استطاع الباحث في الدراسات الإسلامية ومستشار وزير العدل المغربي عبد الوهاب الرفيقي، أن يخلق نقاشاً في تلك الفترة في المغرب بالتزامن مع التعديلات المنتظرة في مدونة الأسرة (قانون الأسرة).
واختار عبد الوهاب الرفيقي، الشهير بلقب "أبو حفص" أن يُدافع عن تيار الاجتهاد لإقرار بعض التغييرات في القانون المنظم للأسرة المغربية، أبرزها دفاعه عن تغيير بعض قوانين الإرث لصالح المرأة.
وفي حوار خاص مع "عربي بوست"، قال المستشار والباحث في الدراسات الإسلامية إن زمن توريث العم وأبناء العم مع بنات الميت قد ولّى، فلا أحد ينفق على أحد في هذا الزمان.
واعتبر عبد الوهاب الرفيقي أن تعديلات مدونة الأسرة ستكون مهمة، وخضعت لنقاشات من جميع أطراف المجتمع بجميع أيديولوجياته، قبل رفعها للملك للنظر الأخير فيها.
أما بخصوص ردود الفعل التي أثارها وزير الأوقاف بخصوص الربا، قال الرفيقي في حواره مع "عربي بوست" إنه يوافق وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية الرأي، الذي يرى أن الفوائد البنكية ليست هي الربا المحرّم في القرآن.
وبيّن الرفيقي في الحوار، أن هذه الحملات التي وجه بها الوزير بعد إلقائه درساً رمضانياً هي نوع من الخوف على الإفشال التام لمشاريع البنوك الإسلامية في المغرب، التي تُعتبر مشروعاً فاشلاً، وتستغل الناس أكثر من البنوك التقليدية.
وجاء في كلام مستشار وزير العدل أن القانون في كل المجالات هو رافعة أساسية لتغيير المجتمع، وبالتالي حتى الإشكالات التي يتحدث عنها الكثير، والتي يعتبرونها أولوية في قضية التعامل مع المرأة، أحد المداخل لحلها برأيي هو تعديل القوانين المتعلقة بالأسرة وبتوزيع التركات.
إليكم تفاصيل حوار عبد الوهاب الرفيقي كاملاً:
الدرس الافتتاحي من سلسلة الدروس الحسنية لوزير الأوقاف أحمد التوفيق أثارت جدلاً واسعاً بعدما أثار موضوع الربا والفوائد البنكية. هل اتجه الوزير فعلاً إلى تحليل الحرام عندما أعلن أن تحريم الفوائد البنكية على القروض يسبب حرجاً للمسلمين ويضيق عليهم؟
لا أعتقد، ولا أؤمن أن وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية قد اتجه نحو تحليل الحرام خلال الدرس الحسني الأول، بحكم موقعه كوزير للأوقاف وكعضو للمجلس العلمي الأعلى، ثم إن الدرس تم بحضرة أمير المؤمنين، ومن المعلوم أن مؤسسة إمارة المؤمنين حريصة كل الحرص في هذا الباب، بحكم أن إحدى وظائفها الأساسية هي حماية الدين.
وبالتالي فتحليل الحرام هو أمر مستبعد جداً، وكل ما في الأمر أن وزير الأوقاف استنكر على بعض الدعاة والشيوخ والتيارات الإسلامية التحريج والتضييق على المسلمين، حين منعهم من الاقتراض من البنوك، بحجة أن الفائدة البنكية هي نوع من الربا.
والذي ذهب إليه وزير الأوقاف، وهو ما أتمناه شخصياً، هو ليس تحليل الربا، إذ إن تحريمه جاء بنصوص قطعية، ليس في القرآن فقط، بل في كل الشرائع السماوية، وإنما الحديث هنا عما يسميه الأصوليون بتحقيق المناط، وهو التحقق مما إن كانت هذه الفائدة البنكية التي يقدمها البنك هي من الربا الذي تحدث عنه القرآن.
وإذا عدنا إلى النصوص الدينية وسياقاتها وأسباب ورودها ونزولها، فسنجد أن الربا الذي تحدث عنه القرآن يختلف في كثير من صوره عن الفوائد البنكية المتعامل بها اليوم، وهذا هو عين الخلاف بين المجيزين والمانعين لهذه المعاملات البنكية.
فهل علة الربا الذي نزل به القرآن متحققة أيضاً في هذه المعاملات؟ أم أننا نتحدث عن واقع مختلف وسياق مختلف ومعاملات مختلفة كل الاختلاف عن المعاملات الربوية التي نزل القرآن بتحريمها؟
لكن هناك من يقول إن هذا الربا، الذي أفتى به الراحل يوسف القرضاوي من المغرب حيث كان يتواجد حينها في عطلة، لأصحاب الضرورات في ديار الغرب، بإباحة اللجوء إليه لغياب بديل "إسلامي"، دفع المجلس العلمي الأعلى على عجل آنذاك إلى إصدار فتوى مضادة!
ماذا تغيّر اليوم لكي يطرح هذا الموضوع من وزير الأوقاف نفسه؟
لا يمكنني معرفة الدوافع التي جعلت وزير الأوقاف يطرح هذا الموضوع في هذا الوقت بالذات، لكنني أعلم في إطار انفتاح الدولة على الاجتهاد الفقهي في عدد من القضايا بواقع الناس وبحياتهم وبإشكالاتهم المجتمعية طُرح هذا الموضوع.
ووزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، أحمد التوفيق، ليس أول من اعتبر أن القروض البنكية أو المعاملات البنكية هي ليست من الربا المُحرم قرآنياً، بل سبقه إلى ذلك عدد من الفقهاء والمفتين والباحثين سواء في مصر أو في غيرها من الدول، ولم يكن الأمر فقط في الآونة المعاصرة.
لدينا عدد من الكتابات التي يتجاوز عمرها قرناً كاملاً، والتي تحدثت عن هذا الموضوع، والتي رأت أن هذه المعاملات البنكية خارجة عن مفهوم الربا، ومن أشهر هؤلاء محمد عبده مثلاً في مصر، الذي كان يرى أن هذه الفوائد لا تعتبر ربوية، وأن النقود الورقية لا يجري فيها الربا.
حتى في المغرب لدينا عدد من الفقهاء الذين كانوا يدافعون عن حِلّ هذه المعاملات البنكية، كشيخ الإسلام بن العربي العلوي، الذي كان لا يرى مانعاً من التعامل مع البنوك، ولا يجعلها في خانة المحرم.
فالنقاش هو قديم جديد، وأعتقد أنه في سياسة الدولة للانفتاح على عدد من الاجتهادات الفقهية، سواء فيما يتعلق بالمعاملات التجارية، أو فيما يتعلق بقوانين الأسرة وغيرها…
هناك توجه نحو اعتماد هذه الآلية لحل كثير من المشاكل، وعدم التضييق على المسلمين كما قال الوزير، بحكم أن تيارات الإسلام السياسي بالخصوص هي من روجت بشكل كبير جداً لهذه الحرمة، في إطار طرحها لمشاريع أخرى بديلة، يُعتقد أنها ليست ربوية، وأنها متوافقة مع المنهج الإسلامي.
المعروف أن الدرس الافتتاحي الذي يلقيه وزير الأوقاف في كل سنة، ويمهد به للدروس اللاحقة، يكون نوعاً ما خارطة طريق في المجال الديني للمملكة. هل تعتقد أن المجلس العلمي الأعلى سيضطر، ولو بعد حين، إلى إصدار فتوى أخرى بحلية بعض أنواع المعاملات البنكية كما يظهر من درس الوزير؟
لا أعتقد أن القضية هي من باب الاضطرار، وإنما هي صيرورة مجتمعية تفرض على المؤسسات الدينية، وعلى رأسها المجلس العلمي الأعلى، التفاعل مع الموضوع، حتى ولو سبق له أن أفتى بحرمة هذه المعاملات. فمن حقه، بل من واجبه التفاعل من جديد حول الموضوع وإعادة النظر، لأن الفتاوى ليست أمراً مقدساً وليست أمراً غير قابل للتغيير.
قد يكون لدى المجلس من المعطيات في زمن ما، وفي وقت ما، ما ليس له في زمن آخر. وحتى تركيبة المجلس ليست ثابتة، ولذلك أي مؤسسة دينية قد تكون في وقت ما يسيطر عليها بعض المحافظين، الذين لهم رؤية معينة وتصور معين للموضوع، ثم قد تتغير هذه التركيبة إلى أخرى منفتحة على أقوال أخرى واجتهادات أخرى.
أمام الإشكالات المطروحة في الواقع اليوم، ورغبة الكثير من أفراد المجتمع في البحث عن حلول لمشاكلهم الاقتصادية والاجتماعية عن طريق البنوك، فمن الطبيعي جداً أن تعيد المؤسسة الدينية نظرها في الموضوع.
لا أستطيع أن أجزم بأن المجلس العلمي الأعلى قد يضطر قريباً أو بعيداً إلى إصدار فتوى أخرى، ولكنني شخصياً أطالب هذه المؤسسات الدينية بما لها من قوة وتأثير على المجتمع في رأيها الديني، وبحكم أنها هي المخولة قانونياً بالتفاعل مع هذه الإشكالات، أطالبها وأدعوها إلى إعادة دراسة هذا الموضوع، كما وقع في قوانين أخرى.
المؤسسات الدينية في المغرب كانت لها تصورات معينة في الأسرة مثلاً، لكن حين احتاجها المجتمع لأن تعيد النظر قبيل إصدار مدونة الأسرة في 2004، فعلت ذلك، وأعادت النظر في كثير من المواضيع، وانتهت إلى آراء مخالفة لآرائها السابقة.
لا أرى أي نوع من الاضطرار أو التسييس، بقدر ما أرى أنها مسؤولية لأي مؤسسة دينية تتفاعل مع ما يحدث حولها، وقد تغير رأيها ومنظورها تبعاً للمعطيات الجديدة التي بين أيديها، وحتى تبعاً للتطور المعرفي الذي يعرفه العالم، ويعرفه الحقل الديني أيضاً، وهو أمر محمود يحسب لهذه المؤسسة الدينية؛ كونها مُتفاعلة وغير جامدة على أقوال ثابتة.
هل يمكن أن نقرأ في هذا الطرح الذي جاء به وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق، فشلاً لجميع مشاريع المعاملات "الإسلامية" التي تجري على مستوى البنوك التشاركية في المملكة، أو إفشالها في المستقبل، وهو ما أثار حفيظة المستفيدين؟
وإن كنت لا أرى أن ما ذكره وزير الأوقاف في درسه مرتبط بعملية فشل، أو إفشال، لما سمي بالبنوك التشاركية، أو ما يسميه أصحابها بالبنوك الإسلامية، لأن التجربة المغربية محدودة جداً، ليس كما هو الحال في المشرق مثلاً.
فكل هذه البنوك المسماة بالتشاركية هي جزء من البنوك التقليدية وفروع عنها ومعاملاتها محدودة، وأعتقد أنها لم تلاقِ ما كانت تترقبه من الإقبال بحكم أسعارها المرتفعة جداً، وبحكم أنه رغم أن كثيراً من الناس يعتقدون بحرمة معاملات البنوك التقليدية، إلا أنه في الواقع نجد أن أغلبية المجتمع تتعامل مع هذه البنوك.
ولذلك البنوك التشاركية تجربة فاشلة جداً، خصوصاً أنها لم تقدم بدائل حقيقية، بل فقط أدخلت بعض الشكليات البسيطة جداً على عقود البنوك التقليدية.
والبنك التشاركي شأنه شأن البنك التقليدي، والفارق الوحيد هو أن البنك التشاركي يقدم لك خدمة بزيادة تفوق بكثير الزيادات التي تفرضها البنوك التقليدية، وهي زيادة مقابل الاطمئنان وإراحة الضمير.
ومن ناحية أخرى أنا أتفق تماماً في أن هذه الحملات التي ووجِه بها الوزير التوفيق في هذا الدرس، هي نوع من الخوف على الإفشال التام لمشاريع البنوك التشاركية، لأن العامل الأساسي الذي تروج به لنفسها هو منطق أننا نحن نقرض بطريقة حلال، فيما المعاملات البنكية التقليدية تقرض الناس مع وقوع الإثم و"إعلان الحرب على الله ورسوله".
وفي هذا السياق أفهم كثيراً من الردود التي ووجه بها الوزير بعد درسه، وإن كنت لا أعتقد أنها جميعاً في هذا السياق، بحكم أن هناك أناساً لهم رأيهم الخاص في المعاملات البنكية التقليدية، ويعتبرونها من الربا، دون أن تكون لهم أي استفادة أو مصلحة من مثل هذا القول سوى أنهم يؤمنون به.
لكن أليس من حق البعض من هؤلاء، ممن نسبت إليهم حملات التهييج والتحريض ضد التوفيق، أن يناقشوا فعلاً رأي أحمد التوفيق (هذا إذا كان فعلاً رأياً وليس مشروعاً ومخططاً مستقبلياً) طبعاً بعيداً عن الاتهام والتهييج والتحريض؟
من حق الجميع أن يُناقش الوزير أو غيره في أي قضية من القضايا، خصوصاً حين يكون النقاش علمياً وهادئاً وبضوابطه وشروطه، مع مراعاة الأدب والاحترام. ولكن الواقع في غالبه ليس كذلك، بل هي حملات تحريض وتعبئة ضد الوزير، أو من يوافقه في قوله، تصل في بعض الأحيان إلى الرمي بالكفر، بحجة أنهم أحلوا ما حرم الله، وعارضوا قطعيات القرآن. هذا النقاش غير صحي وغير مقبول في أي حال من الأحوال.
النقاش حول البنوك ومعاملاتها ومدى حِلّها وحرمتها كما قلت هو نقاش قديم، وكُتبت فيه الأبحاث والدراسات العديدة من قبل الطرفين، إذ إنها مناقشة علمية أكاديمية محترمة جداً، ومن حق أي شخص أن يعبر عن معارضته أو مخالفته لمثل هذا التوجه إن كان لا يؤمن به ولا يعتقده.
ولكن الإشكال الكبير هو أن ما رأيناه بعد درس الوزير لم يكن نقاشاً ولم يكن تعبيراً عن رأي مخالف، وإنما كان حملات فيها كثير من التجييش، وفيها كثير من التعبئة، وفيها كثير من الاتهامات الخطيرة، وللأسف الشديد حتى بعض المنصات المحسوبة على الإعلام شاركت في هذا التحريض وهذه التعبئة.
موضوع آخر يثير الجدل واللغط في المغرب، ويرتبط بتعديل مدونة الأسرة، وانتشر في الأيام الأخيرة الحملة الرقمية "متقيسش عائلتي". هل هو تعبير عن تخوف مرة أخرى من تحليل ما حرم الله، خصوصاً أن رسالة العاهل المغربي في هذا الإطار تؤكد على أنه "لن يحل حراماً"؟
الحملات الموجودة اليوم أمام تعديل مدونة الأسرة ليست بشيء أمام الحملات التي كانت قبل مدونة 2004، وعرفت تجييشاً وتعبئة كبيرة جداً، وخرج الناس إلى الشوارع بمئات الآلاف، واعترضوا على مشروع التعديل، ومع ذلك ها نحن مع مدونة 2004، وقد تضمنت الكثير مما كان هؤلاء يعارضونها.
والغريب في الأمر أن التعديلات التي جاءت بها مدونة 2004، والتي كانت مرفوضة من طرف هؤلاء جميعاً، هي نفسها التعديلات والمواد التي يدافعون عنها اليوم، ويرون أن تعديلها هو من باب تحريم الحلال وتحليل الحرام.
أعتقد أن الأمر مختلف هذه المرة، بحكم أنه في المرة السابقة كان هناك حراك مجتمعي واستقطاب حاد داخل المجتمع، وصل لحد تنظيم مسيرتين في نفس اليوم، واحدة مؤيدة في الرباط، والثانية معارضة في الدار البيضاء، لكن هذا كان قبل التدخل الملكي.
ما نعرفه في مشروع تعديل مدونة الأسرة اليوم هو انطلاق الورش بالتدخل الملكي، والملك وضع لنفسه المنهجية المعتمدة في هذا التعديل، ووضع أيضاً لهذه التعديلات السقف الذي لا يمكنها أن تتجاوزه، وأشرك كل المؤسسات المعنية، سواء الدينية أو الحقوقية أو الوزارية أو القضائية، في وضع هذا المشروع والإعداد له، لتقديمه ليأخذ مساره القانوني العادي، شأنه شأن القوانين الأخرى.
وانطلاقاً من السقف الذي وضعه الملك بصفته أميراً للمؤمنين، بأن فيه نصوصاً قطعية من القرآن لا يمكن المساس بها، ولا تجاوزها، بأي حال من الأحوال. وما أفهمه من ذلك أن القصد وجود نص قرآني قطعي في ثبوته ودلالته، وليس فقط قطعياً في ثبوته كما يظن البعض.
لأن هناك قوانين معتمدة على نصوص قرآنية قطعية، لا شك في ثبوتها، ولكنها ليست قطعية في دلالتها على المراد، وهذه أيضاً يمكن إعادة النظر والاجتهاد فيها.
أستطيع أن أقول بكل اطمئنان إن مشروع تعديل مدونة الأسرة قد مرّ في أجواء جيدة ومثمرة جداً، وإن الحدود التي وضعتها الرسالة الملكية، والسقف الذي جعلته لا يمكن تجاوزه في أي حال من الأحوال، وأنا متفائل بأن هذه التعديلات ستحمل كثيراً من الخير للمجتمع، دون أن تتعارض بأي شكل من الأشكال مع الهوية التي يعتبر الإسلام جزءاً لا يتجزأ منها.
بعض المذكرات أثارت حفيظة المجلس العلمي الأعلى، إذ اعتبر عضو من المجلس، من باب التبرؤ، أنها تتضمن "مخالفات كثيرة". هل يعد هذا تحدياً "للاجتهاد" الذي ينادي به البعض، خصوصاً أن مؤسسة حقوقية دستورية لم تلتزم بمحددات الخطاب الملكي الذي أعلن فيه عن ورش التعديل؟
طبعاً تقصد مذكرة مؤسسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان. أولاً يجب التفريق بين عمل مؤسسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان كهيئة دستورية مستقلة، لها تصوراتها الخاصة، ولها اقتراحاتها الخاصة بخصوص تعديل مدونة الأسرة، وبين عملها كعضو داخل لجنة تعديل مدونة الأسرة.
فمؤسسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان لها الحق في أن تقدم ما شاءت من الاقتراحات، وأن تقدم ما شاءت من التصورات، حسب رؤيتها ونظرتها للقضايا المطروحة.
لكن في عملها داخل لجنة تعديل مدونة الأسرة هي مؤطرة بالرسالة الملكية الموجهة إلى لجنة تعديل مدونة الأسرة، وليست موجهة إلى الهيئات والمؤسسات والأحزاب والجمعيات المُقترِحة لتنضبط بها في مذكراتها.
من ناحية أخرى، أن كل هذا اللغط الذي رأيناه حول مذكرة المجلس الوطني لحقوق الإنسان، هو لغط غير بريء، لأنه من حزب سياسي يريد أن يتخذ من موضوع مدونة الأسرة شماعةً ليعلق عليها فشله الانتخابي من جهة، وليعود به إلى الواجهة من جهة أخرى، بعد النتائج الكارثية التي مُني بها خلال الانتخابات الأخيرة.
ولذلك أغلب ما دار من نقاش حول هذه المذكرة هو نقاش سياسي، وليس نقاشاً علمياً موضوعياً نزيهاً، لأنني اطلعت على هذه المذكرة ورأيت أنها في كل اقتراحاتها تحاول الانضباط بنفس ما جاءت به الرسالة الملكية، بالاعتماد على مقاصد الشريعة الإسلامية.
وقد جاء في ديباجة المذكرة أن مرجعية مقاصد الشريعة الإسلامية واحد من الأسس التي بُنيت عليها هذه الاقتراحات، وتحاول الانفتاح على عدد من الاجتهادات والقراءات المعاصرة للنصوص الدينية، ولا أعتبر بكل صدق وبكل موضوعية أن ما جاء فيها يتصادم مع الشريعة الإسلامية.
قد تتفق أو قد تختلف معها في بعض القضايا، لكن هناك احترام تام لعملية الملاءمة بين الشريعة الإسلامية وبين القيم الكونية والحقوقية، التي تدافع عنها وتتبناها المؤسسة، وهذا عين ما جاءت به الرسالة الملكية والخطاب الملكي، وجاءت به الرسالة الملكية الموجهة إلى المؤتمرات المعنية بحقوق الإنسان، والتي أكدت على ضرورة الاجتهاد لتحقيق هذه الملاءمة والموافقة بين القيم الكونية والمواثيق والاتفاقات الدولية التي وقع عليها المغرب، وبين المرجعية الفقهية والدينية.
هناك من ينادي بإلغاء التعصيب في الإرث. هل تتفق أنه مشكلة حقيقية ويحتاج إلى تعديل شامل؟
منذ زمن بعيد وأنا من المطالبين بشدة، والملحّين على ضرورة إلغاء التعصيب، بل كنت قبل سنوات من الذين أشرفوا على عريضة من أجل إلغاء التعصيب، ووقّعها عدد من الوزراء ورؤساء الأحزاب، وعدد من الشخصيات الثقافية والفكرية والسياسية البارزة في المجتمع، لأنني أؤمن بأن التعصيب في الإرث هو ظلم وإجحاف كبير جداً للمرأة المغربية.
هناك عدد من المعطيات التي تدفعني لتبني هذا الرأي؛ منها أن التعصيب ليس فيه أي نص قرآني صريح، وإنما هو اجتهاد فقهي مرتبط بسياقاته التاريخية والثقافية القائمة على توزيع الأموال داخل نظام قبلي وعشائري، يحتل فيه هؤلاء العصبة مكانةً متميزةً، ويعتبرون ضمن الأسرة الممتدة، ويتحملون فيه عدداً من المسؤوليات: كالإنفاق والحماية والرعاية، وبالتالي كان من الطبيعي جداً أن يكون لهم نصيب من التركة والإرث.
أما اليوم فالواقع قد تغير، وتحول الأمر من أسر ممتدة إلى أسر قائمة على الأب والأم والأبناء، ولم يعد للعم أو أبناء الأعمام أو الإخوة أي دور في رعاية تلك الأسرة، ولا يُلزمون بالإنفاق عليها بأي حال من الأحوال.
فليس من العدل في شيء، أو من مقاصد الشريعة، أن نعطيهم نصيباً من ثروة لا يتحملون أي مسؤولية فيها، ولا تُرتب عليهم أي مسؤولية بعد وفاة رب الأسرة.
لذلك أمام عدد من المشاكل التي نعيشها يومياً، والتي تتعرض فيها الزوجة وبناتها للتشريد والإخراج من المسكن، بحكم أن الأعمام أو أبناء الأعمام يريدون تقسيم التركة، أرى ضرورة إعادة النظر في هذا الموضوع، خاصةً أننا نرى أن كثيراً من الآباء الذين لم يُرزقوا إلا بالبنات يلجأون إلى عدد من الخيارات البديلة، وعدد من الحيل، خوفاً من انتقال ثروتهم بعد وفاتهم إلى إخوتهم وحرمان بناتهم من كل التركة.
البعض يرى أن كل مطالب التعديل هي خطابات لا تركز بشكل أساسي على المشاكل الحقيقية التي تعاني منها المرأة والأسرة في الواقع. ما تعليقكم على ذلك؟
لا أتفق طبعاً. وأعتقد أن القانون في كل المجالات هو رافعة أساسية لتغيير المجتمع، وبالتالي حتى الإشكالات التي يتحدث عنها الكثير، والتي يعتبرونها أولوية في قضية التعامل مع المرأة، أحد المداخل لحلها برأيي هو تعديل القوانين المتعلقة بالأسرة وبتوزيع التركات، لأن من شأن ذلك دعم هذه المرأة اقتصادياً، وتنمية مداخيلها بما يحقق لها الاستقلالية، وبما يجعلها عنصراً فاعلاً ومعطاءً داخل المجتمع.
مؤكد أن هناك قضايا أخرى متعلقة بالمرأة، تنموية واجتماعية واقتصادية وسياسية، يجب أيضاً الوقوف عندها، ويجب إصلاح الخلل بها، لكن ليس معنى ذلك أن نوقف أي تطوير للقوانين في انتظار حل تلك الإشكاليات.
بل يجب العمل على كل هذه المحاور بشكل متوازن، بما فيه مصلحة المرأة، ثم حين نتحدث عن القانون والقضاء والعدالة فنحن نتحدث عن ظلم، والظلم يجب رفعه ابتداءً، بل هو أولى الأولويات بالنسبة للمواطن، وأن يرى تحقّق العدالة وعدم ضياع أي حق من حقوقه.