمه بعد ذلك نوع العلاقة التي تربط فرنسا أو غيرها بطرف ثالث إلا في حدود تأثيرها على المصالح الحيوية للمغرب".
حيث أشار نور الدين، في تصريح لـ"عربي بوست"، إلى أن المغرب لم يحتج يوماً بشكل مباشر أو رسمي على خيارات فرنسا الدبلوماسية مع أي دولة ثالثة، ما دامت لا تمس المغرب، لأن المغرب قبل كل شيء يحترم نفسه ويعرف معنى احترام سيادة الدول وعدم التدخل في خياراتها السيادية.
بينما اعتبر الخبير المغربي أن الجزائر "وقعت في خطأ قاتل حين احتجت على إسبانيا وسحبت سفيرها وجمّدت اتفاقية التعاون والشراكة بسبب الموقف الإسباني من الصحراء المغربية، رغم أنه موقف سيادي لمدريد لا علاقة له بالجزائر، على الأقل قانونياً ونظرياً".
لكن بالنسبة للسفير الفرنسي السابق في الجزائر، كزافييه دريانكور، فإنه بالرغم من وجود مصالح اقتصادية فرنسية كبرى في المغرب والزيارات العديدة التي قام بها مسؤولون فرنسيون إلى هذا البلد في الأشهر الأخيرة، "فإن هذا لا يعني أن باريس ستضع كل بيضها في السلة المغربية، لأن ذلك سيؤدي إلى لتدمير العلاقات مع الجزائر".
الدبلوماسي الفرنسي المتقاعد قال في مقابلة أذيعت على الموقع الإلكتروني لصحيفة "Le figaro" الفرنسية بشأن توازن سياسة فرنسا مع المغرب والجزائر: "إن علاقات بلادنا مع هذين البلدين تتجاوز البعد الاقتصادي، ورغم أن فرنسا لديها استثمارات كبيرة في المغرب، إلا أن هناك أيضاً مسألة الأمن في البحر الأبيض المتوسط وحتى الأمن داخل الأراضي الفرنسية، بالإضافة إلى قضية الهجرة وملف الذاكرة بالنسبة للجزائر".
مصالح خاصة تُحرك فرنسا
خلف الصورة الوردية التي تحاول باريس تسويقها بشأن سياسة فرنسا مع المغرب والجزائر، هناك مصالح خاصة تُحرك باريس مرتبطة أساساً بالجانب الاقتصادي وكيف يمكن للشركات الفرنسية أن تستفيد من البلدين دون أن تخسر أحدهما.
فحتى عندما يتعلق بملف الصحراء الأهم بالنسبة للمغرب، فإن الهاجس الذي يحرك "دعم باريس للطرح المغربي" هو اقتصادي بالدرجة الأولى، وخير مثال على ذلك عندما أعراب وزير المالية الفرنسي عن استعداد فرنسا للمشاركة في تمويل خط كهرباء يربط مدينة الدار البيضاء المغربية ببلدة الداخلة في الصحراء الغربية.
بالنسبة للخبير المغربي في العلاقات الدولية، أحمد نور الدين، فإن هذا منهج كل دول العالم في علاقاتها الخارجية، وفقاً للمقولة الشهيرة "أمريكا ليس لها أعداء دائمون، ولا أصدقاء دائمون، ولكن لديها مصالح دائمة".
كما أضاف نور الدين أن ما يهم المغرب هو أن تُحترم مصالحه في هذه العلاقة الثنائية، وفقاً لمبدأ رابح-رابح، لذلك أعلن العاهل المغربي بكل شفافية في خطاب رسمي، أن "الصحراء المغربية" هي المنظار الذي تنظر به المملكة إلى علاقاتها مع دول العالم.
ولا يختلف الوضع بالنسبة للجزائر، فرغم توتر العلاقات مع باريس فإن صادرات الطاقة الجزائرية ارتفعت بشكل ملفت خلال عام 2023، وفق ما كشفته أرقام رسمية.
بحسب تقرير للجمارك الفرنسية، فإن قيمة الصادرات الجزائرية من المحروقات إلى فرنسا بلغت في الأشهر الستة الأولى من 2023 ما قيمته 2.9 مليار يورو (3.1 مليار دولار)، ويعادل ذلك نمواً يقدر بنحو 35.1 المائة، بالمقارنة مع المدة نفسها من العام الماضي 2022.
ورغم ذلك، قال الخبير في الشؤون السياسية والاستراتيجية، الجزائري أحمد ميزاب، إن فرنسا ترى في الجزائر على أنه بلد استراتيجي ومحوري وليس فقط كبلد لديه ثروات وشراكات اقتصادية، "لهذا فهي تحاول أن لا تقطع العلاقات مع الجزائر، وفي نفس الوقت تناور على مستويات معينة باعتبارها تبحث على استعادة المصالح التي فقدتها خلال السنوات الأخيرة".
"نفاق سياسي" تُبرره العلاقات الدولية
كما يلفت ميزاب الانتباه، في تصريحه لـ"عربي بوست"، إلى أن باريس تبني علاقاتها الخارجية وفق قاعدة النفاق السياسي بغرض إحراز مكاسب تخدم مصالحها الخاصة التي ترغب في تحصيلها من أي بلد كان وهذا وفق سياسة رابح-خاسر.
وذكر الخبير الجزائري أن طريقة باريس في تسيير علاقاتها الخارجية يمكن وضعها في خانة "سياسة دولة" لأجل الحصول على مكاسب أو إحراز خطوات نحو الأمام على حساب الدول الأخرى.
ويوضح أن الجزائر لا تقبل هذه النظرة الفرنسية في العلاقات الثنائية ولا ترغب إطلاقاً في بناء علاقات من منطلق غير متكافئ، وهذا ما لا يرضي الجانب الفرنسي الذي تعود على الأخذ دون أن يقدم شيئاً وتعود كذلك أن ينظر للآخرين بمنطق تجاوزه الزمن.
فيما يعتبر نور الدين أنه في علاقات المغرب الخارجية مع أي دولة في العالم، لا يهم النفاق أو عدم النفاق، ما يهم هو أن نعرف نحن كمغاربة ماذا نريد من علاقاتنا بتلك الدولة أكانت فرنسا أم غيرها؟ وما هي المصالح والأهداف التي نسعى إلى تحقيقها مع تلك الدولة؟ وكيف ومتى وبأي طريقة نُحققها؟.
بينما تسعى فرنسا لأكبر قدر من المكاسب في علاقتها مع الرباط والجزائر، يرى مركز "GIS" للدراسات الاستراتيجية أن القادة الفرنسيين "مترددون في اتخاذ خيار نهائي بين المغرب والجزائر، لأن القيام بذلك قد يعطل التوازن المعقد الذي يسعون جاهدين للحفاظ عليه".